إرادة التغيير «١»
قل ما شئت عن معجزات الخلق الإلهي لهذا الكون العظيم بمن فيه وما فيه، فكل ما يصادفك في رحابه الواسعة، من أصغر كائناته إلى أكبرها — إذا كان في وسعك أن تقف عند شيء منه قائلًا هذا هو أصغرها، وعند كائن آخر قائلًا: وهذا هو أكبرها؛ لأن وراء ما تراه اليوم أصغرها ما هو أصغر منه ينكشف لك غدًا، وفوق ما تظنه اليوم أكبرها، ما تعلم غدًا أنه أكبر منه — أقول: إن كل ما عساك مصادفته في هذا الكون الواسع جدير بأن يستوقف النظر بما قد انطوى عليه من إعجاز الخلق، وحسبك من هذا الإعجاز ما قد ينكشف للإنسان الباحث سره، وهو سر يتجلى في «القوانين» التي تضبط سيره، بدءًا مما هو دون الذرة من جزئياتها فصاعدًا إلى المجرات، كل صغيرة في هذا الكون اللامحدود وكل كبيرة محكوم بقانون أو بمجموعة قوانين، يكشف العلم ما يكشفه، وبمقدار ما يكشف يزداد إدراكًا لعظمة الخالق عز وجل، ومع ذلك الإعجاز المتجلي في كل كائن على حدة وقد انتظمته قوانينه حتى لا يكون الأمر في وجوده فوضى فإن «الحياة» مُتبدِّية في الكائنات الحية، من أصغر نبتة تنبت من الأرض فصعودًا حتى يبلغ الصاعد ذروة «الحياة» متمثلة في الإنسان الذي أراد له ربه بين سائر الأحياء تكريمًا؛ ففي الإنسان كل ما في الحياة النباتية والحيوانية من أصول حيوية، ثم أُضيف إليها قدرات أخرى، كل قدرة منها يبعث إعجاز خلقها على الذهول، عند من يتدبرها مليًّا ليتأمل روائعها في روية وعلى مهل، وإن هذا الكاتب ليتخير في لحظته هذه إحدى تلك القدرات المعجزات، راجيًا قارئه أن يشاركه الوقفة المتأملة فيما اختار، وأعني قدرة الإنسان على «التذكر»، ففي وعاء ذاكرته، ويا له من وعاءٍ اللهُ أعلم بحقيقته! ملايين الملايين من مخزونات المكان والزمان وما قد وقع فيهما من أحداث، منها ما هو مرئي، ومنها ما هو مسموع، ومنها كل ما يخطر ببالك من تفصيلات الحياة كما تقع للأحياء؟ وإذا شئت فاجلس مع نفسك جلسة سارحة، تاركًا زمامها إلى أحلام يقظة تتداعى لك فيها قطوف ولمحات من ماضيك، وتأمل عندئذ ذلك السيل الدافق من مشاهد ولقاءات وأحاديث وضحكات وصرخات ودموع تأتيك من مخزون الذاكرة، وكأنها شوارد الإبل في فلاة، فأخذت «الذاكرة» المعجزة العجيبة تنشط لتجمعها لك من هناك ومن هنا لا تدري أنت كيف جاءت بها من أطرافها المتباعدة مكانًا وزمانًا، ولا لماذا اختارت تلك الشوارد المتباعدة في حدوثها، لتسلكها لك الآن في عقد منضود يقدمها إلى بصيرتك صورة في إثر صورة، وربما ظننت أنها قد تتابعت دون أن تكون بين سابقة منها ولاحقة تلك الرابطة السببية التي تشير إلى نظام يضمها معًا في سلسلة متعاقبة الحلقات، إلى أن تعلم شيئًا عن «القوانين» العلمية التي استنبطها علماء النفس من دراستهم لأحلام اليقظة وأحلام النوم.
ذاكرة الإنسان كنز نفيس يحمله ولا يدري أين حمله، فهي في جوف صاحبها بمنزلة عالم بأسره فيه أرجاء المكان وآناء الزمان، وفيه أفراد من البشر وجماعات، وفيه أحداث تعلو في بعضها حظوظ فيكون النعيم والضحك، وتهبط في بعضها حظوظ فيكون الشقاء والبكاء، إنه هو العالم كما خبره الذاكر، طواه في ذاكرته طي الحريص على نفائسه يودعها الخزائن الآمنة كي لا يضيع منها مثقال خردلة، لا بل إن صور الحياة التي عاشها صاحب الذاكرة بالطريقة التي حفظت بها وبالطريقة التي يسترجع بها ما يسترجعه الذاكر من أحداث ماضية، لهي أكثر نفعًا وأشد حيوية من الحياة الحقيقية التي خاضها صاحب الذاكرة؛ لأن الصور المكنونة في خزائن الذاكرة لا تتقيد بترتيب زمني مفروض عليها، ففي مقدورها أن تعيد ترتيب مراحل العمر، فتأتيك في سرحة واحدة من سرحات أحلامك بصورة من أمسك القريب لتأتيك بعدها بصورة من أمسك البعيد، فللصور في ترتيب الذاكرة منطق خاص ليس هو منطق الحياة كما وقعت، وقد يضيف الخيال إليها إضافات من عنده ليصلح بها ما كانت قد أفسدته وقائع الحياة الحقيقية كما وقعت بالفعل، فمثلًا ربما لقيت إهانة من سليط ذات يوم، وجمد لسانك وقتئذ فلم ترد الإهانة بما تستحقه، فتعود إليه الصورة في أحلام يقظتك أو «أحلام نومك» بعد عشران من السنين، فها هنا يتقدم الخيال برد مناسب يقحمه إقحامًا في موضعه المناسب من حلقات الصور المتتابعة.
بمثل هذه الذاكرة في حيويتها وإبداعها راح صاحبنا يستعيد شيئًا من حياته الفكرية خلال تلك الحقبة من سِنِّه، وأعني تلك الفترة التي استدارت بها عقود السنين، خروجًا من الأربعينيات ودخولًا في الخمسينيات، فيذكر فيما يذكره تلك الساعة التي استثيرت فيها ليكتب كذا أو ليكتب كيت، فالعاطفة تثيرها مشاهد الحياة البائسة اليائسة، والعقل يرتب الصورة التي يصورها القلم، وما أكثر ما رسم صاحبنا بقلم الأديب — وليس بقلم العالم في تلك الحالات — وما قد انفعل به من مشاهد الحياة عندئذ، ولم يعد بنا حاجة إلى أن نعيد على القارئ ما قد أسلفناه له في بعض هذه الأحاديث، عما يميز المقالة «الأدبيَّة» مما سواها من فنون «المقالة»، وكانت لصاحبنا قدرة موهوبة بشكر الخالق الوهاب جلت قدرته، وأعني طريقته في صياغة المقالة «الأدبيَّة» إذا ما أرادها في موقف معين، يكفينا تذكير للقارئ أن نذكره هنا بأن المقالة «الأدبيَّة» هي كأي فرع من فروع الفن صورة تُقام على «شكل» بحيث يصل المعنى المقصود إلى المتلقي بطريق غير مباشر، وفي تلك المرحلة من عمره، أكثر صاحبنا من تلك الصياغة الفنية ليعرض بها ما أراد عرضه على قرائه، وعلى سبيل التلخيص الموجز السريع نذكر أمثلة ترد الآن من تلقاء نفسها على سن القلم: فمقالة كان عنوانها «عند سفح الجبل» وفيها أنه سمع عن جماعة شأنها عجب تسكن على قمة الجبل فصعد إلى القمة ليرى ويسمع، وإذا هي منطقة سكنية غاية في الأناقة والنظافة والثراء والجمال، وشوارعها كالخالية، وسأل: أين سكان هذا المكان؟ فقيل له إنهم مجتمعون في قاعة المداولة يبحثون في دستور يريدون «للشعب»، وذهب صاحبنا إلى حيث يجتمعون فلم يجرؤ على الدخول، لكنه وقف مترددًا عند الباب المغلق وهو باب ينفتح وينغلق كلما جاء عضو أو خرج عضو، وعند كل انفتاحة للباب يُتاح لصاحبنا أن يسمع صياح المتحدثين، فلا يسمع إلا كلمة «الشعب» حتى لقد سمعها مئات المرات، ثم هبط من قمة الجبل ليجد عند السفح امرأة حطمتها السنون، ولا بد أن يكون مع تلك السنين عوز ومرض وكدح وعناء، جلست المرأة متربعة على الأرض، وفرشت أمامها رقعة من الخيش رصت عليها قطعًا من الحلوى، وكلما مر بها إنسان قالت بصوتها المتقطع البطيء وهي تنش بذراعها الذباب عن حلواها: «حلاوة يا زباين.» فوقف صاحبنا سائلًا: بكم تبيعين يا أمي كل هذه الحلوى؟ فأجابت دهشة: كلها؟ كلها؟ إنها بقرشين، فأخرج صاحبنا القرشين ولف قطع الحلوى في صحيفة كانت في يده، أما أين ذهب بها فيترك للقارئ أن يكمل لنفسه الجواب، وكانت تلك المرأة هي «الشعب» الذي من أجله اختلف السادة على قمة الجبل، أيستعيرون له الدستور من فرنسا؟ من بلجيكا؟ من واق الواق؟ وكانت المسكينة بأمس حاجة إلى حياة ترعاها في شيخوختها المحطمة المريضة.
وفي مقالة أخرى عنوانها «عروس المولد» صورة لغلام وقف في برد الشتاء، حافي القدمين، وكانتا قدمين تشقق منهما الجلد حتى لقد كان الغلام يرتكز على يمناهما حينًا، وعلى يسراهما حينًا، ليريح القدم المرفوعة من حصوات الأرض، أقول: وقف ذلك الغلام قبالة بائع حلوى المولد، مركزًا بصره في عروس بعينها، رآها مزدانة ببريقها مسيلة للعابه بحلاوتها، وبينما هو يميل برأسه نحو كتفه في حلم المتيم المشتاق، إذا بكف غليظة تهوى على قفاه فتوقعه صارخًا، وينظر ليرى الشرطي فيفزع … إلخ، وفي ذلك الشرطي تتجسد الدولة الراعية للشعب الباحثة له فوق قمة الجبل على دستور مستورد من «بلاد بره» ملفوف في ورق السلوفان أو في كساء من حرير.
ومن هذا الطراز أخذ صاحبنا يكتب مقالاته الأدبيَّة عشرات منها تلو عشرات، ثم فُوجئ صباح يوم صائف، هو الثالث والعشرون من شهر يوليو سنة ١٩٥٢، بمتحدث في الإذاعة يذيع نبأ الضباط الأحرار، وما هي إلا أيام قلائل حتى دوت أرضنا وسماؤنا بما يعلن عن ثورة لإقامة «عدالة اجتماعية»، وها هنا تطابق الصوت مع الصدى، وجاء الواقع محققًا للحلم، نعم، إنها «عدالة اجتماعية» ما يريده الشعب، وسرعان ما أخذت بشائر إنصاف الجماهير يُعلن عنها واحدة في إثر واحدة، وكانت فاتحة التَّغيير إعادة النظر في ملكية الأرض الزراعية، ولم تمضِ بضعة أشهر حتى أُنشئت وزارة جديدة أسموها وزارة الإرشاد القومي (أو ما فيه هذا المعنى) وهي التي تطورت لتصبح فيما بعد «وزارة الثَّقَافة»، وخُوطب صاحبنا يوم إنشائها ليضيف إلى عمله الجامعي منصبًا قياديًّا في تلك الوزارة الناشئة، فظنها فرصة سنحت، تمكنه من أن ينقل بعض رؤاه فيما يتصل بتكوين المواطن المصري ثقافيًّا بحيث يتلاءم مع مقتضيات ينقلها إلى عالم التطبيق، لكنه سرعان ما تبين له أنه يحلم في وادٍ، وأما واقع الحياة في تيارها الجاري ففي وادٍ آخر، لقد حسب أخونا أن عبارة «الإرشاد القومي» يُراد بها رسم خطة جديدة لمستقبل الثَّقَافة في تفاوت مستوياتها، وإذا بالمقصود هو المشاركة في ترتيب «الدعاية» وتوجيهها في سبيل التبشير بالثورة وأهدافها، وإنها لثورة، وإنها لأهداف، جاءت حقًّا معبرة أصدق تعبير عما كان يضطرب في صدورنا جميعًا، لكن «الدعاية» لها بتلك الصورة المباشرة المطلوبة، هي آخر ما كان يستطيعه صاحبنا، فللدعاية بمعناها المعروف قدرات وشخصيات ليست هي، ولم تكن قط في يوم، قدرات صاحبنا وشخصيته، فهو دارس مدقق في المعاني، خجول، منطوٍ، وهي — أي الدعاية — تريد من يأخذ المعاني على إجمال ظاهرها، كما تريد الجريء الذي لا يبالي مواجهة الجمهور، فلم يكن بُد أمام تلك الزاوية المنفرجة — بين المطلوب من جهة والمستطاع من جهة أخرى — إلا أن يكر راجعًا إلى محرابه.
وأما هدف الثورة في تحقيق العدالة الاجتماعيَّة فقد ظل هو هدفه؛ لأنه — كما تبين من الأمثلة التي سقناها مما كان يكتبه قبل إعلان الثورة — لم تكن تهدأ له نفس أو يسكن في يده قلم، إزاء المفارقات البشعة التي يراها بين إنسان وإنسان من أبناء الوطن الواحد، ولعل أبشع ما أثاره من تلك المفارقات، أن حملة الأقلام الذين طفقوا يحاربون بسنان أقلامهم في سبيل حقوق الإنسان لمجرد كونه إنسانًا، كانوا هم أنفسهم إذا ما وصل أحدهم إلى مقاعد السلطة، تعلق قلبه بهيلمان السلطان، ولم يكن يرضيه أن تنمحي المسافة بينه وبين سائر عباد الله، لكن الذي لم يفهمه، صاحبنا، وهو إلى يوم النَّاس هذا لا يفهمه، أن يتساوى النظر فيما له صلة بالعدالة الاجتماعيَّة، بين أمور «الثَّقَافة» وأمور غيرها من ميادين الاقتصاد والسياسة وغيرهما من جوانب الحياة الجديدة، فقد كان من العدل الاجتماعي حقًّا أن تُؤخذ أرض زراعية من كبار مُلاكها، لتوزع ملكيات صغيرة على الزارعين، وقد كان من العدل الاجتماعي حقًّا، أن تُفتح أبواب التعليم أمام القادرين من الناحية العقلية على مواصلة الدراسة في مراحلها جميعًا، بلا تفرقة بين غني وفقير، ومن ثم وجبت مجانية التعليم، وهكذا قل في كثير من أوجه الحياة الاجتماعيَّة، أما أن يُنظر بالنظرة نفسها إلى مجال «الثَّقَافة» فذلك ما تعذر فهمه على صاحبنا، حين خُيِّلَ إليه أن أولي الأمر يستهدفون الحد من فرص الثَّقَافة الرفيعة، التي هي دائمًا ثقافة الصفوة العقلية والذوقية، وهي صفوة لا تُصْطَفى على أسس المال والجاه والنسب، بل تقوم على أساس المواهب الفطرية، أقول: إن صاحبنا قد خُيِّلَ إليه أن الميل متجه نحو الحد من فرص الثَّقَافة لحساب ما أسموه بثقافة الجماهير، كأنما الأمر في هذا هو أمرُ إما أولئك وإما هؤلاء، كما هي الحال في ملكية الأرض الزراعية، وواقع الحقيقة في موضوع «الثَّقَافة» هو أنها كالجبل لا يصير جبلًا إلا إذا كانت له ذروة وسفوح، ولا سبيل إلى تثقيف السفوح إلا عن طريق الذروة، فهذه الذروة العُليا تعطي من يليها وهؤلاء أو من يليهم هم الذين يتولون تثقيف السفوح بما يكتبون وما يذيعون، وليس في هذا القول ذرة من استعلاء أو غرور، بل هو وصف أمين لما يقع فعلًا في واقع الحياة السوية، فقد نزل القرآن الكريم للمسلمين جميعًا، ومع ذلك فلا بد لجماهير المسلمين أن يستمعوا إلى علماء الذروة وفقهائها: على أي نحو تُفهم آيات الكتاب الكريم، وماذا يمكن استنباطه من أحكام الشريعة، استدلالًا من تلك الآيات الكريمة؟ ولا يسوغ العاقل أن تُحَدَّ فرصة العلم والفقه، لحساب التوسع في خدمة الجماهير، وعلى غرار ما يكون إسلام الجماهير هو من جنس إسلام العلماء والفقهاء، وإن اختلفت الدرجة بينهما ارتفاعًا وانخفاضًا في إدراك المعاني والأحكام، كذلك يكون الشأن بين صفوة الثَّقَافة الرفيعة وثقافة الجماهير، بحيث يكون الهدف الأسمى، هو أن يتذوق عامة النَّاس ما يتذوقه أصحاب المواهب العظيمة، مع اختلاف في الدرجة لا في النوع.
وقد بلغ اختلاف وجهات النظر في هذا الصدد أقصى حدوده، حتى لقد ساغ للسائلين من ذوي المكانة أن يسألوا مستنكرين: هل هناك ما يُسمى بالثَّقَافة الرفيعة؟! إن الثَّقَافة ثقافة لا رفعة فيها ولا انخفاض! وهكذا بلغ الاختلاف بين وجهات النظر، وكأن أسلافنا من كبار الفقهاء والعلماء، لم يفرقوا بين ما هو «للخاصة» وما هو «للعامة» في مجال الفقه والعلم، بل إن خاصة النَّاس عندهم كانوا ينقسمون منزلتين: فهنالك فوق الخاصة من أسموهم «خاصة الخاصة»، أو كأن القرآن الكريم لم يفرق لنا في طرق الدعوة إلى سبيل ربنا بين جماعات ثلاث من مراتب المعرفة، فيكون لكل منها ما يصلح لها من سبيل الدعوة: فهنالك خاصة الخاصة ممن يحتكمون إلى العقل المدرك لفواصل المعاني تمييزًا لها ودقة في فهمها، وسبيل الدعوة إلى هؤلاء هي طريق «الحكمة»، ومعنى الحكمة هو الارتكاز على منطق الاستدلال العقلي في الوصول إلى النتائج والأحكام، وهنالك دون هؤلاء جماعة الخاصة في عمومهم، وسبيل الدعوة إلى هؤلاء هو طريق الجدل، ومعنى «الجدل» هو أن تبدأ المحاجة من حقيقة مُسلم بصحتها، لا يُطلب عليها هي نفسها برهان، كأن تعرض إحدى حقائق العقيدة الدينيَّة موضع التوضيح، فيسلم الطرفان معًا — عارض الموضوع ومتلقيه — بصحتها، فلا يبقى للعارض إلا أن يوضح للمتلقي معناها وما يترتب عليها من معانٍ فرعية وأحكام، وأما عامة النَّاس من سواد الجمهور فلا هم يستطيعون ملاحقة التحدث على المستوى الأول، ولا هم يستطيعون المشاركة على المستوى الثاني، إذن فلهؤلاء العامة سبيل ثالثة إلى الدعوة الدينيَّة، وهي طريق «الموعظة الحسنة»، ومعنى الموعظة هو تبين الحقيقة المعروضة بضرب الأمثلة، والفرق واضح بين أن تعرض فكرة على النَّاس لا تستند في إيضاحها إلا إلى أمثلة عملية تجسدت فيها تلك الفكرة المعروضة، كأن يسأل سائل: ما معنى «العدل» بالنسبة إلى الحاكم؟ فنضرب له مثلًا بعهد عمر بن عبد العزيز، فليس في هذه الإجابة أي ذكر بعنصر من العناصر التي تتكون منها صفة «العدل» التي هي موضع السؤال، أقول: إن الفرق واضح بين إجابة كهذه، وبين ما أجاب بها علماء الكلام في الفكر الإسلامي، عن «العدل» وقد كان للمعتزلة في ذلك التعريف بالعدل موقف تميزوا به دون سائر العلماء من الفِرق الأخرى، وهؤلاء جميعًا يندرجون تحت عنوان «الجدل»؛ لأنهم يسلمون بادئ ذي بدء بوجوب قيام «العدل» صفة لله سبحانه وتعالى، وبالتالي فهي كذلك صفة مطلوبة في حكومة النَّاس في هذه الدنيا، وفوق أهل «الجدل» وجمهور «الموعظة» تأتي خاصة الخاصة من أرباب «الحكمة» فهؤلاء يبدءون حجاجهم من الصفر — إذا صحت هذه الكلمة في هذا السياق — بمعنى ألا يُفترض من البداية أن ثمة شيئًا اسمه «العدل» ليبدأ المتحدثون بتحديد ماذا عساه أن يكون، وهل لا بد له أن يكون؟ حتى إذا ما استقر الرأي في ذلك انتقل المتحاجون إلى استدلال ما يترتب على وجوده أو على ضرورة وجوده.
ذلك هو تراثنا في النظر إلى قدرات النَّاس المتفاوتة، بحيث يتحتم أن يكون لكل درجة منها ما يلائمها من الغذاء الإيماني إذا كنا في مجال الدين، والغذاء الثقافي بصفة عامة إذا كانت «الثَّقَافة» هي مجال الحديث، على أننا نكرر هنا، إنه سواء أكان الحديث مقصورًا على المجال الديني، أما كان شاملًا للحياة الثَّقافيَّة كلها، فليس الاختلاف بين الذروة وعامة الجمهور، خلافًا في لب الموضوع وجوهره، بل هو في درجة الوعي بتفصيلاته وتعليلاته، إذن يكون الفرق بين ثقافة الذروة وثقافة الجماهير هو أن الذروة تبدع والجماهير تعمل على تذوق ما أبدعته، وبغير الأولى لا يتحقق للثانية وجود؛ فكلنا مؤمن بدينه، لكن الصفوة منا تؤمن وتعرف على أي الأسس جاء ذلك الإيمان، وأما الجمهور فيؤمن إيمانًا قد يقف به عند حد الإيمان، إلى أن تسعفه الصفوة بما يستطيعه من تعليل وتأصيل، وكلنا مفطورون على ذوق فني مبهم، لكن الصفوة وحدها هي التي تعرف شيئًا عن السر في ذلك التذوق، ومطلوب منها أن تنقل إلى عامة الجمهور ما أمكن نقله من تلك المعرفة؛ حتى لا يظل التذوق الفني عنده أصم وأبكم.
على أن هذه التفرقة بين خاصة وعامة في الحياة الثَّقافيَّة، لا ينبغي لها أن تصرف أنظارنا عن حقيقة بدهية لم تكن لتحتاج إلى تنويهٍ وتذكير، لولا أن ظروف الحياة التي نحياها كثيرًا ما تضطر النَّاس اضطرارًا إلى التسرع في قراءة ما يقرءونه، والتعجل في فهم ذلك الذي قرءوه، وأعني بتلك الحقيقة البدهية أن الصفوة الموهوبة المبدعة في عالم الثَّقَافة إنما تستقي إلهامها من نبض الحياة التي تحياها جماهير المواطنين، ولا يتحقق ذلك الاستلهام للمبدع لأن المبدع من أهل القمر أو المريخ ينظر من علٍ إلى الكوكب الأرضي وأهله، وإنما يتحقق ذلك لأن المبدع المستلهم هو في الوقت نفسه مواطن من زحام المواطنين يحيا حياتهم ويضيق صدره كما تضيق صدورهم، لكنه — دون سائر الجمهور — أقدر على رؤية السر، وأكثر سيطرة على الوسائل التي تخرج مكنونات الصدور إخراجًا تسمعه الآذان ألحانًا وشعرًا، وتطالعه مسرحًا ورواية، وتتذوقه لوحات من فن التصوير، إلى آخر وسائل المبدعين، فليس في الأمر سيد ومسود، بل فيه مواطن يهمس لمواطن بما يشتركان فيه من خلجات الشعور.
وربما وجب علينا في هذا السياق أن نضيف إلى العلاقة بين الخاصة والعامة في دنيا العقيدة، والفن والأدب جانبًا آخر كثيرًا ما يُنسى أو يُغض عنه النظر، برغم أهميته في حياة النَّاس، عندما يكون هؤلاء النَّاس جميعًا على اتفاق في إرادتهم لتغيير حياتهم تغييرًا ينهض بها نحو ما هو أعلى وأكمل، فيصوغون أو يُصاغ لهم «مفاتيح» «لفظية» كل مفتاح منها يلخص بُعدًا من أبعاد التَّغيير المطلوب فتشيع فيهم كلمات مثل «حرية» و«اشتراكية» و«ديمقراطية» و«إرادة الشعب» إلخ إلخ، إلى هنا والأمر ضروري وطبيعي؛ إذ لا بد من بلورة التَّغيير المنشود في أمهات مسائله ولا يتم ذلك إلا بأن يطلق على كل مسألة فيها اسم يميزها، لكن الذي يحدث بالفعل في هذا الصدد هو أن تتحول تلك المفاتيح اللفظية إلى أجراس تدوي برنينها دويًّا يملأ المسامع، لكنه لا يبلغ عند معظم المواطنين بمن فيهم نسبة كبيرة من «المثقفين» أن يكون له في عقولهم «معنًى» معلوم حق العلم، وما «حق العلم» هذا؟ هو أن يتحول المعنى في ذهن حامله إلى خريطة أفعال محددة المعالم واضحة الخطوات، فنحن — إذن — أمام ثلاث درجات متصاعدة إزاء تلك المفاتيح اللفظية التي عادةً ما تكون هي المحاور التي تقدم لأفراد الشعب على أن ينسجوا حولها نشاطهم الفكري: أما الدرجة الدنيا من تلك الدرجات الثلاث والتي هي أوسعها شيوعًا في أفراد الشعب الذي أراد أن يغير من حياته، فهي درجة الاكتفاء بمجرد اللفظة ينقطونها ويكررونها ويتحمسون لها، دون أن يكون لديهم من دلالاتها إلا أقل من القليل، وتعلو على هذه الدرجة اللفظية الدنيا درجة يلم فيها حامل اللفظة خيوطًا من معناها وكأنها موحدة المعنى، ومن هنا يضيق الأفق عنده إلى الحد الذي لا يتصور معه أن يكون عند غيره من النَّاس معنًى آخر أو معانٍ أخرى، فينتج عن ذلك تعصب سياسي أو اجتماعي يضر ولا ينفع، والأغلب عند أصحاب هذا المعنى الواحد لكل مفتاح لفظي من مفاتيح الحياة الجديدة، ألا يكونوا على إدراك واضح بأن كل لفظ من تلك الألفاظ الجليلة إنما هو اسم اختاره صاحب مذهب معين، ومن حق غيره أن يذهب مذهبًا آخر تحت هذا اللفظ، فمن أطلق لفظ الحريَّة لأول مرة لم يكن قد استوعب مقدمًا كل ما سوف تعنيه هذه الكلمة عند مجموعة الدعاة على تعاقب العصور، ولا أول من أطلق كلمة «اشتراكية» أو «ديمقراطية» قد فعل مثل ذلك، ولا كان في مستطاع بشر أن يفعله؛ فلكل حركة اجتماعية، داخل كل شعب من الشعوب، في عصر من عصور تاريخها ما تعنيه أمثال تلك المفاتيح اللفظية؛ وعلى ذلك كان الواجب الأول على رجل «الفكر» في كل حالة من تلك الحالات، أن يحدد على وجه الدقة عناصر المعنى المطلوب لكل مفتاح منها، وبمثل هذا التحديد وحده يستطيع حامل المفتاح من أفراد الجمهور أن يحوله إلى خريطة أفعال تتسق معه ومع غيره من المواطنين في نمط سلوكي واحد متفق عليه، وأما ثالث الدرجات ارتفاعًا في سلم الفهم الصحيح لتلك المفاهيم اللفظية في حركة التَّغيير، فهي عند هؤلاء القادرين على مقارنة أطياف المعاني المختلفة للمفتاح الواحد مقارنة تزيده وضوحًا من جهة، وتزيد النَّاس قدرة على اختيار ما يختارونه من تلك البدائل.
كان صاحبنا واحدًا بين ملايين المواطنين الذين صفقوا للتغيير الاجتماعي نحو عدالة تعم الجميع في معاملات كل منهم مع الآخرين، وهو تغيير كان الشعب قد «أراده» إرادة لم تجد وسيلتها إلى العبور من بواطن الصدور إلى دنيا الفعل والتفاعل، لكن صاحبنا مع آخرين كان يدرك إدراكًا ملزمًا بأن مفاتيح التحول الاجتماعي الجديد قد شاعت في النَّاس على غموض، وبات واجبًا على من استطاع أن ينشر ما قد يزيد الحركة سدادًا في خطاها نحو عدالة اجتماعية معلومة الحدود، واضحة القسمات.