خيوط تلاقت «١»
عندما أخذت خطوات الزمن تنقله من خمسينيات القرن إلى ستينياته، كان صاحبنا قد تجمعت له خيوط كثيرة، ربما ظنها الرائي متفرقة متجزئة لا شأن لخيط منها بخيط آخر، مما يجعل حاملها أقرب شبهًا بمكتبة المنوعات، منه بشخصية متكاملة التكوين في العلم والثَّقَافة، لكن تلك الخيوط الكثيرة التي تلاقت في شخصه عندئذ سرعان ما تبددت على حقيقتها، بأن نُسجت في ديباجة واحدة، تألفت خيوطها فلا تنافر بينها ولا تناقض، وتعاونت الأجزاء على توحيد النظرة والمُتجه، وأعانت على جلاء الرؤية ووضوح الغاية واقتراح الوسائل.
وكان أبرز تلك الخيوط ظهورًا للناس، وأشدها لفتًا للنظر، وأكثرها إثارة لغيظ المغتاظ وكيد الكائد وسخط الساخط، هو نفسه الخيط الذي كان ينبغي أن يكون أقل الخيوط مساسًا بجمهور المثقفين، الذين لا تربطهم بالفكر الفلسفي صِلة، اللهم إلا أن يكون جهل الجاهل بحقيقة ذلك الفكر وطبيعته، مما يمكن أن يُعَدَّ ضربًا من ضروب الصلات التي تربط الإنسان بالأشياء، وذلك أن الخيط الذي نعنيه، هو تلك الدعوة التي طفق صاحبنا يدعو إليها في مجال تخصصه الأكاديمي — وهو مجال الدراسة الفلسفية — وهي دعوة مؤداها أن ينتقل محور الاهتمام من تحديد «موضوعات» معينة تقليدية، لتكون هي مناط البحث والنظر، إلى «المنهج» الذي يتميز به الفكر الفلسفي، وذلك لسببين؛ أولهما: هو أنه حتى لو بقيت للفلسفة موضوعات خاصة بها، بعد أن زحفت «العلوم» زحفها المتسارع مع الأيام لتتناول هي، بمناهجها الخاصة، تلك الموضوعات التي تُركت خلال العصور لقرائح الفلاسفة، ترى في شأنها ما تراه بقوة البصيرة ودقة الاستدلالات النظرية، أقول إنه حتى لو بقيت للفلسفة «موضوعات خاصة بها» ولا تطمع «العلوم» في تحويلها إليها، ولقد بقيت للفلسفة موضوعات معينة خاصة بها، فقد أعفيت من موضوعات كثيرة جدًّا كانت تدخل في مجالها ولم تعد كذلك، وإلا فمن ذا الذي يركن اليوم إلى مؤلفات الفلاسفة إذا أراد أن يعلم شيئًا عن الطَّبيعة وظواهرها، بعد أن أصبحت الكلمة فيها لعلماء العلوم الطبيعيَّة بأجهزتهم ومعاملهم، ومن ذا الذي يلجأ اليوم إلى مؤلفات الفلاسفة ليقرأ عن الفلك — أو الطب — أو عن «النفس» و«المجتمع»؟
وأما السبب الثاني الذي يدعونا إلى نقل محور الاهتمام — في مجال الفلسفة اليوم — من موضوعات بذاتها إلى المنهج الخاص الذي يتميز به الفكر الفلسفي: فهو أن مثل هذه النقلة تشبه الفرق بين أن تكسب قطعة معينة من الذهب، وبين أن تقع على مفتاح يفتح لك منجمًا كاملًا للذهب، تأخذ منه ما أردت وفي أي وقت تشاء، والحق أننا قد غفلنا عن هذا الفرق الجوهري البعيد، بين أن تنحصر دراسة الدارسين — أيًّا كان مجال الدراسة — في مقرر علمي محدود بحدوده، يبدأ من هنا وينتهي هنا، دون أن يتمرس هؤلاء الدارسون ﺑ «منهج البحث العلمي» الذي كان وسيلة العلماء إلى الوصول إلى مادة ذلك المقرر المدروس وغيره من المقررات، وبذلك يتخرج الدارسون من معاهدنا وجامعاتنا، وفي رءوسهم مقررات محفوظة، بل ربما تخرجوا ولديهم التدريب العملي على تطبيق تلك المقررات العملية في ميادينها، ولكنهم خارج تلك الحدود قلما يستطيعون شيئًا، ولو أنهم تخرجوا مزودين إلى جانب قطعة الذهب المحدودة بمفتاح يفتح لهم منجم الذهب، كلما أرادوا مزيدًا منه، لما ضاقت بهم حيلة عندما تُلقِي إليهم الحياة العملية بمشكلات واقعية تريد أن تُحل على أيديهم؛ لأنهم في مثل هذه الحالات المُستحدثة التي لم تكن لها حلول في مقرراتهم الدراسية، يلجئون إلى «منهج» البحث العلمي، فيحققون به ما أرادوا أن يحققوه.
وهكذا قل في مجال الفكر بصفة عامة، والفكر الفلسفي بصفة خاصة؛ فمن الاعتراف بالضرورة الملزمة للدارسين، أن يدرسوا ما هو موجود بالفعل من مواد دراستهم، مما أنتجه عمالقة الفكر في شتى موضوعاته، وعلى امتداد التَّاريخ نخطئ خطأً فادحًا في حق أنفسنا وفي حق أمتنا، إذا أوقفنا الدارسين عند حدود ما هو موجود بالفعل من أعمال المفكرين والفلاسفة، دون أن نعاونهم على أن يستخلصوا من ذلك الموجود ما قد بُثَّ فيه من «منهج»، كان صاحب الفكر المدروس قد استعان به ليصل إلى ما قد وصل إليه من أفكار، وليس ثمة من شك في أننا — فيما يختص بالفكر الفلسفي — إذا ما أمعنا النظر في كل ما يعرضه علينا تاريخ الفلسفة من مذاهب ومواقف ودراسات، لا بد واجدون ذلك الخيط الرابط بين هؤلاء جميعًا في تاريخ واحد، وذلك الخيط إنما هو «منهج» الفكر الفلسفي على اختلاف الفلاسفة ومذاهبهم وموضوعاتهم التي أخضعوها للنظر، ولأن نعين دارس الفلسفة على استخراج ذلك المنهج خير له ولنا ولحياتنا الفكرية بأسرها من أن تُضاعف له ما تجب عليه دراسته من مقررات، بل إننا لو فرضنا جدلًا بأن الجمع في ذهن الدارس بين معرفة ما خلفه أعلام الفلسفة من مذاهب وأفكار وبين الإلمام بتفصيلات «المنهج» الذي إذا انتهجه ذلك الدارس بعد تخرجه من الجامعة في معالجته للمشكلات الفكرية التي تعرضها الحياة العملية على النَّاس، لأمكن أن يكون له أكثر مما لغيره قدرة على التصدي لتلك المشكلات، والخروج منها برأي يعرضه على مواطنيه، أقول: إننا إذا فرضنا جدلًا بأن ذلك الجمع بين الطرفين مستحيل أو متعذر، وأن على الدارس أن يختار بعد تخرجه: إما أن يكون له هذا الجانب وإما أن يكون له ذاك، لما ترددنا لحظة في أن نوصيه باختيار «المنهج» ليعالج به هو مشكلات أمته — أو عصره — ما أسعفته قدرته، فعباقرة الفكر الفلسفي الذين خلدهم التَّاريخ، والذين هم موضوع دراسة الدارسين في هذا المجال، إنما أعملوا ذلك المنهج في مشكلات أمتهم أو عصرهم، فكان لهم من القول ما كان مما سجله لهم المؤرخون، ثم جئنا نحن الدارسين لندرس ذلك الذي أوصلهم إليه التفكير فيما أعضل على النَّاس في يومهم، ومع ذلك فلا يفوتنا هنا أن نؤكد بأن ثمة من تلك المعضلات الفكرية ما يتجاوز حدود الأمة الواحدة والعصر الواحد، فيبقى معروضًا على أهل النظر كل يدلي فيها بدلوه، إلا أن الأغلب هو أن نجد لكل عصر نبرته الخاصة في معالجته لأمثال تلك المسائل العصية، التي لا تنقضي بجهود أمة واحدة أو عصر واحد.
كانت هذه الدعوة إلى توجيه الاهتمام العام في دوائر العلم والتعليم، والفكر وسائر الفروع في حياتنا الثَّقافيَّة نحو «منهجة» المواطن الذي نتولاه بالتعليم والتثقيف، خلال المادة التي نقدمها إليه عن طريق هذه القنوات المختلفة، بحيث يبقى للمواطن نظرته المنهجية التي اكتسبها، حتى لو نسي أكثر التفصيلات التي كان تلقاها مع المضمون الفكري الذي تلقاه، أقول: كانت هذه الدعوة من أهم ما شُغِلَ به صاحبنا إبان الخمسينيات بصفة خاصة، إذ كان على اعتقاد بأن حياتنا الفكرية، وإن تكن فقيرة في ذاتها، فأشد منها فقرًا قدرتنا على النقد التحليلي لما نتلقاه من فروع المعرفة، والنقد التحليلي هو آخر الأمر أساس للرؤية المستنيرة التي يُعَوَّل عليها في هداية السير، فالمثقفون منا — ودع عنك من ليس لهم من التثقيف إلا حظ قليل — قد يوفقون في سعة ما يعلمونه بحيث ترى المثقف منهم قادرًا على ذكر أسماء النابهين في ميادين العلم والفكر والأدب والفن والسياسة وأسماء مذاهبهم، إذا كانت لهم مذاهب، وبعض الحقائق التي يشتمل عليها كل مذهب، لكنك قليلًا جدًّا ما تجد المثقف الذي تبلورت له من ذلك كله «وجهة نظر» تلازمه ليؤسس عليها أحكامه فيما يستحدث من مواقف؛ ولذلك لم يكن شيئًا نادرًا في حياتنا، أن تجد المثقف ولا أعني مثقفًا من عامة المثقفين، بل أعني من له وزن ومكانة وريادة أن تجده يقول الرأي المعين اليوم، ثم يقول نقيضه غدًا، فقد يتخذ موقفًا سلفيًّا متطرفًا مرة، حتى إذا ما أمسى عليه المساء وأصبح الصباح سمعته وهو يدعو إلى ما يشبه النظرة الشيوعية في شئون الحياة، أو قد ترى أحدهم وقد تحمس إلى أساليب الفن الحديث يومًا ثم انقلب عليها بغير مبرر يومًا آخر، وكل هذا التخبط الذي لا يعرف لسيره سبيلًا يُتبع إنما هو تفريعات تتفرع عن غياب المنهج.
ولم تكن الدعوة إلى توجيه اهتمامنا إلى المنهجية لنستحدثها بعد غياب لتعني شيئًا كثيرًا إذا هي اقتصرت على ترديد كلمة «منهج» ألف مرة أو ألف ألف، بل كان لا بد من تفصيل العناصر — أو ما هو أساسي منها — التي لا بد أن نحرص على غرسها في الوعي غرسًا تتحول به إلى عادة يألفها صاحبها، كلما تناول فكرة معينة بالنظر، وغرس هذه العادة على هذا النحو عن طريق وسائل التعليم والتربية والتثقيف والإعلام هو في صميم عملية «التنوير»، ومن ثم رأيت صاحبنا لا يكاد يكتب شيئًا أو يحاضر في شيء حتى يلتمس كل وسيلة ممكنة لتعبئة المضمون الفكري المُقدم، بما يوحي بالتنبيه إلى ما يجب أن نتنبه له من شروط الرؤية المتسقة القادرة على توصيل صاحبها إلى ما يحقق له هدفًا من أهدافنا المضمرة في نفوسنا ونريد لها أن تتحقق على أرض الواقع أو في سمائه؟
ومن أجل هذا لم يكن أمامه بُد من تبيين العلاقات الواصلة بين ما نقوله أو ما نكتبه عن أمور حياتنا عندما يكون في سياق المواقف الجادة غير الهازلة من جهة ووقائع العالم الحادثة أو القائمة بالفعل، أو التي يمكن أن تحدث أو تقع إذا تهيأت لها الظروف المؤدية إلى ظهورها، وكانت محاولاته المُلحة في أن يوضح للناس وجوب هذا الربط بين «الفكرة» من ناحية و«الواقع» من ناحية أخرى من أشد العوامل التي أثارت الغيظ والسخط بدل أن تجد آذانًا تصغي ونفوسًا تقبل وعقولًا تعي، لماذا؟ لأن سوء الظن قد شطح بهم إلى الخشية أن تؤثر دعوة كهذه تدعو إلى توثيق العُرى بين القول ودنيا الواقع الحسي في قوة الإيمان بالغيب؛ إذ لا سبيل إلى قول يُقال عن حقائق الغيب، ليكون موصولًا بوقائع العالم المحسوس، وهي خشية تدل هي نفسها على غياب الحد الأدنى من الفكر المنهجي؛ لأن الدعوة إلى ربط القول بالواقع بالعقل، أو الواقع بالإمكان تقصر نفسها على مجال واحد من مجالات كثيرة، وهو مجال «العلم» على تفاوت درجاته، بدءًا من علم موغل في التجريد فنازلًا إلى علم قريب الصلة بوقائع الحياة، وليست هي دعوة تمد نطاقها إلى مقدار خردلة خارج حدود «العلم»، وإلا فهل نطالب الشاعر مثلًا ألا يقول عن الليل إنه كموج البحر إلا إذا بين لنا أين هو الماء الذي يموج به الليل؟ على أن صاحب الدعوة حين أراد أن يوطد الصلة بين أقوالنا والواقع وقصر دعوته تلك — بطبيعة الحال — على مجال «العلم» إنما أراد لدعوته أن تمتد من العلم بمعناه المعروف إلى ما يشبهه من أقوال يزعم أصحابها أنها قيلت عما هو واقع، فمن زعم للناس مثل هذا الزعم لقول ينشره فيهم فعليه أن يلتزم الحدود الضابطة لمثل تلك الصلة بين قول وأمر واقع.
ومع ذلك فهذا الجانب البدهي من جوانب الدعوة، التي من أهدافها أن تجعل المواطن مسئولًا أمام عقله كما هو مسئول أمام ضميره فيما تختص به أمارة الضمير، لم يكن أعسر الجوانب قبولًا عند المثقفين؛ إذ كان أشد منه عسرًا ذلك الجانب الآخر من أركان النظرة المنهجية الذي يبين بأن العبارة التي يقولها صاحبها عن شيء ليصف بها ذلك الشيء وصفًا يخلع عليه صفة خلقية أو صفة جمالية، مما يجعله مقبولًا أو مرذولًا، إنما هي عبارة «خاصة» بما يشعر به قائلها، وليست «عامة» تلزم الإنسان أينما كان وحينما كان بقبولها، فافرض مثلًا أن تقاليد مجتمع معين تقضي بألا يراجع ولد فيما يقوله والده، فليس مثل هذا الحكم التقويمي بملزم لأحد إلا أصحابه؛ لأنه حكم لا يُوصف بالصحة أو بالخطأ على نحو ما تُوصف الأحوال العلمية وأشباهها، بل هو حكم «ذوقي» يُبنى على قيمة من قيم المجتمع المعين، ولما كانت جميع الأحكام القيمية تتضمن الإشارة إلى «تفاعل» بين الإنسان وما يراه ويسمعه، وليست هي أحكامًا مقصورة على الإشارة إلى المرئي والمسموع وحده بغض النظر عن تفاعل الإنسان معه، كانت بحكم طبيعتها هذه قابلة لأن يختلف فيها النَّاس دون أن يكون ذلك الاختلاف دالًّا على صحة الرأي عند أحدهم وخطئه عند آخر؛ إذ لا تناقض بين أن يعجب معظم النَّاس بغناء أم كلثوم — مثلًا — وأن تجد قلة من النَّاس لا يشاركونهم هذا الإعجاب، وكل ما يمكن قوله في موقف كهذا هو الإشفاق على من لم يستطع تقدير مثل ذلك الصوت الجميل؟ فإذا أدركنا أن هذا المثل من اختلاف النَّاس في التقويم، يوضح لنا طبيعة الاختلاف الذي يقع بين النَّاس في حالات كثيرة جدًّا ويظنونه اختلافًا بين ما هو صواب عند أحدهما وخطأ عند الآخر، مع أنه في حقيقته اختلاف بين حالات «شعورية» لا شأن لها بخطأ وصواب، وليست هي دائمًا من نوع المثل البسيط الذي ضربناه، من أن هذا يحب صوتًا غنائيًّا لا يحبه الآخر، بل قد يتطور الأمر ليصبح اختلافًا في «القصائد» الدينيَّة أو في المعتقدات السِّياسية أو في الآراء حول أوضاع اجتماعية مما قد تدعو خطورته إلى تفجر القتال أحيانًا، مع أن الأساس الأول الذي بُني عليه الاختلاف هو مما يندرج في مجال الشعور قبولًا أو رفضًا، وإذن فهو مجال «خاص» بالأفراد وليس «عامًّا» موضوعيًّا يلتزم به الجميع، وعلى سبيل التطبيق السريع لما يحدثه هذا الخلط بين النوعين ذكر لنا صاحبنا عما حدث له ذات يوم، وكان بعد ثورة ١٩٥٢ بقليل، أن شُكلت لجنة لمناقشة خطة تعليمية جديدة وضعها مسئولون في هذا الموضوع، وكان صاحبنا عضوًا في تلك اللجنة، ولما بدأت المناقشة وجد أن أول بند من بنود الخطة المقترحة يحدد الهدف من التعليم بأنه إخراج المواطن الصالح، فأبدى رأيه في ذلك قائلًا: إن معنى «الصلاحية» المنشودة للمواطن في حاجة إلى تحديد، وإلا فما يعده فريق صالحًا قد يراه فريق آخر غير صالح. فدُهش رئيس الجلسة من هذا التعليق الذي يثير مشكلة فيما لا إشكال فيه؛ إذ ليس بين النَّاس إنسان واحد لا يعرف من هو المواطن الصالح «كما قال»، فلم يتركه صاحبنا ليمضي في كلام مُرسل وقال: إننا لتونا قد نجحنا في ثورة نعد أبطالها أمثلة للمواطن الصالح، لكن هل يوافق الملك المخلوع على هذه الصلاحية؟ فالنقطة التي تتطلب التحديد والإيضاح هي: هل صلاحية المواطن تكمن في طاعته المُطلقة للنظام القائم مهما يكن فيه من مواضع القصور؟ أو أن الصلاحية هي في أن يستمع المواطن لصوت ضميره حتى إذا ما رأى ما هو في حاجة إلى التَّغيير، جعل نفسه أداة لذلك التَّغيير؟ وإذا تدبرنا مثل هذا الجدل بين صاحبنا ورئيس اللجنة وجدت أُس الاختلاف هو أن ما قد ظنه رئيس اللجنة مقبولًا قبولًا «عامًّا» لموضوعيته رآه صاحبنا مقبولًا عند رئيس اللجنة على أساس شعوري «خاص»، وإذن فالأمر في رأيه يتطلب تحديدًا حاسمًا لمعنى الصلاحية المستهدفة كي يتحول الموضوع من دائرة المشاعر إلى دائرة التفكير العلمي.
وأيًّا ما كان الأمر في هذا الصدد فقد كانت الدعوة إلى النظرة المنهجية في المسائل العامة أبرز خيط فكري في جملة خيوط شغل صاحبنا بغزلها خلال الخمسينيات ليجدها في آخر العقد قد تلاقت بين يديه في نسيج واحد.
وأما الخيط الفكري الثاني فهو ذلك الحرص الشديد عند صاحبنا على أن يتبين الفواصل الفارقة بين أنواع القول المختلفة يقينًا منه بأن الخلط بين تلك الأنواع مؤدٍّ حتمًا إلى فكر مهوش؛ إذ يجعل الإنسان في موقف يتطلب من نوع معين أن يلتزم ما تلزمه أنواع أخرى، ومن هنا ينتج الاضطراب والخطأ، ولعل أظهر ما تظهر فيه هذه الحالة تلك الحيرة التي كثيرًا ما أحدثت فجوة تلتها جفوة بين النَّاس، وأعني الحيرة في تحديد العلاقة بين العلم والدين، فأحيانًا يتنكر رجل الدين للعلم، كما يحدث أحيانًا كذلك أن يتنكر رجل العلم للدين، وأحيانًا أخرى يزعم لنا رجل الدين أن الدين علم، بل هو العلم بأداة التعريف، أو يزعم بأن كل ما جاء به العلم وما سوف يجيء به قد سبقه إليه الدين، وهكذا وهكذا مما قد سمع كل قارئ طرفًا منه.
كل هذا الاضطراب الفكري يختفي إذا عرفت الفوارق الدقيقة بين جملة ترد في الدين وجملة أخرى ترد في العلم، إنهما نوعان من القول مختلفان من حيث القناة الإدراكية التي يُعتمد عليها في كلٍّ من الحالتين، ومن حيث الصياغة التي يُصاغ بها المضمون، وأخيرًا من حيث موقف المتلقي، فالإدراك في حالة الحقيقة الدينيَّة إنما يكون قبولًا إيمانيًّا يتقبله الوجدان دون أن يطلب منذ البداية إقامة برهان على صحته، وأما الإدراك في حالة العلم فيكون دائمًا على مرحلتين يختلفان في العلوم الطبيعيَّة عنهما في العلوم الرياضية، وأما الأولى: فتجعل أساسها الأولي معلومات جُمعت عن الظاهرة المبحوثة، حتى إذا ما أوحت تلك المعطيات إلى الباحث بفكرة تفسرها كان المحك للرفض أو القبول بعد ذلك هو انطباق تلك الفكرة المقترحة على الواقع، وأما في الثانية أعني العلوم الرياضية: فالمرحلة الأساسية الأولى ليست معطيات تجمعت من وقائع العالم الفعلي، بل هي مجموعة من الفروض تُؤخذ مأخذ التسليم، لا لأنها بالفعل مقطوع بصحتها بمقاييس الواقع الوجودي، ولكن لأنه لا بد للعقل من عتبة يقفز منها إلى ما ينتج عنها، وإذا ما وصل العالم الرياضي إلى نتائجه عرضها كما تُعرض قطع الثياب الجاهزة، قد تجد من تلائمه من أفراد النَّاس وقد لا تجد، لكنها في كلتا الحالتين صحيحة من وجهة النظر الرياضية؛ لأنها استدلت من الفروض المُسلم بها استدلالًا صحيحًا.
ذلك هو الفرق بين الدين والعلم في طريقة الإدراك عند كل منهما، وأما الفرق في صياغة المضمون، حتى ولو كان المضمون واردًا في كليهما، فهو أن الدين يُستخدم بالطريقة التي تؤثر في وجدان المتلقي، فتجيء عبارته دائمًا على ضرب من ضروب البلاغة، وأما الصياغة في الحقيقة العلمية فمثلها الأعلى أن تُساق في تركيبة رياضية أو تركيبة من أحرف الهجاء «كما في الكيمياء»، وإذا لم يكن ذلك ممكنًا، كما يحدث في العلوم الإنسانية غالبًا، يلجأ الباحثون إلى دقة التعريف في تحديدهم للمعاني المقصورة فيما يستخدمونه من مصطلحات، والهدف في جميع هذه الحالات هو أن يصل البحث العلمي إلى جملة لا تعني إلا شيئًا واحدًا، وذلك الشيء الواحد لا يمكن تمثيله في جملة أخرى غير هذه الجملة، فلئن كانت العبارة البليغة تزداد بلاغة كلما حملت في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف الدارسين، لكلًّ تفسيره الخاص أو تأويله الخاص، بشرط ألا يخرج عن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه، فإن الجملة العلمية لا تجعل جوهرها مرهونًا بالغنى في جوانب التأويل، بل تجعله في الدقة التي لا تدع مجالًا إلا لمعنًى واحد، وبشرط مضاف هو أن ذلك المعنى الواحد لا يجد دقة صياغته إلا في تلك الجملة.
وأخيرًا تختلف الجملة في الدين عن الجملة في العلم في موقف المتلقي، فهو في حالة الدين يؤمن أي إنه يصدق ما قد تلقاه، وقد يجيء بعد ذلك أو لا يجيء من يبين بالبحث العلمي في مضمون ذلك الإيمان أنه مضمون يمكن إقامة البرهان الفعلي على صحته من الناحية الموضوعية، إلا أن ذلك لا يزيد شيئًا في إيمان المؤمن ولا ينقص منه شيئًا، فإيمان المؤمن بما آمن به موقف فردي خاص لا يتغير إن آمنت الإنسانية بأسرها أو لم يؤمن منها إنسان واحد سواه، وأما النتيجة العلمية فعلى خلاف ذلك؛ لأنها حقيقة «عامة» وليست خاصة بصاحبها، وهي اجتماعية وليست فردية، بمعنى أن مكتشف الحقيقة العلمية مُطالب بأن يُقيم على صحتها البراهين أمام مجموعة العلماء المتخصصين، فهي اجتماعية بهذا المعنى تقوم قائمتها أو لا تقوم بناءً على مراجعة المشتغلين في ميدانها لها، للتأكد من صحتها، فإن لم تثبت لهذه المراجعة سقطت من الحساب.
إنه ليتعذر علينا أن نتصور إمكان الخلط بين الجملة الإيمانية والجملة العلمية إذا كنا على بينة من تلك الفواصل الفارقة بين النوعين، وكثيرًا جدًّا ما يحدث للموقف الفكري الواحد جانب ديني إيماني وجانب علمي منهجي في آن واحد، ومع ذلك فلا يصعب علينا أن نرجع كلًّا من الجانبين إلى مجاله إذا أردنا ذلك، فافرض، مثلًا، أن عالم التفسير أو عالم الفقه الديني قد نظر في آية كريمة لتفسيرها أو لاستخراج ما تتضمنه من أحكام شرعية، ففي هذه الحالة تظل الآية الكريمة منتمية إلى دائرة الإيمان الديني، وتظل العملية التفسيرية أو العملية الفقهية منتمية إلى دائرة التفكير العلمي، فبينما تبقى الآية الكريمة موضع إيمان من كل مسلم لا اختلاف عليها بين مؤمن ومؤمن، يجوز أن يختلف المفسرون في طريقة تفسيرها أو أن يختلف الفقهاء فيما يُستخرج منها في مجال الأحكام الشرعية.
لكن الذي قد يحدث بين نصوص الدين ونتائج البحوث العلمية هو أن تخرج علينا بحوث العلم بنتائج نجد تناقضًا ظاهرًا بينها وبين نص من نصوص الدين، كما حدث مثلًا عندنا وعند غيرنا من أصحاب الديانات الأحرى حيال النظرية الدارونية في تطور الحيوان تطورًا جعل الإنسان حلقة أخيرة من حلقات السلسلة، بينما يَرِدُ في النص القرآني الكريم «وكذلك في التوراة والإنجيل» ما يدل على أن كل كائن حي بصفة عامة والإنسان بصفة خاصة قد خُلق على نحو ما خُلق منذ لحظة خلقه بأمر إلهي قُضي له بأن يكون فكان، فها هنا يتطلب الأمر مخرجًا لا ينتقص من الإيمان شيئًا، ثم يحاول أن يرى الحقيقة العلمية في ضوء يتسق مع ما يقتضيه إيمان المؤمن، إذا كان مثل ذلك المخرج مستطاعًا، فقد يكون العلم أخطأ جوهر الحقيقة، وكذلك قد يكون في مستطاعنا أن ننظر إلى الفارق النوعي الذي طرأ على ضروب الحيوان عامة وعلى الإنسان خاصة فجعله نوعًا قائمًا بذاته، على أنه أي الفارق النوعي هو المقصود في عملية الخلق بالنسبة إلى كل نوع، على حدة على أننا لا نقدم هذا القول ليكون رأيًا نتمسك بصحته.
فمهمتنا في هذا السياق من الحديث أن نبين الخطوط الفكرية التي امتدت مع صاحبنا خلال الخمسينيات ليراها في آخر ذلك العقد وقد تلاقت كلها في نسيج واحد.