رؤية موحدة «١»
أخذت الأعوام تنحدر على مسار الزمن، لتخرج من عقد الخمسينيات المزدحم بأحداثه، وكانت كلها أحداثًا تعمل على تغيير جوهري في هيكل البناء الاجتماعي، أو أحداثًا تتصدى لمن أراد الوقوف في طريق ذلك التَّغيير، ولتدخل في عقد الستينيات التي استأنفت حركة التَّغيير والتطوير، ولكنه تغيير انصب معظمه هذه المرة على تفصيلات الحياة داخل الهيكل الاجتماعي الجديد، وعند ذلك المنحنى الزمني بين العقدين نظر صاحبنا، فإذا الخيوط الفكرية التي ظهرت إبان الخمسينيات وما قبلها، وكأنها كتفرقة يسير كل منها مستقلًّا عن سواه، قد تلاقت بين يديه لترسم وجهة واحدة للنظر، وأصبحت هي الوجهة التي يسير على هداها، على نحو آخر يزداد على مر الأيام وضوحًا، وربما جاز لنا القول عن تلك النظرة الموحدة: إن مفتاحها هو رؤية جديدة للثقافة العَربيَّة، بين طبيعة تلك الثَّقَافة وجوهرها الأصيل، الذي ظل محورًا لها على امتداد الزمن، تتبدل حوله المتغيرات التَّاريخيَّة وتتحول، وهو في جوهر طبيعته ثابت ذلك الثبات النسبي الذي يتلاءم مع جريان الزمن؛ لأن الثبات المطلق لا يتحقق إلا لمن هو فوق الزمان وتقلباته وقيوده سبحانه وتعالى.
إن صاحبنا لا يدعي أن رؤيته الجديدة هذه، خصوصية الثَّقَافة العَربيَّة، قد خرجت على يديه مكتملة الكيان والقسمات كما خرجت منيرفا كاملة النمو من بيتها الصدفي، ولكنه كذلك لا يعرف أحدًا قبله قد رسم الصورة على نحو ما رسمها هو، وهي صورة تولدت لديه من تلك الفكرة الأساسية التي راودته مبهمة أول الأمر منذ الأعوام من أربعينيات القرن، حين أدرك الفارق الفاصل بين قناتي الإدراك عند الإنسان؛ إحداهما: للمدركات العقلية التي تكون منها العلوم وما يجري مجراها من أقوال يزعم لها قائلوها بأنها مطابقة لما هو واقعه في عالم الأشياء، والأخرى: لجوانب الحياة الوجدانية التي تتميز في طريقة إدراكنا لها، بأنها تُدرك إدراكًا مباشرًا لا يبحث لنفسه عن برهانِ صدقِه؛ لأن صدقه موثوق به عند نبضات القلب وخفقات الشعور، وكان صاحبنا منذ أخذ يميز — وإن يكن على شيء من الغموض — في جوف كل إنسان واحد يتصور أن في وضوح الفصل بين هاتين القناتين فيما يؤديانه يكون وضوح التفكير، وفي غموضه يكون الغموض، على أن ذلك الفصل بينهما لا يمنع أن يشتركا معًا في العملية الفكرية الواحدة، فيكون لكلٍّ منهما دوره الخاص به دون أن يتدخل في دور رفيقه.
ومثل هذه المشاركة بين وجهَي الإدراك — في العملية الواحدة، عند الفرد الواحد — هو ما رآه صاحبنا رؤية جلية أول دخوله في ستينيات القرن، وعندما تلاقت بين يديه خطوطه الفكرية المتفرقة في صورة موحَّدة، وكأنها خيوط تلاقت في منسوج واحد، رأى صاحبنا في ذلك سمة تميز العربي في وقفته من العالم وفي نفسه، ومن ثم فقد جاءت تلك السمة مميزًا للثقافة العَربيَّة الأصيلة، سواء أكان ذلك في عصورها القديمة، أم تجلى في أفراد نابهين من العرب المحدثين، ولا بد لنا هنا أن نستبق خواطر القارئ الذي ربما وجد في هذا القول تخصيصًا للعربي، ما هو في حقيقته صفة تعم البشر أجمعين، وجوابنا على ذلك هو: أن الأمر في تمييز الأمم بعضها من بعض بخصائص معينة إنما يُكتفى فيه بأن تكون الصفة المميزة الغالبة في أمة معينة منحصرة في أمة أخرى، وإلا فالبشر بشر على السواء، ينتمون جميعًا آخر الأمر إلى أبيهم آدم عليه السلام.
لقد بات مألوفًا لنا قسمة العالم — من الناحية الثَّقافيَّة — إلى «شرق» و«غرب»، والأرجح أن يكون أبناء «الغرب» هم الذين أطلقوا هذا التقسيم، وهو بالطبع تقسيم لا يخلو من دلالة؛ فإذا قلنا إن «الشرق» هو قارتا آسيا وأفريقيا بصفة أساسية، وأن الغرب هو أوروبا وأمريكا الشمالية بصفة أساسية أيضًا (كانت أوروبا تُعد وحدها أولًا، ثم أُضيفت أمريكا الشمالية بعد ذلك) فلنا أن نسأل: هل هنالك صفة مشتركة تجعل آسيا وأفريقيا وحدة ثقافية متميزة وصفة أخرى تجعل أوروبا وأمريكا وحدة لها ما يميزها، إننا لو أردنا الإجابة على هذا السؤال، بناءً على تصور أوروبا وأمريكا الشمالية، كما نرى ذلك التصور فيما يكتبونه عن «الشرق» وجدنا صفة «الشرق» تتضمن عندهم — أعني عند الغربيين — مجموعة من صفات التخلف والجهل والفقر، والغدر، والنفاق … إلخ، إلى جانب صفة واحدة أخرى تخلو من المعنى السيئ وهي «الرومانسية»، إذ هم يرون في العربي إنسانًا يؤثر العيش في أوهام الخيال على العيش في انضباط العقل، وما يتبع ذلك من نظرة علمية، لكننا إذا غضضنا النظر عما يظنه أهل الغرب في «الشرق» وحاولنا أن نجد صفة أو صفات أساسية مشتركة بين قارتَي آسيا وأفريقيا، مما يبرر أن تجمعا معًا تحت اسم وصفي واحد هو «الشرق» لقلنا إنهما يشتركان في قِدَم التَّاريخ الحضاري، وفي أنهما كانا منشأ الديانات عمومًا، ومهبط الوحي في ديانات الوحي الإلهي إلى أنبياء الله ورسله على وجه الخصوص، فإذا صح هذا عن «الشرق» أضفنا إليه ما عساه ينتج عن هاتين الصفتين من نتائج، وهنا نتعرض للخطأ وللصواب في الوصول إلى تلك النتائج، وكان بين الأخطاء التي وقع فيها أهل الغرب في تصورهم «الشرق» أن صوروا لأنفسهم «دروشة» الشرق ولاعلميته في النظر إلى وقائع الحياة، ضمن نتائج أخرى، وإذا كان تصورهم هذا داعيًا إلى العجب، فأعجب منه أننا نحن «الشرقيين» صدقناهم فيما تصوروا، ولم نجد مانعًا يمنع بأن نعيش حياتنا اليومية على هذا الأساس، فنقف من «العلم» موقف العداء وننظر إلى دروشة الزهد نظرة العطف والحنين.
ومهما يكن من أمر الحقيقة في هذا كله، فذلك هو ما ارتآه صاحبنا في المرحلة الزمنية التي يتحدث عنها، فجعله هدفًا لمقاومته بكل ما وسعه من معرفة بالتَّاريخ الفكري ومن قدرة على التحليل العقلي، فليقولوا ما شاءوا عن «الشرق»، لكن ثقافة العربي كما شهدها تاريخه لا تدرجه في «الشرق» بهذه المعاني، فقد بُنيت ثقافته على رؤية دينية، هذا صحيح، لكن تلك الرؤية الدينيَّة عنده لم ينتج عنها انصراف عن النظرة العلمية، كلا، ولا نتج عنها انصراف عن وجدانية النظر؛ ولذلك جاء العربي ملتقًى للقناتين تجتمعان في شخصه على نحو رآه صاحبنا فريدًا، إذا قيس إلى أهل الشرق الأقصى من ناحية، وإلى أهل أوروبا ابتداء من اليونان الأقدمين من ناحية أخرى، فبينما يتميز الأولون — بناءً على ما نراه في تراثهم القديم — بالنظرة الحدسية، الصوفية إلى الكون وكائناته كما يتميز اليونان الأقدمون، ومن ثم كل الغرب بعد ذلك، بالنظرة المنطقية العلمية إلى حقائق الأشياء، نجد العربي في رؤيته جامعًا للطرفين في نظرته وإنه إذ يفعل ذلك، فإنما يفعله بفطرته التي تكونت في وعاء صحراوي، كما شرحنا ذلك في شيء من التفصيل في موضع سابق.
وحسبنا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن نوجز القول في هذه الخاصية العَربيَّة، فإذا تصورنا نموذجًا يوضح طريقة العربي في التفكير، كان هذا النموذج مؤلفًا من مقدمة تُؤخذ مأخذ التسليم، تُنتزع منها نتائجها التي تترتب عليها؛ أما المقدمة: فهي عادة نص لغوي مأخوذ من وحي ديني، أو من موروث بشري مأثور، وأما النتائج: فهي ما تؤديه فاعلية «العقل» عندما تسلط أدواتها على تلك المقدمة وما تنطوي عليه، فإذا نظرت إلى هذا النموذج، وجدته في ذاته نقطة التقاء بين «عقل» و«وجدان»، وهما القناتان الإدراكيتان اللتان اتخذ منهما صاحبنا محورًا يقيم حوله وجهة نظره، فالمقدمة في أغلب الحالات مأخوذة من مصدر له علاقة وثيقة بوجدان العربي؛ لأنها يغلب أن تكون — كما أسلفنا — إما نصًّا من الدين، وإما موروثًا مأثورًا عن السلف، وكلتا الحالتين وثيقة الصلة بقلب الإنسان وما يحنو عليه، وأما النتائج التي تولد من تلك المقدمة فهي حصيلة عملية عقلية صرف، قد يختلف عليها من أراد أن يختلف بغير حرج، شريطة أن يبين وجه الخطأ الذي يراه قد وقع من طريقة استدلالها.
وعلى هذا الضوء تستطيع أن تراجع الفكر العربي حتى وهو في أزهى عصوره لترى كيف أنه فكر بُنِيَ معظمُه على «مقدمة» أو مقدمات يحيط بها شيء من التَّقديس أو من التوقير، بحيث لا يسهل على العربي التشكك فيها أو رفضها، ثم تُولد النتائج وتنشأ المذاهب وتتشعب الآراء، فيما يستخرجونه من تحليل تلك المقدمة وما تتضمنه، ترى ذلك واضحًا عند جماعة المتكلمين (علم «الكلام» هو تحليل طائفة من المعاني التي وردت في كلام الله سبحانه وتعالى) كما تراه واضحًا عند عمل الفيلسوف منهم، هو أن يضع بين يديه حقيقتَين كُبْرَيَيْن: الأصول الإسلاميَّة من جهة، وما ترجموه عن الفلسفة اليونانية من جهة أخرى، ليرى كيف يخلص إلى موقف يجمع بين الطرفين، وانظر إلى هذا العنوان الذي أطلقه ابن رشد على أحد مؤلفاته، وهو: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال» (والحكمة هنا ومعناها ما قد ورد في فلسفة اليونان) وواضح من هذا العنوان أن هدف المؤلف هو البحث عن مواضع الاتصال بين الشريعة الإسلاميَّة والفلسفة اليونانية، وهو هدف لم يقتصر على ابن رشد وحده، بل يعم الحركة الفكرية كلها، ولو أن المفكرين العرب المحدثين فيما له صلة بالفكر الفلسفي، أرادوا أن يحذوا حذو أسلافهم، مع مراعاة الفوارق بين عصرنا وعصرهم، ليجعلوا هدفهم العام هو البحث عن مواضع الالتقاء بين عقيدة الإسلام وشريعته، من جهة، و«علوم» الغرب في صورتها الراهنة، من جهة أخرى؛ لأنه إذا كان «الغرب» فيما مضى (وهو اليونان) قد أدار حياته الفكرية حول «الفلسفة» فإن غرب اليوم يدير حياته الفكرية حول «العلم» الطبيعي وتقنياته بصفة خاصة، ومثل هذه الوقفة التي تبحث عن صيغة فكرية، تحافظ على عقيدتنا والعناصر الأساسية الأخرى من هويتنا العَربيَّة، وتحاول في الوقت نفسه أن تدمج في تلك الصيغة متطلبات الحياة العلمية الجديدة أقول: إن مثل هذه الوقفة هو على وجه الدقة ما يلخص الرؤية الموحدة عند صاحبنا.
وتحقيق هذا الهدف يتطلب أول ما يتطلب أن نكون في حياتنا الثَّقافيَّة العامة، وفي أجهزتنا التعليمية — نظامية وغير نظامية — على بينة واعية بحقيقة أنفسنا كما تجلت في منجزاتنا على امتداد التَّاريخ، من ناحية، وعلى بينة بجوهر هذا العصر تحيط بنا أحداثه، ويكون بأحداثنا الخاصة جزءًا منه، من ناحية أخرى، لنهتدي في رسم طريقنا، نعمل على أن تجتمع الناحيتان في حياتنا كما نحياها بالفعل وليس كما نرسلها أمنيات فيما نكتبه أو نذيعه، ولنبدأ بالحديث عن المطلب الثاني، وهو إلمامنا بجوهر عصرنا، إذ هو أبعد ما يكون عن الوجود الواضح في أذهاننا، ولقد وقع صاحبنا على أمثلة أثارت دهشته لأقوال نُسبت إلى أفراد من ألمع أبناء هذه الأمة ذكاءً واطلاعًا يتساءلون بها عن المعنى المقصود ﺑ «المعاصرة» التي نطالب بها، كما طالب في واقع الأمر أغلبية غالبية من أعلام نهضتنا الثَّقافيَّة الحاضرة، منذ رفاعة الطهطاوي، ومرورًا بالشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، ولطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، والدكتور هيكل، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، وغيرهم، ومع ذلك يتساءل المتسائلون برغم منزلتهم الرفيعة في حياتنا عما نعنيه بالمعاصرة، وتكاد تسمع رنين النبرة الساخرة في سؤالهم حين يقولون: كيف نطالب بالمعاصرة ونحن نحيا في عصرنا بالفعل؟ وإذا لم نكن كذلك ففي أي عصر نحيا إذن؟ ويفوت هؤلاء الأفاضل إدراك بدهية تفرض نفسها، على العقل بلا عناء ولا افتعال، وتلك هي أن معنى «العصر» في هذا السياق، هو الأفكار الأساسية التي يدور حولها النشاط المنتج المؤثر بشتى صوره من علم وفن وسياسة واقتصاد ونظم للحكم وللتعليم، إلى آخر هذه المحاور التي هي مقومات العصر، فليست المسألة هنا مسألة أنفاس يتنفسها الكائن الحي، وطعام يأكله وثوب يرتديه، يوم كذا، من شهر كذا، من السنة الفلانية، فتكفل له أن يُحسب على عصره؛ لأن هذه الأمور كلها قد تتحقق لإنسان اتجه بفكره كله وبمشاعره كلها نحو عصر من عصور الماضي ليعيش فيه مع أفكاره وأشعاره وأبطاله، بل المسألة هنا هي بمشاركة العصر الحاضر في «فكرته» التي خلعت عليه سماته المميزة، فلكل عصر «محورية كبرى» تجيء لتحل محل فكرة أخرى كانت لها السيادة، ثم استهلكت واستنفدت أغراضها وظهرت للناس حاجات جديدة استحدثتها الحوادث، ثم ما هي إلا أن تراكمت في حياة هؤلاء النَّاس، وهم في ظل الفكرة القديمة، بمشكلات فوق مشكلات «تصرخ» كلها في طلب الحل، وهنا تُولد «الفكرة الجديدة» لتنمو ويشتد ظهورها حتى تُزحزح الفكرة القديمة، فيذهب بذلك عصر، ويجيء مكانه عصر، ليس بمعنى السنين وأعدادها، بل بمعنى نوع المشكلات الحيوية التي تثقل على عواتق النَّاس ما تريد ليعالجها القادرون.
فما هي «الفكرة» المحورية التي تدور حولها اهتمامات عصرنا هذا وهمومه: إننا نستطيع أن نضع بين أيدينا قائمة طويلة بأفكار، كل فكرة منها تصلح أن يُقال عنها إنها محور العصر، فلنا أن نقول: إنها فكرة «التَّغير المستمر» في مقابل ما كان سائدًا من جمود الحياة وركودها، أو إنها فكرة «التَّقدم» بمعنى أن حاضر الحياة وما سوف يتبعه من مستقبل، له أفضلية على الماضي، فليس «العصر الذَّهبي» هو ذلك العصر الذي انقضى، بل هو عصر يعمل الإنسان في حاضره تمهيدًا ليتحقق عصر ذهبي في مستقبله، أو إنها فكرة «العلم الطبيعي» في صورته التقنية الجديدة؛ لأنه أسرع الوسائل كشفًا عن حقائق الكون، وتسخيرًا لها في حياة الإنسان، وهكذا، إلا أن هذه الأفكار المتعددة في ظاهرها، إنما هي على الحقيقة أوجه مختلفة لجوهر واحد، ربما نحسن قولًا لو جعلناه «حرية» الإنسان، فكل ما أسلفناه من أفكار يصح أن نميز بها عصرنا هذا، تنطوي آخر الأمر على أن تحقق للإنسان «حرية» لم يكن يحلم بها في أي عصر شهده التَّاريخ فيما مضى.
وما أكثر ما كتبه صاحبنا منذ حمل القلم كاتبًا، عن «الحريَّة» من زواياها المختلفة؛ إدراكًا منه لهذه الحقيقة الكبرى، التي هي لب العصر وجوهره، وإنها لحقيقة يعرف عنها كل إنسان شيئًا كثيرًا أو قليلًا، ويطالب بها في حدود إدراكه لمعناها، وذلك لأنها «فكرة» أوسع من البحر المحيط، تبدأ في تصوير الإنسان بداية محدودة ثم لا تعرف لها نهاية بعد ذلك، تكون هي النِّهَاية التي ليس بعدها بعد، فلكل عصر، ولكل شعب، ولكل فرد أن يغترف من بحرها المحيط ما وسعته القدرة أن يغترف، ولئن كانت لجميع «الأفكار» المثالية التي من هذا القبيل هذه الخاصية، وهي أن معانيها «تنمو» مع نمو الوعي، كما ينمو الشجر، إلا أن لكل شجرة حدودًا يقف نموها عندها، وأما أمثال هذه «الأفكار» فتظل تنمو مع نمو الوعي إلى غير نهاية معلومة، ومن هنا ندرك كم يخطئ كثيرون منا، عندما يقولون إن «الحريَّة» وأخواتها ومثيلاتها، قد عرفها السابقون فلا فضل لعصرنا فيها، إذ الذي يمتد وجوده بين السابقين وبيننا، ثم يمتد بيننا وبين من سوف يخلقهم ربهم بعدنا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هو اسم الحريَّة، وأما مدلول هذا الاسم فيما يمارسه النَّاس منها، فذلك ما لا يمكن التنبؤ به من الناحية النظرية، فلسنا ندري عن شعب معين مما يعاصرنا ونعاصره من شعوب، كم اتسع مدلول «الحريَّة» عند أبنائه، إذ أمر ذلك مرهون بواقع معين، يتطلب لمن أراد العلم به أن يجعله موضوع بحث علمي يجربه «على الطَّبيعة» كما يقولون.
ولمن شاء أن يسأل: وعن أي شيء يبحث الباحث عن مدى ما اتسعت به «الحريَّة» أو ضاقت عند شعب معين، أو في حياة فرد بذاته؟ إنه سؤال وارد ولا غرابة فيه؛ لأن كثرتنا الكاثرة قد وقفت في إدراكها لمعنى «الحريَّة» عند المعنى السلبي، إذ الحريَّة في أذهان أولئك جميعًا تحطيم لقيد أو قيود تحول دون أن يتحرك المقيد بها كيفما شاء وأينما شاء، والتحرر السِّياسي من المستعمر، أو من المحتل الأجنبي، أو من سيادة السيد، أيًّا كان نوع سيادته، كلها معانٍ وتصورات تندرج تحت الجانب السلبي للحرية؛ لأنها جميعًا «تحرر» من قيد، حتى إذا ما تحرر المقيَّد لا تكون «حريته» بالمعنى الإيجابي لهذه الكلمة قد بدأت بعد، فمن تفك عن قيوده يُقال له: لك الآن أن «تفعل» ما شئت، وفي «الفعل» الذي يختار ليؤديه تكون الحريَّة بمعناها الإيجابي، لكن «الأفعال» التي يجريها فاعلها لتؤدي ما أُريد لها أن تؤديه، تستبق بطبيعتها شرطًا لا يتحقق لها وجود بدونه، وهو أن يكون الفاعل على «علم» بحقائق الميدان الذي سيجري أفعاله في نطاقه، وبغير هذا «العلم» المسبق يبطل أن تكون الأفعال أفعالًا بالمعنى المعقول لهذه الكلمة؛ لأنها ستجيء حتمًا «خطبًا كخبط الثور في مستودع الخزف» كما يُقال، أعطِ للزراع آلة مستحدثة لري الأرض، أو لحرثها، دون أن يكون ذلك الزارع على علم بطريقة استخدامها، تصبح تلك الآلة المجهولة قيدًا على حياته جاء ليحل محل قيد قديم تحطم، لكن أعطِ الآلة نفسها لزارع يعرف كيف يديرها وكيف يصلحها إذا عطبت تزدد بها حريته في زراعة أرضه، فأعظم المعاني التي تُفهم بها «الحريَّة» الإيجابيَّة الفاعلة البناء هو ذلك المعنى الذي يتحقق لها عن طريق العلم بطبيعة الميدان الذي سيمارس الإنسان الحر حريته فيه، فالحريَّة بمعناها الأسمى هي حرية الذين «يعلمون»، وصدق الله العظيم حين قال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، كلا إنهم لا يستوون؛ لأن الذين يعلمون أحرار في نطاق ما يعلمونه، والذين لا يعلمون يفتقرون إلى الحريَّة حتى ولو لم تغل أجسادهم أغلال، وماذا نعني بحرية «الفكر» حين نطالب بها أو نتحدث عنها؟ إننا — بالطبع — لا نعني أن يكون للمفكر الحق في أن يدير فكرة في رأسه؛ لأن ذلك الحق مكفول لمن أراده، لا يستطيع أعتى الجبابرة أن يسلبه ذلك الحق، وكيف يسلبه شيئًا يُدار داخل جدران الجمجمة، لا يسمعه سمع ولا يبصره بصر، لكن الموقف يتغير من أساسه إذا ما عبرت الفكرة من مكمنها إلى علانية تنشرها بين خلق الله فيقرؤها من يقرأ ويسمعها منطوقة من يسمع ثم يزداد الموقف تغيرًا، إذ لم يقنع صاحب الفكرة بنشرها مكتوبة أو مُذاعة بالصوت، بل هم بترجمتها إلى «فعل» يجسدها، فهذه — إذن — ثلاث خطوات في حياة الفكرة المعينة هي بمثابة ثلاث درجات نحو «الحريَّة» بمعناها الإيجابي الفعال: خطوة أولى تكون الفكرة فيها بكماء حبيسة الدماغ في جسم صاحبها، وخطوة ثانية تلتمس الفكرة فيها طريقها إلى العلانية، وخطوة ثالثة تتمثل بها في فعل يحقق وجودها، والمستبدون من الحُكام لا يعنيهم أن تنحبس في رءوس المفكرين ما ينحبس من أفكار، وقد يكون منهم من يتسامح في الخطوة الثانية التي تخرج الفكرة من السر إلى الجهر، ما دامت تقف إلى فعل، وأما الخطوة الثالثة التي تحول بها الأفكار من «كلام» إلى «فعل» فهي حقًّا محك «الحريَّة» الفكرية إذا اكتمل وجودها.
بهذا المقياس يمكنك أن ترى كم نمت «الحريَّة» وكم اتسعت آفاقها، وعلت درجاتها بفضل «العلم» الطبيعي في صورته العصرية، التي هي صورة تملؤها التقنيات من حيث هي أجهزة تُستخدم في عمليات البحث العلمي، فتبلغ بها من عمق النفاذ ودقة الأرقام ما لم يكن يطوف بخيال السابقين، فكل ما عرفه العلم الطبيعي قبل عصرنا من أجهزة للبحث، تجري بها التجارب وتُقاس بها المقادير والأبعاد، لا تزيد إلا قليلًا عن لعب الأطفال إذا ما قيست مما هو بين أيدينا اليوم.
ثم لم يقتصر أمر التقنيات على أن تكون وسائل للبحث العلمي، بل جاوزت ذلك الحد لتخرج إلى حياة النَّاس العملية، تراها الآن في كل كوخ انعزل بصاحبه عن العمران، لكن جهاز الراديو الصغير في يده كفيل وحده بأن يصل الروابط بينه وبين أقطار الكوكب الأرضي جميعًا.
وما معنى ذلك فيما يتصل ﺑ «الحريَّة» التي نتحدث عنها في معناها العظيم؟ معناه أن قد تحول كثير جدًّا من أهوال الطَّبيعة التي كانت تخيف الإنسان وترعبه، لتصبح أطوع من مارد القمقم في أساطير الأولين، يخرجه فعل السحر ليؤمر فيطيع، لكنها هي حرية الذين يعلمون دون غيرهم ممن لا يعلمون، اللهم إلا ما يتصدق به أولئك على هؤلاء بما عملوا وما صنعوا، وواضح أنها حرية تتسع أو تضيق ما اتسعت دائرة العلم أو ضاقت، فهل نخطئ إذا قلنا إن الشعوب التي عرفت كيف تحطم قيود المستعمر تحطيمًا أكسبها التحرر من نير المستبد في عالم السياسة، لكنها مفقودة الحريَّة أمام مستعمريها السابقين؛ لأنها تركت جمهور الكشف العلمي ينفرد بها سادتهم السابقون، فظلوا سادة بعلومهم وما ينتج عنها من أدوات «الحريَّة» التي يقهر بها الإنسان ظلمات الكون وأسراره فتضيء نورًا وتجهر بعلانية، ويبقى تابع الأمس تابع اليوم، مقيدًا بجهالته وحموله، لم ينفعه إلا بالقيل أن أُزيلت عن جوارحه أطواق الحديد.
لقد ذكرنا لك فيما ذكرناه، أنه إذا كان أسلافنا أيام مجدهم، قد اختاروا لأنفسهم موقفًا فكريًّا يلتمسون به موقعًا يجمع لهم قلبًا إلى رأس، أو وجدانًا إلى عقل، وأنهم بعد أن نقلوا إلى العَربيَّة «حكمة» اليونان، أي فلسفتهم، جعلوا همهم أن يجدوا الصيغة التي تؤاخي بينهما شريعة الدين وحكمة اليونان، فكأنما وضعوا لنا برنامج العمل في يومنا هذا وكل ما في الأمر من تغير، هو أن نضع «العلم» — الذي هو طابع عصرنا — مكان «الحكمة» أو الفلسفة التي كانت طابع اليونان الذين يمثلون «الغرب» عندئذ، فيصبح شعارنا هو أن نبحث عن طريقة يلتحم بها «علم» العصر مع شريعة ديننا، فيكون لنا من الحياة الثَّقافيَّة ما نريد.
لكننا أضفنا إلى ذلك أن هذه الصيغة المرجوة لا تتحقق لنا، إلا إذا كنا على تصور واضح بطرفين؛ فنلم بحقيقة هذا العصر في جوهره لنعرف ما الذي يُراد له أن يلتئم مع الطرف الثاني الذي هو حياتنا نحن كما تريدها لنا عقيدتنا الدينيَّة، ومعها ما قد استقر في الوجدان العربي من قيم، فأما عصرنا فجوهره علم يزيد من حرية الإنسان، وأما موروثنا المأثور في نظرته إلى ذلك العلم وهذه الحريَّة المترتبة عليه فقد قدمنا عنه من الحديث ما يكفي.