في سبيل الوضوح «٢»
لم يكن من شقشقة اللسان، ولا كان من سفسطة الكلام، أن أصر صاحبنا وهو يهم بالتحدث إلينا عن «الوضوح» على وجوب البدء بإلقاء الضوء بادئ ذي بدء، على معنى «الوضوح»، قبل أن نتخذ من هذه الكلمة ميزانًا نزن به الحياة الثَّقافيَّة كما رآها، وأحسها، وعاشها مع روادها في ذلك العقد من خمسينيات هذا القرن، فلقد روينا عنه في حديثنا السابق، اتهامه لتلك الفترة من الزمن، باللامبالاة حيال المعاني الكبرى التي أخذت الأفواه تقذف بها مع أمواج الصوت، فأخذت أقلام كثيرة تجري على الورق بأصداء ما سمعته الآذان، أما أن يسأل المتكلم نفسه: ما حدود هذا المعنى أو ذاك قبل أن يبشر به، وأما أن يلجم الكاتب قلمه حتى لا يكتب للناس شيئًا إلا وهو محدد مفهوم ما وسعه الفهم والتحديد، فذلك ما لم تكن عجلة الزمن في دورانها السريع تسمح به، وربما لم يكن صاحبنا وهو يوجه اتهامه هذا إلى تلك الفترة الزمنية المعنية، قد أراد أن يقصر الاتهام عليها، دون سابقتها ولاحقتها، لولا أنها هي الفترة التي يخصها الآن بالحديث، في سياق استعادته لأحداث السنين وما خلفته له من حصاد، بما احتوى عليه ذلك الحصاد من حلو ومن مر على حدٍّ سواء.
وأيًّا ما كان الأمر في هذا، فقد أصر صاحبنا هذه المرة أن يجعل صفة «الوضوح» ذاتها واضحة، ما دام قد جعلها أساسًا للحكم على منتجات الحياة الثَّقافيَّة «إبان» تلك الفترة، وكانت خطوته الأولى في توضيح «الوضوح» هي أن يقصر هذه الصفة على دنيا «الأفكار» العامة وحدها، دون سائر الأقسام التي فصلناها في أحاديثنا عما أسميناه «المطبوعة الزرقاء»، وتلك الأفكار العامة هي التي يغلب على كثير جدًّا منها أن تحمل في مضموناتها ما اصطلح العُرْف الثقافي على تسميته ﺑ «القيم»، وأما «العلوم» و«الفنون» و«فروع الأدب»، فليس من المألوف، ولا هو من المقبول أن تُوصف بالوضوح أو الغموض؛ لأن كلتا الصفتين لا تلائم طبيعة المادة الموصوفة، فليس من المألوف ولا هو من المقبول أن تصف قانونًا علميًّا كقانون الجاذبية — مثلًا — أو قانون انعكاس الضوء، بأنه «واضح» أو بأنه «غامض»؛ لأن المطلوب للقانون العلمي أن يكون «صحيحًا» سواء أجاء واضحًا سهل المأخذ أم تعذر على أفهام غير المختصين واستعصى، وكذلك ليس مألوفًا ولا هو مقبول أن تُوصف لوحة أو تمثال أو معزوفة بأنها «واضحة»؛ لأن مبدع الفن إنما ينتج كيانًا موحدًا، كثرت عناصره أو قلت، فإذا تعذر تحليلها إلى عناصرها على متلقٍّ من عابري السبيل، فلا ضير في ذلك على الفنان، ومهمة ناقد الفن أن يقوم بمثل هذا التحليل ليفهم جمهور النَّاس وليتذوقوا ما فهموه، أو — على الأصح — ليفهموا ما كانوا تذوقوه بالنظرة المباشرة، وكذلك الحال في الأدب بشتى فروعه: شعرًا، ورواية، ومسرحية، وما شئت، فليس لقول القائل معنى إذا قال عن قصيدة إنها غير واضحة، أو إذا قال ذلك عن رواية أو مسرحية؛ لأن مناط الحكم على مبدعات الأدب ليس وضوحها، بل هو على طرائق تركيبها أولًا، ثم على عمق دلالاتها ثانيًا، مما يسمح للناقد الأدبي أن يغوص بتحليلاته إلى الأغوار فيعود بلآلئ الخبرة والنفاذ إلى طبائع النَّاس، ولا كذلك الحال بالنسبة إلى ما أطلقنا عليه اسم «الفكرة» أو «الأفكار» كالحريَّة، والمساواة، والانتماء، والديمقراطية، والطبقية، والتضحية، والحق، والخير، والجمال، والتعاون إلخ إلخ، فنحن هنا أمام كائنات فريدة وعجيبة، لا هي من قوانين العلوم التي يستخلصها العلماء في معاملهم أو تجاربهم البحثية، ولا هي موسيقى تعزف على قيثارة أو في مزمار، ولا هي شعر، أو مسرحية ورواية، بل هي كما أسميناها «أفكار»، وموضع العجب فيها أنها وإن لم تكن علمًا ولا فنًّا ولا أدبًا، فلا بد منها لتسري برحيقها في شرايين العلم والفن والأدب جميعًا؛ لأنها — في أغلبها — أسماء تشير إلى «الحالات» يتلبسها أو لا يتلبسها الإنسان في حياته، فتنعكس — هي أو نقائضها — فيما يسلكه أو يقوله أو يتفاعل به مع النَّاس والأشياء، فللمؤمن بالحريَّة سلوك وأهداف غير سلوك غير المؤمن بها وأهدافه، وهكذا قل في أسرة الأفكار جميعًا.
ومن لوازم الفكرة من هذه الأفكار، أنها كالبحر الذي لا تحده شواطئ — إذا أمكن تصور بحر بلا شواطئ — فليس للفكرة من تلك المجموعة «تعريف» جامع مانع (كما يقولون في علم المنطق) بل لكل إنسان أن ينهل منها بمقدار ما يستطيع أن ينهل، وإنه لمن الأخطاء التي نتعرض للوقوع فيها، أن نتصور للحرية — مثلًا — أو للوطنية، حدودًا قاطعة «حاسمة» كما هي الحال مثلًا في تعريفنا للمثلث، أو عنصر الكربون أو مكونات الماء، إذ تتميز «الفكرة» من تلك المجموعة، بمرونة مطلقة لا تقيدها قيود، ولكل إنسان أن يأخذ منها ما أسعفته طاقته الحضاريَّة والثَّقافيَّة أن يأخذ، فهنالك من الشعوب من تتسع شهيته للحرية الواسعة، كما أن هنالك من الشعوب من تحكم عليه ثقافته وتقاليده أن يقنع من الحريَّة بالقليل، ومن هنا أمكن للناس جميعًا أن ينفقوا على حقائق العلم، وأن ينفقوا كذلك إلى حد بعيد على آيات الفن والأدب برغم اختلاف مصادرها زمانًا ومكانًا، لكنهم لم يستطيعوا قط أن يجمعوا الرأي المحدد الحاسم عن الحريَّة — مثلًا — متى تجوز وإلى أي حد تجوز؟ ولا عجب إذا رأينا تاريخ البشر يخلو من حرب اشتعلت بين بلدين لاختلافهما حول حقيقة المثلث، أو عناصر الماء ما هي، لكننا رأينا ذلك التَّاريخ متخمًا بحروب أثارتها اختلافات في تصور النَّاس لفكرة من تلك الأفكار، فالأمور «الواضحة» لا خلاف عليها، وإنما يقع الخلاف حول أفكار، يعوزها الوضوح بحكم طبيعتها.
لكن امتناع الوضوح الكامل، لا يمنع وجوب قدر من التحديد يتيح لحامل الفكرة أن يسلك بمقتضاها، وها هنا تأتي الخطوة الثانية فيما عرضه صاحبنا على رفاقه في حديثه معهم عن وضوح الفكر وغموضه، بعد أن بين أن صفة الوضوح لا يُوصف بها «علم» ولا «فن» ولا «أدب»؛ فقد بين لنا كيف أن الدرجة التي تبلغها فكرة ما، عند شخص معين، أو بين أفراد شعب معين، هي نفسها الدرجة التي تبلغها تلك الفكرة من دقة التفصيلات التي تعين حاملها على السير بهداها في مسالك حياته العملية، فالفكرة — أيًّا كانت — هي خريطة يهتدي بها السائر، ثم تتفاوت الخرائط دقة وإيهامًا.
وعلى هذا الأساس أقام صاحبنا حكمه على فترة الخمسينيات بأن كثرت فيها الأفكار، لكنها كانت أفكارًا على درجة خطيرة من الغموض، وهو غموض يرجع معظمه إلى حقيقة كونها قرأها متعجلون في كتب ذاع صيتها في الغرب قبل الخمسينيات وإبانها، وخرجوا من تلك القراءة المتعجلة بخلاصات مؤخرة جاءت — كأية خلاصة يستخرجها طالب علم متوسط القدرات — أسطحًا بغير أعماق، أو نتائج بغير مقدمات، فانقسمت حياتنا الفكرية يومئذ قسمين؛ أحدهما: خافت الصوت لأنه من رواسب الجيل الأسبق، وثانيهما: مرتفع الصوت لأنه مستند إلى قوة السلطان، وأما رجال القسم الأول فقد كانت بضاعتهم كشأنها حتى في عزها أيام العشرينات، لا تكاد تضيف شيئًا جديدًا إلى قراءات طالعوا بعضها عند السلف فأجادوا المطالعة وأحسنوا العرض، وطالعوا بعضها الآخر عند أصحابها في الغرب، ثم عرضوا خلاصات لما قرءوا، فأُتيح لشباب ذلك الجيل من خلال روادهم، أن يكونوا على علم بالمصدرين: مصدر السلف ومصدر الغرب، ثم صادف هذا الاقتران بين الثقافتين جماعة من أصحاب المواهب في الأدب والفن، فأبدعوا أدبًا وأبدعوا فنًّا، لكنهم لم يتعرضوا للأصول «الفكرية» التي تكمن وراء الثَّقَافة الجديدة إلا بقدر ضئيل، لا فرق في ذلك بين رواد وأتباع.
وأما شباب الخمسينيات، وهم الجيل الجديد عندئذ، فقد تلقفوا مجموعة كبيرة من الأفكار التي أخذت تشيع في أرجاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وفي أقطار العالم الثالث بصفة خاصة، وهي أقطار نالت استقلالها السِّياسي بعد الحرب، وأمسك بمقاليد الحكم فيها نفر من أبنائها المجاهدين، الذين يمكن أن يُقال عنهم بصفة عامة — تقبل الاستثناء — أنهم أشد طموحًا من قدراتهم، ففي ذلك العقد من السنين وما تلاه شاعت لغة «اليسار الاشتراكي» شيوعًا لم تصحبه دراسات كافية، ولم يكن وليد تربة محلية وقرائح قومية، ومن ثم كثرت التجربة والخطأ، وظهرت مواهب الشباب التي تتوق إلى «إبداع»، فجاء إبداع كثير منهم وقد استقى من عيون ماؤها ضحل، ونتج عن ذلك كله غموض في الفكر، وتعثر في التطبيق، وضعف شديد في القدرة الناقدة.
هكذا كانت الرؤية عند صاحبنا لما يجري حوله في الحياة الثَّقافيَّة، وحتى لو كان قد أخطأ الرؤية للأصول التي نتج عنها ذلك الضعف، فلم يكن يساوره أدنى ريبة في صدق النتيجة التي أخذ بها، وهي أن «الفكر» قد غاب، وأن قابلية وجود «نقد للفكر» قد انحدرت إلى حضيض المحاق، فالأفكار اليسارية التي ملأت الجو جاءتنا منقولة مشتولة، ونقد الفكر لم يعرف قط طريقه إلى حياتنا الثَّقافيَّة، حتى ليتعذر علينا أن ندرك المراد بنقد الفكر، لنميزه من نقد الأدب؛ وذلك لأننا أبدعنا أدبًا مهما قيل في قوته أو ضعفه، فهو ذو وجود، فقام على ذلك نقد ونقاد، فعرفت حياتنا الثَّقافيَّة شيئًا اسمه نقد الأدب، ارتفع مع الشوامخ، وتوسط مع الأواسط، ونزل على السفح مع صغار المجتهدين، فازدادت معرفتنا بمعنى النقد الأدبي معرفة شملتنا جميعًا على تفاوت أقدارنا، وأما «نقد الفكر» فشيء ندر أن رأيناه؛ ولذلك ندر أن عرفناه.
هكذا ضاعت عنا أصالة الفكر دون أن نشعر بضياعها، وشاع فينا فكر نقلناه على أيدي من لم يحسن الدراسة والفهم والنقل، فأصبحت كجماعات من بغاث الطير تتكاثر دون أن توجد منها نسور وعقبان، مما يجيز لنا أن نقول: إن الثورة وُفِّقَت في تحديد الغاية التي كانت أملًا مبهمًا حبيسًا في الصدور، إلا أن الغلاف الثقافي الذي أحاط بتلك الغاية المرجوة، والتي هي تحقيق العدالة الاجتماعيَّة، كان غلافًا لا يشف عن حقائق ما اضطربت به الصدور، ففقدنا الصدق والشفافية والإخلاص، ولنا أن نراجع نماذج مما شغل أقلام الفئة الكاتبة عندئذ، لنجد كم أسرفت في النقل عن كتب الآخرين، أكثر جدًّا مما أصغت إلى أحلام الشعب الحقيقية، ففكرة «اليمين واليسار» كانت مسيطرة على أقلام الكاتبين، إذ جاءت بديلًا لما كان شائعًا في الجيل الأسبق، حين جعلوا قسمة النَّاس قسمة بين جديد وقديم، لكن هذا البديل الجديد لم يكن لغوًا بغير معنى، بل أُريد به أن يشير إلى سمة من سمات الموجة الاشتراكية الجديدة، فاليسار هو المذهب الاشتراكي، واليمين هو ذو عناصر كثيرة كلها مذمومة عند أنصار اليسار، ومن تلك العناصر الإسراف في النزعة الدينيَّة، وفي العودة إلى التراث ليكون أساسًا في ثقافة المثقف، والأخذ برأسمالية الاقتصاد، ومن الأفكار المحورية كذلك، التي شاعت فملأت الصحف والكتب، فكرة «الصراع الطبقي» باعتباره عاملًا جوهريًّا في حركة التَّاريخ، وأنه ليحسن بنا في هذا السياق من الحديث، أن نلفت الأنظار إلى ترجمة تلك الأفكار المنقولة، كيف حرفت المعاني — عن غير قصد — تحريفًا أملاه التصور الاجتماعي عند المترجم المجهول، فعبارة «صراع طبقي» — مثلًا — قد جاءت ترجمة عربية لما هو في أصوله الغربية «صراع فئوي»، والفرق الاجتماعي بين الصورتين كبير؛ لأن الصراع حين يكون بين فئة من النَّاس تملك المال، وفئة أخرى من النَّاس تعمل بالسواعد، فإنه لا يشير إلا ما هو «أعلى» وما هو «أدنى» بين الفئتين، إذ موضع الاختلاف بينهما هو فيما تستطيع كل من الفئتين تقديمه في عملية الإنتاج، وأما الترجمة العَربيَّة التي شاعت بيننا، فقد جعلت الصراع بين «طبقة» وطبقة أخرى، مما يركز الانتباه على أن فئة تسود، وفئة أخرى تتبع، وكانت النتيجة المؤكدة لهذا التحريف، هي أنه إذا كان التقابل في الحياة الاقتصادية هو بين فئة وفئة، فإن ذلك في ذاته يشير إلى أن طريق الإصلاح هو في إعادة التوزيع لما يساعد على عدالة من جهة، وزيادة في الإنتاج من جهة أخرى، وأما إذا جعلنا التقابل هو بين سيد رفيع المقام، ومسود خفيض المقام، فإن ذلك يوحي بأن يكون طريق الإصلاح لا بد أن يتضمن نوعًا من الانتقام للكرامة الجريحة فيمن انخفضت مكانته، وذلك بدوره يشجع على أن يُؤخذ من الأعلى ليهبط، ويعطي للأدنى ليعلو، بغض النظر عن موقع ذلك التعبير على الإنتاج زيادة ونقصانًا، وإنك لتجد تحريفًا آخر في ترجمة المصطلح الذي أشارت به اللغات الغربية إلى ما أسميناه نحن في الترجمة العَربيَّة «الاشتراكية» في حين أن ترجمته الصحيحة هي «المذهب الاجتماعي» أو ربما كانت كلمة «المجتمعي» أكثر صوابًا، وها هنا أيضًا تجد الفرق واضحًا بين الحالتين في القوة الإيحائية، فبينما كلمة «اجتماعي» أو «مجتمعي» توجه النظر إلى أن تكون أولوية الإصلاح للمجتمع من حيث هو كيان موحد، قبل أن يتضخم أفراد بثرائهم وقوتهم داخل ذلك الكيان فيفسدوه، نرى الترجمة العَربيَّة، «اشتراكي» قد جعلت بؤرة النظر «مشاركة»، وهي كلمة تتضمن أن يشارك الفقراء فيما يملكه الأغنياء، فإذا سألنا: من الذي يشارك من؟ لم نجد جوابًا يتمشى مع اللفظ العربي، سوى أن «أفرادًا» من «الطبقة» الأقل ثراءً، تأخذ مما يملكه «أفراد» من «الطبقة» الأكثر ثراءً، وإن ذلك المنحى ليفوح بالرغبة في «الانتقام» أكثر مما يبرز الرغبة في «عدالة اجتماعية» ووفرة في الإنتاج.
ونضيف إلى هاتين الفكرتين فكرة «الصراع الطبقي» وفكرة «الاشتراكية» فكرة ثالثة ثم نكتفي، وهي فكرة «الجمهور» أو «الجماهير»، فهي الأخرى قد شاعت إبان الخمسينيات — وما بعدها — شيوعًا جعلها محورًا لكل تفكير يراد به الإصلاح على نحو يحقق أمل «العدالة الاجتماعيَّة»، وفكرة «الجمهور» أو «الجماهير» هي الأخرى أُحيطت بغموض شديد، جعلت لا تثبت أمام أشعة الضوء لمن أراد الوضوح، فمن هم الذين يُراد تنحيتهم جانبًا خارج كتلة الجمهور؟ دقق النظر ما شئت تجد «الصفوة» التي ظن بها الطغيان على حق الجماهير، ومن ثم وجب تجميدها، إن لم يكن حرمانها من بعض ما هي فيه، ليخلو الطريق أمام العناية بالجماهير، أقول: دقق النظر في تلك الصفوة تجدها هي هي نفسها تلك الجماهير، بعد أن ظفرت بحظ من التعليم، اللهم إلا استثناءات ليست مصرية الجذور، ونود هنا ألا يغيب عن القارئ أن صاحبنا الذي نروي عنه، إذا تحدث فحديثه عن «الثَّقَافة»، وإذا فكر ففكره حول الثَّقَافة، وإذا كتب فهدفه هو الثَّقَافة، فالكلام هنا منصبٌّ كله على الحياة الثَّقافيَّة، وإشارتنا السابقة إلى «جمهور» و«صفوة» إنما تشير في واقع الأمر إلى كثرة من الشعب لم تتعلم، وقلة تعلمت حتى بلغ بعضها من سلم التعليم درجاته العليا، فبأي معنى يا ترى يُراد أن تتجه العناية نحو الجماهير، وأن يُنظر إلى أبناء تلك الجماهير، ممن نالوا حظًّا من التعليم ميزهم، وكأنها أقلية اجتماعية أجحفت القسط مع عامة الشعب؟ ومما يزيد الغموض غموضًا، هو أن تلك الصفوة نفسها هي التي سوف يُناط بها تثقيف الجماهير، إما بطريق مباشر، وإما بتثقيف مجموعة وسطى تجيء وسطًا بين الطرفين، على أن ما هو أدعى إلى التساؤل — رغبة في توضيح الغامض — هو أن نسأل: هل يمكن حقًّا تبسيط الأصول الثَّقافيَّة الرفيعة، لنقدم المبسطات إلى الجماهير؟ كيف يكون — يا ترى — تبسيط الموسيقى والتصوير والشعر والرواية والمسرح؟ قد يكون التبسيط ممكنًا فيما هو «فكر» بأن تُقص أطراف الفكرة، ويُكتفى منها بجانب دون سائر الجوانب، لكن ذلك ليس هو «الثَّقَافة» كل الثَّقَافة، ولن نجد بديلًا لتثقيف الجماهير يقوم مقام «الأصول» كما أبدعها مبدعوها، وكل ما نستطيعه إزاء تلك الأصول، هو أن يقوم مختصون في المراكز الثَّقافيَّة بإرشاد الجمهور إلى ما قد جعل روائع الإبداع ذوات صلة وثيقة بحياة الجماهير، التي هي مصدر الإلهام الثقافي في جميع الحالات، على أن تلك الأمثلة التي عرضناها لنبين بها طرفًا من الغموض الفكري الذي زعمناه، مما كان ينبغي لنقاد الفكر عندئذ أن يوضحوا ما قد غمض، وذلك إذا كانت حياتنا قد عرفت شيئًا عن نقد الفكر ونقاده، أقول إن تلك الأمثلة وما يجري مجراها مما قد شاع في الفترة التي هي موضوع الحديث، لم تتناول من الحياة الفكرية التي تتطلب النقد الجاد لعلها تستقيم إلا جوانب مما يطفو على سطح الماء فتراه الأبصار، لكن تحت السطح أعماق تريد الناقد الغواص، وفي تلك الأعماق تقع المحركات المستترة لعجلات الحياة الثَّقافيَّة التي تحيط بالناس فينهلون منها ما ينهلون، ويستحيل على تلك الحياة أن تصح من مواطن صنعها، لمجرد أن يوضح النقاد للناس ما يطفو على سطح حياتهم من مفهومات يتبادلونها ويتعاملون بها، وإلا لكنا كمن يعالج الطفح الذي يظهر على وجه المريض، فيعود الطفح كما كان؛ لأن مصدره الخبيء كامن في الداخل.
قال ذلك صاحبنا لأصحابه ذات يوم، فقالوا له: اضرب لنا مثلًا بنقد فكري كانت تتطلبه حياة الثَّقَافة على أرضنا، ولم يجد ناقدًا غواصًا، فأجابهم قائلًا: سأكتفي من هذا بمثل واحد، تضرب فيه العلة حتى تبلغ النخاع، وهي علة تشيع فينا شيوعًا لا يفلت منه جانب من جوانب الفكر التي نحياها، وهو أننا نغترف من الأفكار المنقولة عن آخرين أفكارًا، فنجعلها قواعد نستند إليها في إصدار أحكامنا على ما قد يصادفنا في حياتنا العملية من مواقف، ولو كانت تلك الأسس الفكرية المنقولة، عند أصحابها قد استخلصت من حقائق الدنيا ووقائعها، لما ضرنا استعارتها وتطبيقها، ولكنها كانت في حالات كثيرة، لا تزيد عن كونها «تعريفًا» قدمه صاحبه ليحدد به معنًى معينًا من وجهة نظره، وما دام أمره كذلك فهو لا يلزم أحدًا غير صاحبه، ولكل ذي قدرة حق التعريف من وجهات نظر أخرى، افرض — مثلًا — أننا نريد أن نقيم خطتنا في تطوير التعليم على بث روح «الطموح» في أبنائنا وبناتنا — مع مبادئ أخرى نجعلها قوائم ترتكز عليها العملية التعليمية — فماذا نختار ليكون هدفًا لذلك الطموح؟ أنجعل الهدف نبوغًا في العلم؟ أم جمعًا للثروة؟ أم سعيًا للحكم؟ أم تضحية في خدمة النَّاس؟ أم استغراقًا في العبادة؟ أم انتماءً إلى القوة العسكرية؟ تلك أمثلة يمكن أن تضيف إليها ما تضيفه، لتحدد به صورة الإنسان الذي تراه جديرًا بأن يطمح الشباب إلى أن يتمثلوه في أشخاصهم الأرجح في إطارنا الفكري الذي نعيش في حدوده، إننا إذا ما فكرنا أن نبث في أبنائنا روح الطموح، فلا يطرأ لنا ببال أن معنى «الطموح» لا يكتمل إلا بالهدف الذي يتضايف معه فكما أنه لا والد بغير ولد، ولا حب بغير حبيب، فكذلك لا طموح بغير هدف يسعى الطامح إلى بلوغه وهذه واحدة، والثانية هي أننا، حتى لو تنبهنا إلى حاجة الطموح إلى تحديد الهدف ليكتمل معناه، فطريقتنا في التفكير هي أن نستمد الهدف من نماذج البطولات التي نستمدها من السلف، وهذا هو الأغلب، أو من بطولات الإنسان أينما ظهرت في شعوب الأرض بغير تمييز، وإنه لاحتمال بعيد التحقق أن يطلب الرؤساء المسئولون عن التربية والتعليم عندنا، أن يطلبوا من الباحثين المتخصصين أن يقوموا ببحث علمي، يحللون به حياتنا وما هي في حاجة إليه ليكون هو الصفة التي نبثها في شبابنا ليطمحوا إليها، فنحن أميل جدًّا نحو الأخذ عن آخرين، ولا فرق في ذلك أن يكون هؤلاء الآخرون أسلافًا لنا، أو أن يكونوا من شعوب أخرى، ففي كلتا الحالتين نحن لا نستمد الغاية من حياتنا كما نحياها، أو كما نتمنى لها أن تكون، ولو فعلنا لصدرت أحكامنا عن «واقع» يبقى أو يتغير، ويندر جدًّا أن نجعل «الواقع» سيدنا في عملياتنا الفكرية، وفيما يتعلق بالمثل الذي ضربناه، وهو: ماذا نصع لو أردنا بث روح الطموح في شبابنا، نود أن نشير إلى حقيقة اختلاف العصور، واختلاف الشعوب، في الصفة التي تسبق سواها في تربية النشء تربية تساعدهم على تحقيقها، وها نحن أولاء ننظر إلى عصرنا فنجد أقوى وأغنى دولة فيه، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، قد جعلت جمع الثروة ملايين وبلايين الدولارات هو مقياس «النجاح» في الحياة، وبما أن من لوازم التَّاريخ الحضاري، كما ذكر ابن خلدون في هذا الصدد، أن تنحدر الإيحاءات من ذروة الجبل إلى سفوحه، أي أن يضرب من هو أقوى مثلًا يحتذيه من هو أضعف، فقد شاع هذا المقياس «للنجاح» في شعوب العصر جميعًا، ولكننا كنا نتمنى لأنفسنا شيئًا من التدبر، لنختار غاية حياتنا الجديدة من ضرورات الواقع الحي الذي نكابده ونعانيه.
ولقد كنا بصدد الحديث عن نقد الفكر، وهو النقد الغائب عن حياتنا الثَّقافيَّة بصفة عامة، فلعل صاحبنا فيما أجاب به عن سؤال أصحابه الخاص بنقد الفكر ما معناه؟ قد بين لنا مصدر الحرارة المشتعلة التي حفزت صاحبنا على أن يكتب ثم يكتب، ويحاضر ثم يحاضر في وجوب النقد ووسائله؛ كيلا يطول بحياتنا الفكرية ركودها، والنقد بهذا المعنى، الذي هو تحليل الفكر السائد تحليلًا يظهر للناس خفاياه، يكاد يكون مرادفًا لعملية «التنوير»، فخروج الشعب في حياته الفكرية من الظلمات إلى النور، لا يقتصر على زيادة «المعلومات» التي تُساق إلى أفراد الشعب، وهي عملية ضرورية في حد ذاتها، وهي التي حَدَتْ برواد التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، أن ينشروا «الموسوعات» ليضعوا «المعلومات» بين يدي الشعب، بل لا بد لحركة التنوير فوق هذا المستوى الشعبي العام، من تحليلات نقدية تُقدم إلى «الصفوة» لعلهم يبينون حقيقة ما يديرونه بينهم من أفكار، فإذا لمسوا فيها أوجهًا للقصور عالجوها بما يقومها، وكان ذلك الجانب النقدي أهم ما افتقرت إليه حياتنا ولم تجده.