رؤية موحدة «٢»
شهدت أعوام الستينيات في حياتنا ما شهدته من أحداث جسام يهتز لها رواسخ الجبال، فكيف بها على شعب في حالة انتقال من نظم اجتماعية بليت إلى نظم أخرى تعلق بها الرجاء في أن ترد للمواطن العادي قيمته وكرامته، بعد أن كانت قيمة الإنسان وكرامته مشروطَيْن بأن يكون ذلك الإنسان من الفئة المحظوظة، ولكن تلك الأحداث بكل جسامتها، بادئة من موجة تأميم اقتصادي غمرت معظم مراكز العمل، حتى أوشكت صورة الحياة دولة وعمالها، لم تترك للفرد المستقل فرصة وجود إلا في حيز ضئيل، إلى حرب سنة ١٩٦٧م مع إسرائيل وما انتهت إليه من كارثة الهزيمة، وما تبعها من آثار هي أبعد مدى من أن يختزلها قلم في جملة عابرة، وبين رجة التأميم في أعوام الستينيات، ورجة الهزيمة في أواخرها، كانت الحياة الثَّقافيَّة قد مالت بمعظم ثِقلها نحو «السياسة» بالمعنى المباشر لهذه الكلمة وبالمعنى غير المباشر معًا، بحيث أخذت الأصوات وأصداؤها تدوي بعبارات وكلمات تحمل إلى أذن السامعين روح المذهبية السِّياسية قبل أن تصل معانيها إلى العقول لتتدبر في رؤية وتحكم، فامتلأ جو سمائنا ﺑ «اليمين واليسار» و«الصراع الطبقي» و«الكادح المطحون» و«سيادة اليد العاملة» وما إلى ذلك، فأحس صاحبنا إزاء هذا كله بكثير من القلق؛ لأنه رأى في مُجمل الموقف — من الزاوية الثَّقافيَّة — تبعية الثَّقَافة للسياسة، وكان الصواب عنده دائمًا هو أن تكون الريادة للثقافة، ثم تجيء السياسة وغير السياسة فروعًا لها، والفرق بين الحالتين قد لا يظهر لكثيرين، لكنه فرق يستحق وقفة متأنية ليتبين وجه الحق.
كان صاحبنا، وما زال وسيبقى على رأي يراه ولا يتصور سواه، وهو أن الحياة السوية للشعب، وللفرد الواحد على حدٍّ سواء، تقتضي أسبقية «الفكرة» على تنفيذها، وإنه لضرب من الاحتجاج على «العقل»، ومن التنكر للفطرة السليمة أن يروج المروجون لعكس هذا الترتيب المنطقي لخطوات السير، فالفكرة من الأفكار لا تكون شيئًا على الإطلاق إن لم تكن في حقيقتها خطة عمل، وتظل تلك الخطة «نظرية» ما دامت في ذهن حاملها ثم تتحول لتصبح «عملية» عند تطبيقها، وإذا كان ذلك كذلك، لم يعد أمامنا موضع للشك، في أننا إذ ما وسعنا نطاق الحديث فجعلنا الفكرة الواحدة مجموعة أفكار متشابكة الأطراف في شجرة واحدة، ثم أضفنا إلى شجرة الفكر ما قد يتصل به من مبدعات الفن والأدب، بل أضفنا كذلك إلى هذا وذاك حياة العلم، والتعليم والإعلام لنجعل من كل هذه الجوانب حياة واحدة هي التي أشرنا إليها باسم «الحقيقة الثَّقافيَّة»، لم يكن لنا بُدٌّ من القول بأن الترتيب الطبيعي للأمور، هو أن يتشرب الشعب روح تلك الحياة فيتولد له من ذلك «رؤية» «معينة»، على أساسها ينشط الأفراد بما ينشطون به، وعلى أساسها كذلك تُبنى أحكامهم بالصواب وبالخطأ على أقوال النَّاس وأفعالهم، وما «السياسة» وأصحابها وما يختلفون عليه من مذاهبها إلا جزء مما تنتجه الحياة الثَّقافيَّة على نحو ما انطبعت به قلوب المواطنين وعقولهم، بل إن الاختلاف حول المذاهب السِّياسية ذاته لا يكون عندئذ إلا اختلافًا على «الوسائل» المؤدية إلى تحقيق «الرؤية» الثَّقافيَّة كما يحياها المواطنون.
فإذا رأينا حياة انعكس فيها ترتيب المراحل، بحيث أملى رجل السياسة مستلهمًا ما قد اختاره لنفسه من مذاهب السياسة على مبدعي الثَّقَافة بمختلف فروعها ما ينبغي لهم أن يتجهوا بإبداعهم إليه، علمنا أن في الأمر خللًا جعل التابع متبوعًا والمتبوع تابعًا.
وكانت هذه هي الصورة كما تصورها صاحبنا لحياتنا خلال الستينيات، وحدث في منتصف ذلك العقد من السنين، أن عرضت عليه وزارة الثَّقَافة أن تنشئ باسمها مجلة تُعنى ﺑ «الفكر»، فلم يتردد في القبول، وأطلق من فوره الاسم على الوليد قبل ولادته، وهو أن يكون اسم المجلة الجديدة «مجلة الفكر المعاصر»، وبينما هو في سبيل إعداده لظهورها نشر أول إعلان عنها في الصحف قائلًا عنها إنها لا تفرق بين يمين ويسار في عالم الفكر، إذ هي تسعى إلى إيجاد فاعلية فكرية حرة لا تُفرض عليها فروض مسبقة، وإلا زالت عن «الفكر» الصحيح أخص خصائصه، وذلك أنه يهدي، وإذا رأيناه اهتدى بغيره، فإنما يهتدي بالوسائل التي تمكنه من سداد الخطى نحو نتائج يضمن لها أكبر قدر من الصواب.
وصدرت مجلة الفكر المعاصر أول عام ١٩٦٥م، والتزمت نهجها، وكان من أبرز ما عُني صاحبنا فيما كتبه هو من مقالات، تحليلات مستفيضة لأفكار يكثر ترددها حوله، فيحس هو إزاءها بدرجة من غموض معانيها ما لا يتفق مع أهميتها في الجهاز الفكري العام، فيتولاها بتلك التحليلات ليفهم هو أولًا ماذا يمكن أن تحمله في جوفها من مضمونات ليعرضها على «العقل» عرضًا واضحًا، فالوضوح الفكري هو حجر الزاوية في أي عصر يُراد له أن يكون عصر تنوير ونور.
وضوح الأفكار المتداولة بين النَّاس شرط أساسي لتحقيق الوحدة التي تجعل منهم أمة واحدة أو شعبًا واحدًا، هذه حقيقة مكفول لها القبول من ذوي الشأن جميعًا، لكن المشكلة في هذا الصدد هي أن تجد أكثرية عظمى من أبناء الشعوب التي لم تظفر بقدر كافٍ من التنوير بالتعليم والتوعية، تقيم حياتها على أفكار ترددها بالشفاه، وكأنها مفهومة لهم فهمًا واضحًا، فإذا ما اختبرتهم وجدتهم لا يحيطون منها إلا بإيقاع أسمائها في مسامعهم وهم لا يشعرون، ومن هنا سهل على من أراد أن يتحكم في أمثال هذه الجماعات أن يفرض سلطانه بأيسر السبل فيكفيه شيء من الجرأة على الحق، يُضاف إلى شيء من طلاقة اللسان، يرسل بها في الجماهير عقودًا منضودة من كلمات يحسن وقعها على النفوس، فإذا بالرجل يقبض على الزمام، وإذا بالجماهير تهتف له هتافات تشق الحناجر، ثم ما هو إلا وقت يمضي حتى يتبين لمن يهمه أن يتبين أن تلك الكلمات بقيت على حالها كلمات لم يتحول شيء منها إلى فعل يحقق الأحلام، لماذا؟ ليس ذلك لأن الحاكم لا يريد لشعبه الحسنى، بل هو يريدها، لكن الأفكار التي كانت تلك الكلمات قد جاءت لتعنيها، لم تكن واضحة له كل الوضوح، إذ هو بدوره قد نقلها عن غيره قراءة أو استماعًا، فأخذت بلبه وأراد بكل نية حسنة — ربما — أن يشيعها في قومه؛ تمهيدًا لتحويلها إلى حركات قومية تغير من وجه الحياة التي يعيشها النَّاس، فلما جلس على كرسي الحكم، وهم بالعمل، لم يدر ماذا هو فاعل تحقيقًا لأمله وآمال أمته، فالفكرة الواضحة في ذهن صاحبها هي وحدها التي تسهل ترجمتها إلى فعل محدد؛ لأنها بطبيعتها تماثل خطة رُسمت بدقة، بحيث يستطيع المكلفون بتنفيذها أن يخرجوها إلى واقع ملموس يتسم بالدقة نفسها، التي كانت في الخطة المرسومة، وانظر إلى مهندس العمارة كيف يفرغ من مطبوعاته الزرقاء، التي يصور بها ما قد أراد تنفيذها في البناء المعتزم إقامته، ويسلم رسومه إلى مقاول التنفيذ، فلا يتعذر عليه أن يجسد الخطة في عمارة، ومثل هذه العلاقة التماثلية هو نفسه ما نطلب تحقيقه في العلاقة بين «فكرة» معينة وتطبيقها، فبمقدار وضوحها ودقتها يكون انضباط التطبيق ودقته.
إن المناخ الثقافي الذي يلف القوم ليتأسوه في حياتهم عقائد ومذاهب وطقوسًا ونظمًا اجتماعية، ليس ترفًا من الترف الذي لا يختلف الأمر فيه كثيرًا أن يقوم أو يقعد أو يزول، بل هو — آخر الأمر — أداة للعيش، إذن فلا بد للأداة أن تفعل فعلها في وصول النَّاس إلى ما يبتغون الوصول إليه؛ وعلى ذلك فالمعول في قبول ثقافة بعينها أو في رفضها، هو قدرتها على تحقيق الغاية التي يتعلق الجمهور بتحقيقها، شأنها في ذلك شأن كل أداة؛ فمفتاح الباب لا يكون مفتاحًا لمجرد كونه قد أخذ شكل المفتاح بل لا بد له أن يفتح الباب المغلق ليستحق اسمه هذا، وكذلك قل في مُرَكَّب ثقافي يُراد للشعب أن يمارس حياته العملية في ثناياه وحناياه يستمد أفراده منه معايير الحكم على الأشياء والأحياء والمواقف بالقبول أو بالرفض، فليس قدره مرهونًا بحب النَّاس له أو عطفهم عليه لأسباب تاريخيَّة أحيانًا ولأسباب دعائية أحيانًا أخرى، بل إن قدره هو نفسه مقدار صلاحيته للارتفاع بشأن من يحبونه حتى يصبحوا أخلص إيمانًا، وأوسع علمًا وأمضى إرادة، وأوفر ثراءً، وأصح نفوسًا وأبدانًا، وأوثق مؤاخاة بين إنسان وإنسان.
ولا يتحقق للمركَّب الثقافي أداء هذا كله، إلا إذا توافرت له شروط الفاعلية التي من أهم أركانها وضوح الأفكار وبصفة خاصة تلك الأفكار المحورية التي تُدار عليها عجلات الحياة الاجتماعيَّة، كالوطنية، والانتماء والتَّقدم، والحريَّة والعدالة والتعاون … إلخ ولا عجب — إذن — أن نجد أعلامًا من أعظم من عرف تاريخ الفكر البشري، توجهوا بعمايتهم نحو تدقيق النظر في «وضوح الفكر» ماذا عساه يعني على وجه اليقين (أو ما يقرب من ذلك إذا تعذر اليقين)؟ كان من هؤلاء الأعلام سقراط في اليونان القديمة، وكان منهم ديكارت في مشارف النهضة الأوروبيَّة التي أخرجت الغرب من عصوره الوسطى لتدخله في تاريخه الحديث، وربما كانت تلك الدعوة الحريصة على استيفاء الوضوح للحياة الفكرية من أدل المؤشرات على الرغبة الشديدة في أن تُقام للفكر العلمي دولته؛ إذ لا تقدم لحضارة بغيره مهما يكن من قدر العناصر الضرورية الأخرى في مقومات البناء الحضاري.
وقد يختلف فلاسفة المنهج العلمي في الطريقة المثلى لتوضيح الأفكار، فقد كانت الطريقة عند سقراط مقارنة الأقوال المختلفة عن الفكرة المراد توضيحها للبحث عما يمكن أن يكون منطويًا في تضاعيفها من تناقض داخلي بين عناصرها، فإن وجد مثل هذا التناقض رفض القول لبطلانه، وذلك فضلًا عن محاولته رد الفكرة إلى المبدأ العام الذي هي فرع تولد عنه، وبعبارة مختصرة كانت طريقته هي نفسها طريقة الرياضي إذا أراد البرهنة على صحة جملة رياضية معينة، لا كمعادلة في الحساب، أو نتيجة من نتائج الاستدلال في الهندسة، إذ يجب أن تكون خالية من التناقض بين أجزائها كما يجب ردها إلى الأصول التي استدلت منها، للتأكد من سلامة الاستدلال، وأما ديكارت فكانت طريقته هي أن تكون الفكرة الواضحة مما يمكن إدراك صحته إدراكًا باطنيًّا مباشرًا، كإدراك الإنسان لوجود ذاته، ومن هنا تبدأ عملية الاستدلال، فتكون كل نتيجة متنوعة من الفكرة الأولية صحيحة كصحة الأصل الذي تولدت عنه.
ولا نترك هذا السياق قبل أن نشير إشارة سريعة إلى أن طريقة المحدثين والمعاصرين في البحث عن وضوح الأفكار مختلفة عن طرائق القدماء في جوانب جوهرية، من أهمها أن القدماء كانوا ينظرون إلى المدرك العقلي المعين — كقولنا «تقوى» أو «وجود» — على أنه حقيقة قائمة بذاتها يمكن وصفها بالوضوح أو الغموض، في حين أن هاتين الصفتين لا تعنيان شيئًا إلا إذا كان الموصوف بهما جملة كاملة التكوين، وإذا قلنا «جملة» فقد قلنا عدة أطراف وما يربطها من علاقات، خذ مفهوم «الحريَّة» — مثلًا — فلا يؤدي بك إطالة النظر في هذا اللفظ إلى شيء ينفع، لكن ابدأ بوضع اللفظ في جملة تحتويه (فمثلًا): كان زعماء الثورة يدعون إلى حرية اجتماعية.
فها هنا يصبح واجبًا على من أراد ضبط المعنى، أن يسأل بالتفصيل عن الأنماط الحياتية التي كانوا يدعون إلى إقامتها للنظر في عناصرها وطريقة بنائها، وهل تشترك جميع هذه الأنماط في مبدأ واحد مشترك ما دامت قد انطوت كلها تحت عنوان الحريَّة الاجتماعيَّة، وفي تحليل تلك الأنماط المقترحة، ومراجعتها على الواقع التطبيقي، تظهر صحتها أو عدم صحتها؛ لأن مثل ذلك التحليل والمراجعة هو ما يجعلها «واضحة».
أنكون قد أطلنا الحديث عن وضوح الأفكار وما يعنيه؟ كلا؛ لأن مجموعة الأفكار المتداولة بين من يعنيهم الأمر، في عصر معين، إنما هي بمثابة لغة مشتركة يتم بها التفاهم بين الأفراد أو لا يتم، فإذا كانت أفكار «الحريَّة الاجتماعيَّة» و«الديمقراطية» و«العدل» و«الطبقية» و«البرجوازية» و«سيادة الجماهير» … إلخ شائعة على الأقلام — كما كانت خلال الستينيات — فإذا لم تكن معانيها «واضحة» على صورة يشترك فيها الكاتب والقارئ أو المتكلم والسامع نتج لنا مجتمع من الصم يقول المتكلم ما لا يسمعه الطرف الآخر، ومع ذلك يجيب هذا الطرف الآخر بما يجيب به، وهكذا يدور الحوار بين اثنين اعتصم كل منهما ببرج مغلق، ولقد كان صاحبنا يومئذ على شك يساوره بأن يكون ثمة تفاهم بالمعنى الصحيح بين الأفراد فيما يقولون ويكتبون، وفيم العجب وقد كانت هذه الحالة من «اللاتفاهم» هي المناخ السائد في العالم كله، ففي هيئة الأمم المتحدة لم تكن الأمم المتحدة، برغم استخدام أعضائها جميعًا لقيم وأهداف مشتركة بينهم في اللفظ، وإلا فمن ذا الذي يعلن بأنه عدو للديمقراطية، أو للحرية أو لحق تقرير المصير للشعوب؟! حتى إذا ما جاء دور التطبيق الفعلي على ما هو قائم على الأرض، وجدنا الطاغية الذي يطغى باسم الحريَّة، والعنصري الذي يدعو إلى التفرقة باسم الديمقراطية، وهكذا ومن هنا نشأ في عصرنا هذا ما يُسمى بأدب العبث، أو أدب اللامعقول كما أسميناه في بلادنا، وهو أدب يدور حول محور اللاتفاهم بين أطراف الحديث.
لكن ما الذي أردناه بهذا الذي عرضناه، في حديث نجريه عن الرؤية الموحدة التي تكاملت لصاحبنا منذ أن بدأ الزمن رحلته في عقد الستينيات؟ الذي أردناه متصل بجانب أساسي في تلك الرؤية الموحدة، وهو وجوب المشاركة بين أفراد الأمة الواحدة في العصر المعين، في «هدف» واحد، ليكون الاختلاف بين الأفراد بعد ذلك مقصورًا على الوسائل المقترحة لتحقيق ذلك الهدف، على أن هذا الذي رآه صاحبنا شرطًا لا مفر منه لإقامة حياة ثقافية سوية هو أبعد ما يكون عن الحالة الواقعة، فقد كنا يومئذ — وما زلنا — من الناحية الثَّقافيَّة عدة شعوب في شعب واحد، ثم تزداد الصورة تمزقًا إذا ألقينا نظرة إلى الأمة العَربيَّة وشعوبها، ويكفي أن نقول إننا لم نتفق على متجه نتجه إليه: أنتجه نحو الماضي لنعيده حيًّا من جديد؟ أم نتجه نحو حاضر عصري نهتدي به إلى صورة مستقبلية مشرقة؟ أنتجه في السياسة والاقتصاد نحو ما يسمونه يمينًا أم نحو ما يسمونه يسارًا؟ وإذا كان هذا ذاك فماذا يا ترى يعني «اليمين» أو «اليسار» في تفصيلاته، هل يضمن مجرد الاسم بيان مسماه؟ ومن هم الأصلح لتولي زمام الحكم من بين فئات المجتمع؟ وهكذا وهكذا كانت الأسئلة مطروحة في الجو الثقافي، إما لتجد الأجوبة الصريحة عند القادرين على الجواب، وإما ليجوز إعلان بعضها وليمتنع ظهور بعضها الآخر، لكن الذي يعنينا من هذا كله أن حياتنا الثَّقافيَّة افتقدت وحدة الغاية، فاستحال عليها السير في متجه يوحدها ويجمع روافدها في نهر عظيم واحد.
إن وحدة الهدف هي التي تميز العصر المعين بأبرز ما يميزه من سمات ليمكن وصفه بأنه عصر العقل، أو عصر الإيمان، أو عصر التنوير، وغير ذلك مما ألفناه في التفرقة بين عصور التَّاريخ، وإذا ما تحقق للشعب إجماعه على هدف، رأيت فروع الإبداع الثقافي قد اتجهت كلها في اتجاه واحد كل منها بوسيلته الوسيطة، فهذه موسيقى وألحانها، وهذا أدب وكلماته، وذلك تصوير وألوانه وهكذا، لكن هذه الوسائل الوسيطة على بُعد ما بينها يمكن أن تتشابه كلها تشابه «النظائر»، كالتشابه الذي يكون بين دوران القمر حول الأرض وحركة المد والجزر في البحار والمحيطات، فكلتا الظاهرتين — وبرغم الاختلاف البعيد بينهما في طبيعة كل منهما — متشابهتان في كونهما معًا نتيجة «الجاذبية»، فبفعل جذب الأرض للقمر يدور حولها كما يدور، وبفعل جذب القمر لماء البحار والمحيطات يرتفع الماء مدًّا ثم ينحسر جزرًا، فإلى أي حد — يا ترى — يوجد مثل هذا التشابه بين مبدعاتنا في الفن وفي الأدب وفي الفكر وفي التعليم وفي السياسة وفي الاقتصاد؟ إنه لو كان بين هذه الفروع في حياتنا تشابه يُذكر لما شهدنا كل فرع ينتقل على أيدي مبدعيه من النقيض إلى النقيض بين عشية وضحاها، فالأمر — فيما يبدو — مرهون عندنا بأفراد وما يتقبلون به في أمزجتهم كما يشاء لهم الهوى أكثر منه ارتباطًا بأمة متجانسة وهدفها الواحد، ومن أجل هذا جاء حديثنا الذي أسلفناه عن وضوح الأفكار وأهميته في إقامة الحدود التي تحدد المعاني وتقيم بالفواصل الفارقة بين ما اختلف منها، لنكون جميعًا على بينة بما نريده بالقول وما نقصد إليه من عمل.
والتزام الشعب بهدف واحد، يكون بمثابة الأمل المرتجى عند الجماهير وبمثابة البوصلة المنظمة لاتجاه السير عند المبدعين وسائر المشتغلين في شتى الميادين، لا يتنافى مع تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر، فحقيقة الأمر في ذلك — كما يصورها صاحبنا ذات يوم — تشبه أن يجلس جماعة من الرسامين حول مائدة مستديرة وضع عليها تمثال وطلب إليهم أن يرسموه، فها هنا يتحد الرسامون في الهدف، لكنهم بطبيعة الحال يختلفون في زوايا المنظور، فلكل منهم زاويته التي ينظر منها، اللهم إلا إذا شذ أحدهم وأبى إلا أن يجلس وظهره إلى المائدة فلا تمثال أمام بصره ليرسمه، وقد يختار لنفسه شيئًا آخر مما يقع عليه بصره، ومثل هذا الاختلاف الأساسي هو بالفعل ما يسود حياتنا الفكرية؛ إذ لو كان بعضنا يوجه نظره نحو الحاضر ومشكلاته ونحو المستقبل الذي يُراد لهذا الحاجز أن يمهد له، فإن بعضنا الآخر يدير ظهره لهذا الحاضر وما يؤدي إليه ليوجه البصر نحو صور من الحياة ذهب زمانها.
وليس تشبيه الوقفة المطلوبة بجماعة الرسامين حول ما يُراد لهم أن يرسموه، وبذلك فهم يشتركون في الهدف ويختلفون في وجهة النظر (بالمعنى الحرفي لهذه العبارة) أقول: ليس هذا التشبيه بعيدًا عن حقيقة ما نطالب به للحياة الثَّقافيَّة؛ إذ كيف يُتاح لنا أن نتصور الهدف المطلوب إلا إذا جسدناه لأنفسنا في صورة واضحة السمات والقسمات والحدود، إننا لو تركنا فكرة الهدف مجردة بغير قسمات وملامح تحدد بعض تفصيلاتها لتعذر على الذهن وعلى الخيال معًا، أن يتبينا الهدف الذي يُراد استحداثه ليتحقق وجوده بعد أن كان أملًا يُرتجى، ومهما يكن من أمر الهدف المنشود فهو بالضرورة أمل يتضمن تصورًا معينًا للمواطن كيف نريد له أن يكون؟ والشأن في ذلك لا يختلف كثيرًا عن شأن والد يحلم لوالده أن تنتهي به التربية إلى أن يكون طبيبًا مثل فلان، أو مهندسًا أو ما شاء لولده، وهكذا الحال بالنسبة إلينا إذا ما حلمنا لأمتنا أن تجيء مواطنوها في المستقبل المأمول بحيث يتحقق في أشخاصهم كذا وكذا من الشمائل والصفات، وهنا حقًّا ينشأ السؤال الصعب الذي قد طرح نفسه علينا بالفعل منذ أوائل القرن الماضي وتفرقنا — وما زلنا متفرقين — في الإجابة، فالصورة المرجوة عند بعضنا، كما أسماها، هي أن نعد شخصيات أسلافنا لتسكن جلودنا، وهي عند بعضنا الآخر أن نحاكي أبناء العرب ما استطعنا، ثم هي عند جماعة ثالثة أن ننشئ مواطنًا عربيًّا جديدًا، لا يحاكي الأولين ولا يحاكي الآخرين ولا يحاكي أحدًا؛ لأن مجرد المحاكاة تتضمن نسخًا لوجودنا الخاص، وهو وجود يتمنى له هذا الفريق الثالث أن يعمل على ديمومة الهوية العَربيَّة في أخص خصائصها، التي هي أن تستلهم الوحي، وأن تجعل الأولوية للخلود على الزوال، وأن تقرأ الكون قراءة من يكشف قوانينه، شريطة أن يكون التطبيق لتلك القوانين العلمية على شئون الإنسان مكومًا بضوابط الأخلاق، وغير ذلك مما أسهمنا فيه القول في مناسبات كثيرة سلفت، وكان صاحبنا من هذا الفريق الثالث، بل أفاض فيه القول والتحليل إفاضة جاوز بها عشرين كتابًا معًا جعله غير مسبوق في أنصار الفريق الثالث بنظير ينافسه، على أن صورة المواطن العربي الجديد لا ينبغي لها أن تقف عند ديمومة الهوية العَربيَّة في عناصرها الأساسية، وإلا فلا جديد، بل لا بد لها من إضافة تغرسها في تلك الهوية غرسًا لتنمو شخصية العربي مع الزمن، وهي إضافة تمكن العربي المعاصر من مشاركة عصره همومه وآماله، فمجرد مواجهة العصر لا يكفي، بل هي مشاركة إيجابية في إقامة بنيانه وفي تخليصه مما قد شابه أو يشوبه من نكسات، هو ما يحلم به صاحبنا مع سائر أقرانه من أعلام الفريق الثالث منذ رفاعة الطهطاوي وإلى يومنا هذا.
ولم يكن صاحبنا ينظر إلى استحداث المواطن العربي الجديد نظرته إلى أحلام البطالة التي يسترسل بها الحالم استرسالًا حرًّا غير مقيد بواقع يحدده، شأن من يطمع في نيل المطالب بالتمني، بل كان الأمر عنده مرهونًا بتربية وتعليم وتثقيف على منهج يؤدي إلى إخراج المواطن الجديد، لقد قال الفيلسوف الفرنسي «لليبنتز» (القرن ١٧) ذات يوم لأميره ما معناه: «سلمني قياد التربية جيلًا واحدًا من الزمان أغير لك وجه الحياة.» وقد أصاب القول إلى حدٍّ كبير، وربما كان استخراج المواطن الجديد ضربًا من أحلام لو أن الخاصة الثَّقافيَّة التَّاريخيَّة للعربي، فيها ما يستعصى على هذا التحول، لكن حقيقة الأمر غير ذلك، فالثَّقَافة العَربيَّة التقليدية — كما أسلفنا القول مرارًا — منطوية على نظرة مرغبة من جانب إيماني يتمثل في مقدمات بين يديه وهو يفكر، ومن جانب علمي يعمل به على إجراء عمليات استدلالية يلتزم فيها منطق العقل، ولسنا نطالب العربي الذي يبقى على هويته التَّاريخيَّة، ثم يضيف إليها ما يعاصر به حاضره الراهن بأكثر من استخدامه لهذين الجانبين في شخصيته.
كان صاحبنا ينظر إلى مكونات الشَّخصيَّة العَربيَّة نظرة والد سقراط كلما أراد أن ينحت قطعة من المرمر ليشكلها على أية صورة أراد، وقد سأله ابنه سقراط مرة، بعد أن وقف برهة ينظر إلى أبيه وهو ينحت المرمر ليخرج منه تمثال أسد: على أي اساس يا أبتِ تضرب الإزميل في الحجر ليخرج لك منه الأسد الذي أردت إخراجه؟ فأجابه أبوه قائلًا: إني أرى بعين الخيال ذلك الأسد رابضًا داخل الحجر، فأضرب الإزميل ضربات تشتد أو تضعف مهتديًا بالصورة التي يراها خيالي كامنة.
وعلى هذا النهج نفسه ينظر صاحبنا إلى خواص النفس العَربيَّة فيرى كامنًا في ثناياها ذلك المواطن العربي الجديد الذي يوقظ كوامن فطرته، فإذا هو أمام عربي جاء استمرارًا لآبائه في وقفتهم الدينيَّة العلمية من الكون، وجزءًا حيًّا نشيطًا فعالًا في حضارة عصره الراهن، مزودًا بكلتا خاصيتَيْه من دين وعلم.