رؤية موحدة «٣»
وقعت الواقعة في اليوم الخامس من شهر يونيو سنة ١٩٦٧، فأصابنا الذهول ولم نكد نصدق ما وقع، لكننا شعب لم يُولد بالأمس، بل هو الشعب الذي شهد مطلع الفجر من تاريخ الإنسان وهو يقيم للحضارة قوائمها، فإذا لم يكن هذا الشعب العريق قد تعلم من تاريخه إلا درسًا واحدًا، فذلك الدرس هو أن يعرف كيف يسرع إلى الوقوف على قدميه إذا كبا، وذلك ما قد كان بعد الهزيمة، إذ ارتد كل فرد إلى نفسه يسائلها أين كان موضع الخطأ؟ ثم ما هو أهم من ذلك: كيف يستقيم بنا السير من هنا والآن؟ وبالطبع كان لكل منا جوابه الخاص الذي يتلاءم مع طبيعة موقعه وما يؤديه، وما موقف الأمة من حيث هي أسرة كبرى، في أمثال هذه الظروف التَّاريخيَّة، إلا حاصل جمع الأفراد من أبنائها الراشدين، كيف يفكرون وماذا يصنعون.
وصاحبنا فرد من هؤلاء الأفراد، صناعته التعليم داخل أسوار الجامعة، لكنه دأب منذ شبابه الباكر، على أن يضيف إلى واجبه في قاعات التدريس، واجبًا آخر يشارك به في الحركة الثَّقافيَّة خارج تلك الأسوار، ومع ذلك فلم تكن الشقة بعيدة بين ما يؤديه داخل الأسوار وما يضطلع به خارجها؛ لأنه إذا كان التعليم مهنته، فالتثقيف مشغلته، وبين التعليم والتثقيف صلة كصلة الرحم التي تربط الشقيقين، لا سيما وموضوعه الذي تعلمه ويعلمه، ضارب في بنية الفكر من نهايات فروعها العليا إلى أطراف جذورها السفلى، وتلك هي طبيعة الدراسة الفلسفية.
وكان أول ما تبادر إلى ذهنه، عند محاسبة النفس يوم الهول والذهول هو أن يتدبر الصلة بين رجل الفكر من جهة، ومشكلات الحياة العملية من جهة أخرى، وقد لا يَرِد سؤال كهذا على طبيب، أو مهندس، أو قاضٍ، أو أحد غير هؤلاء، ممن ترتبط تخصصاتهم العلمية ارتباطًا وثيقًا بما يضطلعون به من أوجه النشاط العملي، فالطبيب يطب للمرضى، والمهندس يهندس المدائن والعمائر والطرق والجسور، والقاضي يفض منازعات المواطنين بما يقضي به القانون، وهكذا، أما رجل الفكر «المجرد» فيثير الحيرة عند من لا يعلمون إلا قليلًا عن طبيعة ذلك الفكر وصلته بالواقع الذي يحياه النَّاس، في البيت، والمتجر، والمزرعة، والمصنع، والمعمل، والمحكمة … فإذا قلنا لهؤلاء إن رجل الفكر المجرد قد ساءل نفسه صبيحة يوم الهول والهزيمة، قائلًا لها: ماذا أنت يا نفس صانعة منذ اليوم، حتى يتلاءم جهدك مع ما تقتضيه الرغبة في نهوض الأمة بعد كبوتها؟ فربما همس بعضهم لبعض: ما يمكن أن يؤديه رجل كهذا ينسج أثوابه من خيوط هوائية، إذا هي صلحت لطبقات الجو العليا، فهي لا تصلح للمسة الواقع فوق هذه الأرض؟
ولقد فات هؤلاء أن الجبل مهما ارتفع ليشق بذروته أعلى السحاب، فسوف تظل الروابط موصولة بين ذروة الجبل وسفوحه، ينزل ساكن الذروة إلى السفح كلما أراد، أو يصعد ساكن السفح إذا شاء واستطاع، وماذا صنع الفلاسفة على امتداد التَّاريخ؟ إنهم لم يكونوا يمضغون الهواء، أو يغزلون خيوطهم من أشعة القمر، بل كان كل منهم في عصره يقف في قلب الواقع الحي ومشكلاته من رأسه إلى القدمين، حتى وإن لم تكن وقفته تلك كوقفة الحداد من الحديد يطرقه، أو النجار من الخشب ينجره، ولكنه يغوص وراء المعالجة المباشرة التي يعالج بها الحداد حديده والنجار خشبه، وكل ذي مهنة خامة مهنته، حتى يقع على أطراف الخيوط الخافية عن الأعين والتي يحركها ما يحركها، فتنشأ عن حركتها تلك الأسطح الظاهرة التي يراها النَّاس، ألم نكن منذ برهة نتحدث عن هزيمة أمة بأسرها؟ فما الذي صنع الهزيمة؟ ابحث عنه ما شئت في ظواهر الحياة كما تراها الأبصار أو تسمعها الآذان، ولن تجد ما يجيبك عن سؤالك، اللهم إلا القليل؛ لأن الجواب كامن هناك في الخبء المستور، ويحتاج إلى خبير يعرف كيف ينفذ خلال الظواهر الظاهرة ليصل إلى رءوسها المستترة المضمرة، فعواطف النَّاس وأفكارهم وأعمالهم ومعاملاتهم، هي كالنبات في الحقل، يكشف لك عن سيقانه وأوراقه وثماره، لكنه لا يكشف عن جذوره الدقيقة في تربة الأرض، والتي هي مصدر ريه وغذائه.
وانظر إلى النَّاس من حولك، وهم في خِضم أوجه نشاطهم، فماذا ترى؟ هنالك علماء اختلفت ميادينهم، قد لا يقفون ليسألوا عن مناهجهم التي ينتهجونها في عملهم، لأنهم دُرِّبوا على إجرائها تدريبًا يصرف أنظارهم عما قد يكون مبثوثًا فيها من خلل يعرضهم للخطأ، إلى أن يقيض الله منهم واحدًا، يأخذه القلق، فينصرف إلى إعادة النظر في ذلك النهج الذي مارسه حتى ألفه، وها هنا قد يقع فيه على خلل كان السبب في بطء المسيرة العلمية وقصورها؟ فيعلنه على الملأ، وما هي إلا فترة تمضي حتى يستقيم المعوج في طريق البحث العلمي، وأما ذلك الزميل الذي كشف لهم عن الخبء، فيُطلق عليه اسم «الفيلسوف»! وربما يُدهش القارئ إذا علم بأن «الرياضة» التي عُرفت طوال العصور بدقتها البالغة، قد تعرضت في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، لنفر قليل من كبار علمائها، دب في نفوسهم قلق لما أدركوه من تناقض في الأسس التي تُقام عليها عمارة العلم الرياضي، وما إن تبين صدق زعمهم حتى تحول طريق الفكر الرياضي في متجه جديد، هو الذي أثمر لنا ما أثمره، وكان من ألمع الأسماء في هذا السبيل، برتراند رسل من إنجلترا، و«فريجه» من ألمانيا، وقد شاء لهما الله أن يلتقيا لأول مرة في مؤتمر عقده علماء الرياضة في أوروبا في أوائل هذا القرن (وفي أواخر القرن الماضي) ليتبين أنهما قد كشفا عن شروخ في ذلك البناء العلمي، كل منهما مستقلًّا عن زميله، فرصدهما سجل الفلسفة فيلسوفَيْن رائدين في هذا الميدان.
وكان الرأي على ما يقرب من الإجماع، في مجال العلوم الطبيعيَّة، بأن قوانين هذه العلوم مقطوع بيقينها يقينًا لا يختل مقدار شعرة هنا أو هناك إلى أن شاء الله للناس، أن يخرج من صفوف علماء الطَّبيعة أنفسهم، من يغوصون إلى أغوار أعمق، فإذا بأحدهم (هو هيزنبرج) يلمح في سلوك الكهارب داخل الذرة ما يستوقف النظر، وهو الإلكترون يقفز من فلك إلى فلك آخر قفزات لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها، وإن قفزاته تلك تحدث في لا مكان، ولا زمان، ومعنى ذلك أنه جزء من الطَّبيعة «حر» حرية مطلقة، فإذا أراد العلم استخراج قوانين سلوكه، فعليه بالمتوسطات الإحصائية، وقد أخذت هذه اللفتة الجديدة تتسع في نطاقها، حتى باتت قوانين العلوم الطبيعيَّة في حقيقتها إحصائية الطابع، احتمالية الصواب، وقد كانت لأحد الكبار المشتغلين بمناهج العلوم ملاحظة طريفة في هذا الصدد، وهي أنه بعدما كانت العلوم الاجتماعيَّة تحاول محاكاة العلوم الطبيعيَّة في وصولها إلى قوانين مطلقة الصواب، بدل اقتناعها بما هو إحصائي احتمالي، انعكس الوضع حين تبين أن الطابع الإحصائي الاحتمالي هو غاية المطاف، ولم يكن أمام السجل الفلسفي إلا أن يثبت في زمرة الفلاسفة أولئك الذين تعمقوا النظر في طبيعة التفكير العلمي، حتى وصلوا إلى نتائج غيرت مجرى التَّاريخ بالنسبة إلى ذلك الضرب من ضروب التفكير.
وهنا قد يقول لنا قائل: إنك حتى الآن لم تقدم لنا أمثلة للفكر الفلسفي، إلا من مجالات التخصص العلمي البحت، فمن بين علماء التخصص أنفسهم يظهر من يزيد القاع عمقًا ليصل إلى قاع أبعد غورًا، وأسميت هذا العمل فكرًا فلسفيًّا، وجعلت القائم به فيلسوفًا، فماذا عن سائر جوانب الفكر مما يقترب من اهتمامات النَّاس في حياتهم اليومية؟
وعن مثل هذا السؤال أجيب بأن الأمر يظل هو هو في أي مجال آخر، وأعني أن يجترئ باحث على أن يتناول بالبحث والتحليل والتعليل فكرة ما، كان الجمهور قد أخذها مأخذ التسليم، ثم بنى عليها جانبًا من حياته العملية، فإذا حدث لذلك الفاحص الجريء أن اهتدى إلى نتيجة تصادف عند العقل قبولًا، ويترتب عليها تغيير لوجهة النظر السائدة نحو ما هو أقدر على توضيح الغوامض، كان ذلك العمل متسمًا بالطابع الفلسفي، وكان صاحبه منتهجًا نهج الفلاسفة في تفكيره.
فافرض — مثلًا — أنك قد أدرت البصر في جوانب حياتنا السِّياسية والاقتصادية والاجتماعيَّة (وكل هذه جوانب متداخلة ومتشابكة) وأحسست نحوها بشيء من القلق وعدم الرضا، وهممت بالتفكير في الأمر لعلك واقع على علة رأيتها ولم يكن قد رآها سواك، فعلى أي نهج تسير، إذا كان في عزمك أن تحاكي الفلاسفة في طرائقهم، إنه لا سبيل أمامك في هذه الحالة إلا أن تفعل شيئًا شبيهًا بما فعله رجال العلم الذين ضربت لك بهم مثلًا، حين أقدموا على ما هو بمثابة قواعد الارتكاز المسلم بها عند زملائهم، محاولين تحليلها وردها إلى ما هو أصل نشأتها إذ الأغلب أن يؤدي ذلك الكشف إلى توضيح الرؤية وتيسير الوقوع على مواضع العلة.
ففي الجانب الاجتماعي من حياة الإنسان، بما في ذلك السياسة والاقتصاد وما إليهما، يحسن الحفر في أرضية البحث، حتى نصل إلى أول نشأة المجتمع، لنرى ماذا كان أساس تلك النشأة؟ هل اتفق أفراد على أن يجتمعوا في حياة مشتركة، بشرط أن يكون لهم حق اختيار الحاكم؟ أو أن رجلًا قويًّا أجبر الأفراد إجبارًا على أن يجتمعوا في قبضته، وما إلى ذلك من أمثلة تشعل فاعلية العقل بحثًا لها عن جواب، وعلى هذا الجواب يتوقف كثير من موازين الصواب والخطأ في الرأي، فإذا استطاع باحث أن يمضي في هذا الطريق، كان فكره متسمًا بالخاصية الفلسفية، وكان له من خصائص الفيلسوف بمقدار ما استطاع، وكثيرًا ما يوفق مفكر فيما يختص بمجال واحد محدود، ينظر فيه مثل هذا النظر بحثًا عن مبادئه الأولى، فيكون له من حق الانتماء إلى زمرة الفلاسفة بقدر ما يستحق، فقد يقتصر اهتمامه على مجال «اللغة» — مثلًا — أو على مجال «الفن» أو على مجال «الأخلاق» وهكذا، فيُقاس عند التقدير بمقياس الحجم الذي اقتصر عليه، ومدى نجاحه في التحليل والكشف، لكن صفة «الفيلسوف» بمعناها المطلق، لا تُطلق عادة إلا على أولئك العمالقة الذين استطاعوا جمع الوجود كله، بكل ما فيه من أقسام وميادين، تحت مبدأ واحد، فيه من الشمول والعمق ما يفسر كل مجال مما يمكن للفكر أن يجول فيه.
ويوضح لنا هذا الذي قدمناه، طبيعة العلاقة بين رجل الفكر المجرد وبين مشكلات الحياة، فالصلة بين الطرفين وثيقة، لكنها كثيرًا ما تخفى على الأبصار العابرة المتعجلة، فمشكلات الحياة العملية هي — بالطبع — مواقف استعصت على الأفراد في مجرى الأحداث اليومية، كمشكلة الإسكان، وارتفاع الأسعار، وهبوط المستوى التعليمي، وتلوث البيئة بفضلات الصناعة وغيرها من عناصر الحياة الجديدة، وعمل المرأة بين البيت وخارج البيت، إلخ، ويجيء تناول هذه المشكلات على عدة مستويات متدرجة، تبدأ في أدنى درجاتها من نقطة تقرب من أرض الواقع، كما يحدث في التقارير الصحفية التي تُؤخذ من مواقع المشكلة على الطَّبيعة، ثم تتدرج في عمليات التقليل وإيجاد الحلول، درجات قد يأخذ بعضها صورة البحث العلمي، حتى إذا ما ارتفعت عن المستويات التي تقصر البحث على المشكلة في ذاتها، إلى مستوى أعلى يضع تلك المشكلة مع غيرها مما يتصل بها، لتظهر علاقات وحقائق لم تكن لتظهر قبل أن تُوضع المشكلة في خريطة أوسع منها نطاقًا، كنا بذلك قد دخلنا ما يشبه طبقات الجو العليا، وعندئذ تنكشف للباحث المنابع والأصول، فتزداد المعرفة وضوحًا ودقة، ويزداد المختصون قدرة على حل المشكلات الحادثة في حياة النَّاس العملية فوق سطح الأرض، ولعل ثمة وجهًا للتشابه بين هذه الحالة وحالة الكشف عن منابع النيل، فقد لبث العالم دهرًا طويلًا — من مصريين وغير مصريين — يجهل من أين يأتينا نهر النيل بمائه؟ وما أكثر ما ورد في كتب الأقدمين قولهم بأن النيل يجيء بمائه من ينبوع في الجنة، إلى أن جاء عصرنا الحديث وعلماؤه الرحالة، فكشفوا لنا بكل الدقة عن الحقيقة الأرضية لهذا النهر العظيم، كشفًا وضع في أيدينا زمام النهر، نقيم عليه الضوابط والخزانات، ولو بقينا على أوهام السابقين، لبقي سر النهر لغزًا محيرًا، ربما دفع النَّاس إلى عبادته اتقاء لغضبه واستجداءً لفضله ونعيمه.
وهكذا الحال في عالم «الأفكار»، فكلها أفكار يحياها النَّاس حياة تطبيقية عملية، إما استمتاعًا بخيراتها، وإما حرمانًا منها وسعيًا إلى اكتسابها، وأين في الأسرة البشرية كلها من لا يحيا «الحريَّة» على أحد هذين الوجهين؛ استمتاعًا أو جهادًا نحو الحصول عليها؟ أين هو الإنسان الواحد الذي لا يحيا فكرة «المساواة» بين النَّاس، إما ممارسة لها على ضيق أو على سعة، وإما كفاحًا في سبيلها، حتى إذا ما يئس من النجاح، أحالها إلى الحياة الآخرة، حيث لا فضل لإنسان على إنسان إلا بتقواه في الحياة الدنيا.
لكن جمهور النَّاس إذ يحيون تلك الأفكار الكبرى حياة عملية، بالفعل أو بالأمل، فهم إنما يحيونها حياة ساكن المدينة الكبيرة لا يعرف منها إلا بيته وقليلًا من المنطقة المجاورة؛ ولذلك فقد يكون قليل الحظ مما يعرفه عن تلك الفكرة وما يتخللها من ثنايا وانعطافات، وبالتالي فهو ذو حظ محدود في مدى علمه بحقوقه عند الآخرين، وبواجباته تجاه الآخرين؛ لأن الأفكار الكبرى منطوية — عادة — على حقوق الإنسان وواجبات عليه، وهكذا يظل إلى أن يظهر رجل «الفكر» في هذا الصدد، فيقوم بما هو شبيه بالكشوف الجغرافية لما كان مجهولًا من البر والبحر، أو ما يقوم به رواد الفلك في الكشف عن أجرام السماء.
هذا إذن هو الفكر المجرد وما يستطيع فعله في معالجة المشكلات كما يعانيها النَّاس في حياتهم العملية الجارية، ونعود بالقارئ إلى النقطة التي كنا مسسناها مسًّا سريعًا قبل أن نستطرد معه في الحديث عن الفكر الفلسفي ودوره في تشكيل الواقع، وكان ذلك عندما ذكرنا له يوم وقعت الواقعة في الخامس من يونيو سنة ١٩٦٧م، وما أصابنا فيه من ذهول، لكن الشعب الذاهل — بحمد الله — لم يطل الوقوف عند ذهوله، بل سرعان ما نشط بالحركة الواعية لعله يمحو آثار الهزيمة فيسترد كرامته ومكانته، وأخذ كل منا في موقعه يتدبر الأمر ويراجع الحساب، وكان صاحبنا واحدًا من هؤلاء، لكنه — كما نعلم عنه — رجل إذا كان الله سبحانه وتعالى قد وهبه شيئًا، فذلك هو ميله نحو أن يرتفع بأية مشكلة جزئية تصادفه ويُراد لها الحل، إلى درجة من درجات التجريد ليضعها هناك في موضعها من الخريطة العامة، إذ ليس هناك في هذه الحياة بأسرها، بل وفي هذا الكون العظيم بأجمعه، شيء واحد يمكن فهمه مستقلًّا عن كل ما سواه، وهو إذ يرتفع بمشكلة الهزيمة إلى سماء المجردات، إنما يكون في طريقه إلى البحث عن نقطة البدء الأولى التي ينبغي أن يبدأ منها إصلاح ما فسد من حياتنا كما نراها جارية على أرض الواقع، فمحال أن تُصاب الأمة بهزيمة كتلك التي أصابتها، دون أن يكون الخلل قد سرى هنا أو هناك من أجزاء «الآلة الكبرى» التي هي المجتمع الذي نحن أبناؤه وأعضاؤه، فماذا تكون نقطة البدء عند صاحبنا إلا بنية المواطن — كل مواطن على أرضنا — باحثين في تركيبها عن مواضع العلة؟ وكانت الخطوة الأولى على هذا الطريق، هي خطوة تجاوز بها مصرية المصري ليصل إلى عروبة العربي — مصريًّا وغير مصري على السواء — إذ أقل ما يُقال هنا هو أن القضيَّة التي نُكبت بالهزيمة قضية عربية في المقام الأول.
وما إن طرح الأمر على هذا النحو، حتى أفرخت المشكلة مشكلات، كل واحدة منها تحيل الباحث على مشكلة سبقتها فأحدثتها، فكم في المصري من «العروبة» وكم في العربي الحاضر من موروث سلفي يسري في تلافيف الدماغ، وكم تلقى من عصره الذي يحيط به؟ واختصارًا ما هي حقيقة الصورة التي تنتج لنا من تشريح الشَّخصيَّة العَربيَّة كما هي قائمة اليوم — على الأعم الأغلب — وإلى أي حد تتلاءم هذه الصورة مع ما ينبغي أن يكون، والذي يحدد لنا المثال المتبقي هو صلاحية المشاركة في عصرنا هذا، مشاركة تضمن لنا قدرًا معقولًا من قوة العلم، وقوة الإنتاج، وقوة السلاح، وقوة المال، إلى آخر هذه القوى التي لا غناء عنها لمن أراد العيش في هذا العصر موفور الكرامة مسموع الكلمة مرهوب الجناب.
إذن فالمطلوب هو البحث عن صورتين: المواطن العربي كما هو الآن بالفعل، ثم المواطن العربي كما نريد له أن يكون، وواضح أنه مطلب يقتضي فيما يقتضيه إلمامًا كافيًا بالتراث العربي لمعرفة ما يجب الإبقاء عليه من مقوماته، وما يجوز الاكتفاء فيه بالدراسة التَّاريخيَّة على سبيل العناية والرعاية اللتين تلزمان الحاضر بأن يكون على صلة بماضيه، كما يقتضي هذا المطلب أيضًا، إلمامًا كافيًا بمقومات عصرنا؛ لنكون على بينة واعية بما يجب علينا إزاءه مشاركة وأخذًا وعطاءً، وبهذا وضح الهدف الذي في سبيله يسعى صاحبنا خلال المرحلة الأخيرة من حياته الدارسة المتأملة الكاتبة، كما وضحت أمامه بعض شعاب الطريق. لم يكن صاحبنا يريد، في كل مرحلة من مراحل حياته العاملة، أن تكون «الثَّقَافة» حلية يزدان بها المثقف أمام النَّاس، إذ كان الرأي عنده دائمًا، هو أن ثقافة المثقف الفرد، كثقافة الأمة مأخوذة في مجموعها، إنما هي أداة يُستعان بها على تلوين الحياة العملية بلون يميزها، وعلى تزويد حاملها بحوافز ومعايير، تحفزه إلى القيام بدوره في إقامة الحياة مستخدمًا معايير ثقافته في التمييز بين ما يجوز وما يجب وما لا يصح، فلقد رسخت في ذاكرته عبارة كان قرأها فيما قرأ للرائد الإسلامي محمد إقبال قالها بمناسبة ما رواه عن أحد كبار الصوفية، من أنه عجب كيف وصل النبي عليه الصلاة والسلام في معراجه إلى سدرة المنتهى، ولم يبقَ هناك، لينعم بالقرب من النور الإلهي، بدل أن يعود إلى الأرض بوعثائها وظلامها؟ ثم استطرد محمد إقبال ليقول: إن هذا يبين الفرق بين ما آمن بفكرة فآلى على نفسه أن ينشرها في النَّاس ليعم نعيمها، ومن آمن بفكرة فقصرها على نفسه لينعم بها، ولا عليه بعد ذلك أن يشرك معه النَّاس في نعيمها، فعلى عواتق الرجال من الصنف الأول يقع عبء تغيير الحياة وتطويرها نحو الأكمل، وأما الصنف الثاني فيحيون حياتهم ويموتون كما يظهر الظل ويختفي.
وهكذا يكون الفرق بين مثقف يتحلى بثقافته فيكفيه ذلك، ومثقف مثالي لا يستقر له بدن على مضجع حتى ينشر بين أبناء المجتمع ما قد رآه صالحًا ومصلحًا، وأن في هذه التفرقة ما يلقي لنا بعض الضوء على مشكلة فكرية وعملية معًا، هي من أهم ما يكابده أبناء هذا العصر بجميع أطرافه، وأعني مشكلة الخيار بين أن نجعل الأولوية للفرد بالنسبة إلى مجتمعه الذي هو مواطن فيه، أو أن نجعل تلك الأولوية للمجتمع، وأما الفرد فوجوده كله مستغرق في كونه جزءًا من كل، وقد تبدو هذه المشكلة وكأنها افتراضية ونظرية، لا تترك أثرًا على مجرى الحياة العملية، لكنها على عكس ذلك إذ انقسم عصرنا حيالها أقسامًا تتنازع وتتقاتل من أجلها، فقسم أصر على ألا تُبْتلع حقوق الفرد في جوف التنين الجبار الذي هو الدولة باعتبارها ممثلة للجميع، وقسم آخر آثر أن يقوي جبروت التنين، حتى لو جاء ذلك على حساب الأفراد المأكولة (تشبيه الدولة الطاغية بوجودها على وجود أفرادها بالتنين — الذي هو وحش خرافي — استخدمه تومس هوبز بِل وجعل هذا الاسم عنوانًا لكتابه) وبين القسمين تتوسط أقسام صغرى، تتفاوت فيها الظلال بين هذا وذاك، ونحن نقول هنا، بأن مشكلة الحيرة بين الفردية وشمولية الدولة، قد تجد حلها في «الفردية الاجتماعيَّة» التي تترك الفرد الواحد لضميره، لكنها تميل بهذا الضمير نفسه نحو العمل على ما فيه صالح المجتمع كله، وبهذه المصالحة بين الطرفين أخذ صاحبنا مذهبه، ورؤيته، وأسلوب عمله.
وعلى ضوء هذه المصالحة بين الأطراف المتنازعة، بينما هي في حقيقتها متكاملة لا متناقضة، أخذ ينظر — أول ما ينظر — إلى المذاهب الفلسفية؛ وذلك لأنه بدأ عمله بسؤال طرحه على نفسه: إنه إذا أُريد البحث على أكمل مواطن في أمثل مجتمع وجب أن نتبين بادئ ذي بدء ماذا تكون «الفلسفة» التي يبني عليها ما يبني، فقد اختلف رجال الفلسفة في الأساس الذي يقيمون عليه البناء الفكري، برغم اتفاقهم جميعًا على أن الغاية من جهدهم المبذول، هي أن يسلطوا مراياهم على الحياة بكل صخبها كما يحياها النَّاس، ليترجموا صورة الحياة إلى لغة «الفكر المجرد»، على نحو ما يترجمها الموسيقار إلى أنغام، والشاعر إلى كلمات منغومة، والمصور إلى ألوان وخطوط، والمشرع إلى قوانين، وهكذا فهنالك من الفلاسفة من جعل محوره في ترجمته للحياة التي انعكست له صورتها في مرآته، رؤى «العقل»، فمن داخل الدماغ يبدأ الإنسان طريق السفر، خارجًا به إلى حيث عالم الأشياء، فهو يعرف ما يعرفه عن العالم في ضوء جهازه العقلي، لكن هنالك من الفلاسفة من يترجمون صورتهم المرآوية ترجمة أخرى، إذ يرون أن نقطة البدء في طريق الرحلة الفكرية من حياة الإنسان هي عالم الأشياء، وعن هذا العالم تنقل العين والأذن وسائر الحواس رسائل إلى الدماغ، وهناك تلقى من أجهزة الإدراك ما يصوغ تلك الرسائل في كيان يوحدها، وهناك من الفلاسفة من يقسم المعرفة التي يكتبها الإنسان قسمين: أحدهما يبدأ من رحلته من الداخل مطلة على العالم والثاني يبدأ رحلته من الأشياء فتنقل إلى الأجهزة الداخلية ما تنقله فتصوغه فكرًا، وهكذا، وتأمل صاحبنا هذا كله، فلم يجد فيه ما يغير من وجه الحياة شيئًا، وقد لا يكون بين وجهات النظر فرق حقيقي، فوجهة ترى الخارج من نافذة داخلية، وأخرى ترى الداخل من نافذة خارجية، والواقع يظل هو الواقع، وأجهزة الإدراك تظل هي أجهزة الإدراك.
من هنا اختار صاحبنا لنفسه، وجهة النظر التي تجعل الفكر الفلسفي «منهجًا» في تحليل العلم والفكر وما ينتهيان إليه، تحليلًا يبين الصحيح من الفاسد، معفية الفيلسوف من التزام موضوع معين، لا تكون الفلسفة فلسفة إلا به؛ لأنه إذا كان الفيلسوف فيما مضى قد اضطلع بالدورين معًا، دور العالم ودور الفيلسوف، فقد أصبحت التخصصات العلمية اليوم أرحب أفقًا بحيث لم تُبْقِ شيئًا للفيلسوف، إلا أن يمسك بالميزان النقدي فيميز لمن يهمه الأمر بين الطيب والخبيث، وقد أسلفنا القول في بعض تفصيلات هذه المهمة النقدية، فيما سبق من فصول.