نهاية الطريق «٢»
لا يذكر صاحبنا متى قرأ رواية «دون كيخوته» لأول مرة، كلا ثم لا يذكر ما هو أهم من مجرد قراءتها؛ إذ لا يذكر أين ومتى ولمن من كبار النقاد، قرأ التعليقات النقدية على تلك الرواية، وإنه ليعلم أيقن العلم بأن الآيات الكبرى في عالم الأدب والفن تظل بالنسبة إلى كثير جدًّا من المثقفين — حتى الصفوة منهم — مزمومة الشفتين لا تنطق لتفصح عن سرها، إلى أن يتولاها كبار النقاد، وعندئذ فقط يظهر الدر الكامن في جوفها، ويسطع بالضوء ما كان معتمًا غامضًا، فمن من جموع المثقفين على تفاوت درجاتهم، لم يسمع برواية «دون كيخوتة» لمؤلفها «سِر فانتيز»؟ إن لم يكن قرأها كاملة أو مختصرة مبسطة كما تعرض أحيانًا في كتب المطالعة بالمدارس؟ وهي رواية إذا نحن وقفنا عند سطحها الظاهر أضحكتنا — صغارًا وكبارًا على السواء — بغرابة بطلها «دون كيخوتة» ثم تقف الكثرة الغالبة من الرواية عند هذا الحد من متعة الضحك! بل ربما عجب كثيرون أن يكون وراء تلك البساطة الشديدة في شخصية «دون كيخوتة» شيء أكثر من التفكه، فهذا رجل قيل عنه إنه عاش إبان الشطر الأخير من القرون الوسطى، وقد أحب القراءة عن جماعة «الفرسان» الذين امتلأت بأخبارهم كتب التَّاريخ التي تروي أنباء ما كان قد مضى من قرون العصور الوسطى، حين كانت تقاليد الحياة التي تميزت بها تلك الفترة، مرعبة بكل حذافيرها، ومن أبرز معالم ذلك العهد جماعة «الفرسان»، فللفارس أعراف تميزه، منها: أن تكون له مغامرات حب عذري ومنها أن ينجد الضعيف أينما صادفه، وهكذا، ولما كان أداء هذه الواجبات التقليدية كثيرًا ما يوقع صاحبها في معارك، كان من شأن الفارس أن يكون مجهزًا بعدة الفروسية، من سيف ورمح وتحصينات بالدروع وتغطية الرأس بغطاء معدني وغير ذلك، وعن جماعة الفرسان هؤلاء قرأ «دون كيخوتة» حتى أشبعت نفسه بما قرأ، وحسب نفسه أحد هؤلاء الفرسان بعد أن تأخر به العهد قليلًا عن عهودهم، ثم ما هو إلا أن أعد نفسه بكل ما يجعل من الفارس فارسًا: الجواد المطهم بطريقة خاصة وعدة القتال، فلم ينقصه شيء من ملحقات الفروسية إلا شيئًا واحدًا، وهو أنه لم يكن فارسًا! وبهذا الإعداد وما صاحبه من عجز انطلق «دون كيخوتة» تضلله الأوهام، فيرى أشباحًا ويظنها أعداء فيهجم عليها بسيفه ورمحه، ومن أمثلة ذلك هذه الصورة التي نعرفها عنه لشيوع ذكرها، وأعني محاربته لما قد رآه في طريقه من طواحين الهواء، حاسبًا أنها جماعة من الأشرار تتربص للأبرياء بالأذى.
إلى هنا وينتهي السطح البسيط من الرواية، لكن جانب العظمة الأدبيَّة فيها، مما يكشف لك عن الغطاء كبار النقاد، هو طريقتها الرمزية في تصوير عصرها تصويرًا يعمق بك حتى تصل إلى الجذور، وعصره — كما ذكرنا — هو الفترة التي لا هي لحقت بزمن القوة في القرون الوسطى، عندما كان الفرسان فرسانًا، ولا هي نعمت ببواكير النهضة الأوروبيَّة.
وفي تلك الفترة التي توسطت بين نوع من القوة مضى، ونوع آخر من القوة في سبيله إلى الظهور، عاش «دون كيخوتة» ليس له من مجد ماضيه المتمثل عنده فروسية الفرسان، إلا أشباح من أحلام واهمة، ولا عنده مما سوف تتمخض عنه النهضة الأوروبيَّة بعد قليل بشيء من العلم، فماذا كان يملك على وجه الحقيقة إذن؟ كل ما عنده من ذلك أكداس من جمل وكلمات وحروف طالعها في الكتب التي قرأها عن فرسان العصر الذي سبقه، وهي أكداس لم تستطع — وما كان لها أن تستطيع — صناعة فارس من ركام جسمه الهزيل وعقله المريض، وذلك أهون الشرين، وأما الشر الثاني فهو أن تلك الأكداس المخزونة في حافظته من جمل وكلمات وحروف قد حجبت عنه الرؤية المستقبلية لما هو آت إلى النَّاس بعد قليل، إنَّه رجل ليس دم الحياة هو ما يجري في عروقه، بل الذي يجري فيها مداد تشربه من مخزون الجمل والكلمات والحروف التي طالعها، ثم طالعها حتى انتهى به إدمانه لمطالعتها إلى أن تحول كيانه البشري ليصبح مسخًا رُكِّب من حروف.
ولا تنحصر هذه الصورة المحزنة لحقيقة «دون كيخوتة» عليه وعلى الفترة التي جعلته الرواية رمزًا لها، بل هي صورة تصدق على كل مرحلة تاريخيَّة تتوسط بين عصرين، كل منهما له ضرب من القوة، فعجزت تلك الفترة الانتقالية عن تمثل الماضي في قوته لتصبح امتدادًا له، كما عجزت عن تقبل السبل التي تمكنها من الانتقال إلى العصر الجديد.
صورة كهذه أخذت تراود صاحبنا خشية أن يكون فيها ما يصدق على طراز من المثقفين العرب في يومنا هذا، قد يُعد أفراده بمئات الألوف، ولو صح هذا لجاز لنا القول بأن عبئًا ثقيلًا ترزح تحته حركة التَّقدم، فتبطئ الخطى على نحو ما نرى، فهؤلاء المئات من الألوف هم بمثابة «دون كيخوتة» ضرب وجوده في هذا العدد الضخم، ممن يحيون حياتهم بعروق أُفرغت من دمائها لتمتلئ بمداد جمل وكلمات وحروف جمعوها من مطالعات تكررت ألف مرة حتى حُفظت حفظًا، لتعود فتتدفق كلما حانت فرصة لمقالات تُنشر أو أحاديث تُذاع، فلا هي جاءتنا بحيويتها التي كانت لها في شباب حياتها، ولا هي طُوِّعت في دلالاتها لتبقى نصوصها مع ربطها بظروف الحياة الجديدة لعلها تتحول في صدور من يتلقونها من كونها «لفظية» لتصبح ذا أثر دفع النَّاس إلى الحركة مع تيار الحياة في جريانه.
وقد يفوت هؤلاء المئات من الألوف أمر ذو أهمية كبرى في التصور الصحيح «للثقافة» و«المثقف»، فليس لهاتين الكلمتين مدلول واحد بعينه يثبت على مر القرون من حيث الاتفاق العام على طبيعة الموضوعات التي يجب توافرها ليستقيم للثقافة كيانها في العصر المعين، وليمكن الحكم على أفراد النَّاس في ذلك العصر المعين: أيهم يستحق أن يُوصف بهذه الصحة وأيهم لا يستحق، ربما مر عصر من عصور الأمة العَربيَّة كان يُشترط فيه للمثقف أن يجيد الفروسية مع الإلمام التفصيلي بأجود ما قيل من شعر! ثم تبعه عصر كان من أوجب الضرورات فيه لمن ينعتونه بالثَّقَافة، أن يضيف إلى أي علم آخر يتخصص فيه موضوعين: النحو والمنطق! وتبعه عصر آخر — وذلك في مرحلة الركود — كان المتوقع من المثقف أن يكون حافظًا لقدر كبير من فقه الفقهاء، وشعر الشعراء وقواعد اللغة، وهكذا تتغير «شارات» المثقفين مع العصور، فلا عجب أن رأينا جانب الغرابة في شخصية «دون كيخوتة» أنه بمثابة من وُضع على صدره شارة عصر كان قد ذهب وانقضى، وأصبح النَّاس يحيون في ظروف أخرى تستوجب من المثقف شارة أخرى تنم عن طبيعة تلك الظروف، وهذا هو نفسه ما بث القلق في صاحبنا من أن تكون أغلبية غالبة من جماعات المثقفين في حاضر الأمة العَربيَّة قد زينت صدورها بشارات عصور ذهب زمانها.
فلعصرنا هذا ما يميزه بغير شك، بحيث لا يتعذر على المتعقب أن يلتقط الفوارق، التي على أساسها يحكم على فرد ما بأنه متجانس مع عصره هذا، وعلى فرد آخر بأنه قد ارتد إلى ماضٍ ليعيش فيه روحًا وفكرًا وتصورًا للمثل الأعلى، والحق أن ما يميز عصرنا هذا قد كثرت مفرداته وتعددت: فإذا قلت إنه عصر العلم المستعين بالتقنية كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر غزا الفضاء وسار بقدميه على سطح القمر كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر الحاسبات الإلكترونية (الكمبيوتر) أو عصر الإنسان الآلي (الروبوت) كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر السرعة في المواصلات وفي التواصل بالأقمار الصناعية والتلكس والراديو والتليفزيون إلخ كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر «المعلومات» وتنسيقها وتخزينها ثم إقامة الحياة الفكرية والعملية على أساسها كنت على صواب، وغني عن الذكر أن نقول إنه عصر القوة النووية في الحرب وفي السلم على السواء، ولك أن تضيف إلى هذه القائمة ما تراه واردًا من ألوان الفن الجديد، والأدب الجديد، والتجمعات الدولية، وزوال الاستعمار زوالًا شبه تام، إذا قُصد به معناه القديم الذي كان سائدًا خلال القرن الماضي والنصف الأول من هذا القرن، وغير ذلك كثير.
لكن صاحبنا عهد في نفسه عادة فكرية لا يستطيع ولا يريد التخلص منها، وهي أنه كلما أراد أن يحدد أخص الخصائص التي تميز عصرًا بعينه بحث عن «فلسفته» فإذا وجدها استدل بها على الصفات المميزة المطلوبة، وإذا لم يجدها رجح أن يكون العصر الخالي من رؤية فلسفية تميزه معدوم الوجود إذا قِيس وجود الإنسان بدرجة وعيه، وليس هذا تعصبًا من صاحبنا لموضوع تخصصه الأكاديمي، كلا بل هو اتجاه مؤسس على حقيقة الحياة الثَّقافيَّة السوية أينما كانت، إذ يستحيل على مثل هذه الحياة أن تتحقق ما لم يجتمع الرأي على «رؤية» واضحة المعالم تستقطب أبناء العصر، وكيف يكون ذلك؟ إنه يكون بتوحد الهدف الذي يضمره كل أفراد الأمة، بدرجات من الوعي تتفاوت، فقد يضمره أحد الأفراد مبهمًا، بحيث لا يزيد الأمر عنده على أن يكون «حالة» يحسها كلما خلا لنفسه دون أن يتبين أسبابها، إذ تراه يحس — مثلًا — بشيء من القلق ولا يدري ماذا يقلقه على وجه التحديد، أو يشعر ﺑ «العزلة» بالرغم من وجوده وسط جموع النَّاس، أو يشعر بتفاهة قدره، وهكذا أمثال هذه «الحالات» تغشاه كما تغشى من هو أكبر منه وعيًا، لكن هذا الذي وعى يستطيع ما لم يستطعه عامة النَّاس، وهو أن يدرك العلة التي قد تكون مسئولة عن إيجاد تلك الحالات النفسية الغامضة، فربما كانت العلة حرمان الإنسان العادي من حقوقه الفطرية والاجتماعيَّة لأي سبب من الأسباب، ومع ذلك فهذا الواعي الذي أدرك العلة قد لا يكون ذا قدرة على التعبير عنها تعبيرًا يفصح عن عناصرها وكوامنها ومراميها، فإذا قيض الله سبحانه للناس من يستطيع ذلك نشأت الفرصة للتنوير؛ إذ يتاح لمن لم يكن يعلم الحق أن يقرأ أو أن يسمع فيعلم.
ومن هو ذلك الذي غشيته الغاشيات التي لحقت سواه ثم أمكنه أن يقع لها على مصدر نشأتها، كما استطاع بعد ذلك وفوق ذلك أن يصوغ الحقيقة لغة يقرؤها الآخرون فيعلمون ما يكشف لهم غوامض سرائرهم؟ إنه هو الرجل القادر على النفاذ ببصيرته خلال تحليلات يصبها على أهم ما أنتجه المنتجون وما أبدعه المبدعون من أبناء عصره، فينكشف له موضوع الالتقاء الذي يجمع كل ذي شأن وأهميته في أنشطة العلماء ومبدعات الفنانين والأدباء، فضلًا عن تيارات الحكم والسياسة والتفاعلات الاجتماعيَّة في أي موقع حدثت.
فأهم ما يُعرف به ذلك الضرب من فاعلية العقل، الذي جرى الاصطلاح على أن يُسمى ﺑ «الفلسفة»، هو على وجه التخصيص والتحديد محاولة إرجاع هذا الخضم الهائل من معطيات الحياة النظرية والإبداعية والعلمية إلى ينبوع أصلي واحد يخفى على الأعين، لكنه مبثوث في الضمائر يحرك الأفراد والجماعات على نحو ما يتحركون ويفكرون ويبدعون ويقاتلون أو يسالمون، وبعد تشابه الفلاسفة في التنقيب عن الجذور تتفاوت أقدارهم من درجات العظمة، بتفاوت قدراتهم على تشخيص «المبدأ» الذي يجمع بين جناحيه أكبر قدر ممكن من ظواهر الحياة في عصر معين.
من أجل هذا حرص صاحبنا دائمًا على الرجوع إلى ما قاله فلاسفة عصر معين كلما أراد العلم بما يفسر أوجه نشاطه، فماذا عسانا واجدين عند فلاسفة عصرنا هذا مما يعين على تشخيص طبيعته؟ إننا واجدون — أول ما نجد — أن ثمة خلافات إقليمية واضحة في مذاهب الفلاسفة المعاصرين، فلكل إقليم من أقاليم الغرب مُتَّجَه فكري ينفرد به، ونقول «أقاليم الغرب» لأن الغرب في هذا الزمان هو صانع العصر، وعلى بقية الدنيا أن تتبعه حتى ولو أجريت تعديلات وإضافات هنا وهناك، ففي الشمال الغربي من أوروبا — وبريطانيا بصفة خاصة — اتجه الفكر أساسًا نحو تحليل العلوم إلى ما أسموه بالقضايا الأساسيَّة، وهو اتجاه يتطلب منطقًا رياضيًّا من نوع يختلف في دقته اختلافًا بعيدًا عن المنطق الأرسطي الموروث عن اليونان، والذي كانت له السيادة شبه المطلقة منذ نشأ على يدي أرسطو وإلى النهضة الأوروبيَّة في القرن السادس عشر، وهناك أُضيف إليه — مع بقائه على حالته الموروثة تقريبًا — منطق يصلح للبحوث العلمية في مجال العلم الطبيعي منذ القرن السابع عشر وعلى يدي «ليبنتز» تعلق الأمل بمنطق رياضي يضمن للفكر العلمي دقته، وبمثل ذلك المنطق الرياضي بعد تطويره وتهذيبه شغل فلاسفة التحليل بالوصول إلى الوحدات الذرية الصغرى التي من مركباتها تتكون العلوم في صورتها المألوفة، وأرجو أن يتنبه القارئ هنا إلى أن هذه الرغبة في تحليل الفكر تحليلًا «ذريًّا» قد جاء تجاوبًا مع العلم الذري الجديد في مجال الفيزياء، مما يدل على ذلك التجانس الذي يرجح حدوثه في كل عصر بين فروع العلم والمعرفة والأدب والفن، والشذوذ هو ألا يحدث هذا التجانس الذي يوحد العصر في نظرة مشتركة، فإذا لم يتحقق علمنا بأن خللًا ما يدب في بنية الحياة الثَّقافيَّة.
وفي الغرب الأوروبي يغلب الاهتمام ﺑ «الإنسان» فينصب معظم الفكر الفلسفي على تحليل الوجود الإنساني لمعرفة جوهره الذي يدلنا على حقيقة الإنسان، وبرغم تفرع المذاهب في هذا الاتجاه ففكرة الإرادة وحريتها في اتخاذ الإنسان الفرد لقراره كلما احتاج الموقف إلى قرار حاسم قد كان لها رجحان، على أن اهتمام الغرب الأوروبي بالإنسان قد اتجه بفرع من فروع الفكر الفلسفي إلى تعقب الحاضر الثقافي في حياة شعب بعينه إلى جذورها الأسطوريَّة الأولى؛ إذ وجد أن الحاضر الثقافي لا يأتي من عدم، بل هو امتداد لا يخلو من أصداء الماضي السحيق، ومن هذه الرابطة الوثيقة بين حاضره وماضيه تكمن الخصوصيَّة الثَّقافيَّة للشعب المعين.
ولا نترك الجانب الغربي من أوروبا — بما فيه وسط القارة — دون أن نذكر صيحة كان لها دويها وأثرها الباقي، وذلك أيضًا فيما يتصل بحقيقة الإنسان، فبعد أن كانت الفكرة الشائعة المتوارثة عن سقراط في قولته: أيها الإنسان اعرف نفسك، والمتوارثة كذلك من ديكارت حين جعل سنده الأول متمثلًا فيما يراه من نفسه رؤية مباشرة لا سبيل إلى دحضها وعبر عن ذلك بقوله: «أنا أفكر إذن أنا موجود.» أقول إنه بعد أن كانت الفكرة الشائعة المتوارثة هي أن الفرد الإنساني وحدة مستقلة بذاتها، لدرجة أن فيلسوفًا هو «ليبتز» قد صور الفرد برجًا مغلقًا على نفسه وليس له نوافذ يطل منها على الآخرين، نُودي برؤية جديدة أقرب إلى الصواب، وصاحبها الأول هو «هوسرل» أقامها على أساس أن «الوعي الذي هو جزء لا يتجزأ من فطرة الإنسان» يتضمن في صلبه توجهًا بالانتباه نحو الخارج أعني خارج الإنسان، فقد كان محالًا على الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه كما أراد له سقراط، إذ لا بد له من «الآخر» وسيلة يعرف نفسه عن طريقها، وكان محالًا كذلك على ديكارت أن يؤكد وجود نفسه من مجرد رؤيته الباطنية لنفسه وهي تفكر؛ لأن عملية التفكير لا تكتمل في جوف صاحبها، بل تتطلب «خارجًا» فيه آخرون وفيه أشياء هي التي يتعلق بها ذلك التفكير، ومعنى ذلك هو أن فردية الفرد ليست مطلقة، بل هي فردية موصولة بالعالم يحتويها.
وفي الشرق الأوروبي اتجه الميل نحو رؤية الإنسان الفرد من حيث هو جزء في مجموع، وكأن فرديته لا تعني شيئًا، لأنه إذا كان أي فرد كأي فرد آخر، والمهم هو البناء الشامل الذي يُقام على هؤلاء الأفراد، فقد ضاعت خصوصية الفردية، على أن ذلك البناء الشامل نفسه قد جاءت به حتمية تاريخيَّة نتجت عن عوامل متفاعلة متصارعة في اقتصاديات الإنتاج.
وفي أمريكا الشمالية نزع الفكر نحو رؤية مستقبلية؛ فصحة فكرة صحيحة لا تُسْتَمَدُّ من أصول ماضية، بل تستند إلى ما عساه ينتج عنها من منافع يتقدم بها الإنسان في غده.
وقد يُخيل إلينا للوهلة الأولى، أن هذا الخلاف في اتجاه الفكر بين إقليم وسائر الأقاليم، والتي منها يتكون ما أطلقنا عليه اسم «الغرب»، لا يجعل لعصرنا الحاضر — متمثلًا في دول الغرب لأنها صناعته — ومن وحدة الفكر ما يجعل منه عصرًا له خصائصه المتميزة، لكننا إذا أمعنا النظر في تلك الاتجاهات الإقليمية رأيناها جوانب متكاملة في كيان واحد، وكان كل إقليم قد اختص بالنظر في جانب تاركًا بقية الجوانب لسواه، فإذا أردنا معرفة عصرنا متكاملًا وجب أن نبحث خلف تلك المتفرقات عما يوحدها، فليس اهتمام الشمال الغربي من أوروبا بالوحدات الذرية التي منها يتألف العلم متنافيًا مع اهتمام الغرب الأوروبي بالإنسان وما يكفل له إنسانيته، على أن باب الحقيقة الإنسانية يبقى مفتوحًا للنظر فيما إذا كانت الأولوية المنطقية في الحياة الإنسانية للفرد على مجتمعه أم للمجتمع على أفراده، ثم لا تتنافى هذه الاتجاهات الأوربية مع اللفتة الأمريكية نحو المستقبل كلما أردنا المفاضلة بين فكرة وأضدادها، وإذا كان هذا هكذا، فعند أية نقطة تتلاقى هذه الخطوط الفكرية كلها؟ إنها تتلاقى عند ضرورة توجيه الاهتمام نحو «الإنسان» في حياته التي يحياها ليصبح غاية في ذاتها وليس مجرد وسيلة لهدف سواه، وتلك هي روح هذا العصر.
وعلى هذه الخلفية نطرح سؤالنا: أفي هذه الغاية التي يتغياها عصرنا بمختلف مذاهبه ووجهات نظره، ما لا يصلح أن يتبناه العربي المعاصر، شريطة ألا يهدر شيئًا من جوهر هويته الثَّقافيَّة التَّاريخيَّة؟ ولنتذكر ما قد أسلفنا ذكره مفصلًا عن الشَّخصيَّة العَربيَّة ومقوماتها: فأولًا هي شخصية تؤمن بأن هذا الواقع الذي نقضي حياتنا في ربوعه، نراه بالبصر ونلمسه بالحواس، لا بد أن يكون له «وراء»، فهذه حقيقة توحي إليه بما لانهائية الصحراء التي هي بيته الكبير كما تؤكدها له رسالات السماء فيما نزل من ديانات، ثم هي شخصية يتعاون في بنائها عنصرا «العقل» و«الوجدان» بدرجة متوازنة، حتى لا يكاد يكون لأحدهما رجحان على الآخر، ولئن كان هذان العنصران هما شرط العملية الإدراكية في أي إنسان وكل إنسان، إلا أنها في معظم الأقوام الآخرين يغلب أن يُرجح فيها عنصر على الآخر، فالشرق الأقصى في جملته، وكما نراه في ثقافته التقليدية، كان أميل إلى إدراك الحقيقة بوجدانه الفني أو الصوفي، واليونان القديمة ومن بعدها أوروبا بسائر أجزائها، كانت أميل إلى رؤية الحقيقة بمنطق العقل، وأما العربي فقد أوضحنا فيما أسلفناه عنه، أنه متعادل الكفتين على وجه التقريب: وكان من الأدلة التي سقناها برهانًا على ذلك أن العرب الأولين — في التَّاريخ الإسلامي — نقلوا عن اليونان معظم نتاجهم العقلي من فلسفة وعلم، كما نقلوا تصوف فارس والهند، ولا نعرف من أمم الشرق القديم أمة أخرى جمعت في ثقافتها هذين العنصرين معًا بالدرجة التي حققتها في هذا الصدد أمتنا العَربيَّة، مما حدا بنا أن نتردد في جعلها «شرقًا» مع الشرق أو «غربًا» مع الغرب؛ لأنها «شرق-غرب» معًا.
فلنحمل في أذهاننا هذا التصور عن طبيعة العربي، فهو — إذا شئنا عبارة موجزة يسهل حفظها — عالم شاعر متدين، «وقد اخترنا الشعر وليس التصوف، إشارة إلى الحياة الوجدانية العَربيَّة لغلبة الشعر في حياته»، فهو عالم يُعْمِل عقله في التحليل والتعليل واستدلال النتائج كما رأيناه في علوم اللغة والفقه، والحديث والكلام والنقد الأدبي، فضلًا عن علوم الرياضة وبعض علوم الطَّبيعة، وهو وجداني يلقي ببعض زمامه إلى قلبه وما ينبض به، كما رأيناه متدينًا وشاعرًا ومتصوفًا، وقد تسهل مقارنة العربي كما صورناه بهذه العبارة الموجزة بابن الغرب في عصرنا، كما صوره «ليفس» وكان أستاذًا للأدب في كيمبرج وناقدًا ذا وزن في الحياة الأدبيَّة في بلاده، إذ قال عن الغرب في هذا العصر إنه «منطقي تقني منفعي»، أما «المنطق» فواضح في نزعته العلمية، وأما «التقنيات» فهي في صناعاته، وأما النفعية ففي موقفه الأخلاقي نحو المقبول والمرفوض، وإننا لنعيد سؤالنا مرة أخرى: هل يتعذر على العربي أن يجد مكانه في عصره هذا دون أن يهدر ذرة واحدة من كيانه؟
ضع بين يديك الصورتين في إيجازهما الذي افترضناه: فالعربي متدين عالم شاعر والغربي العصري عالم تفني منفعي، فماذا يضير العربي أن يأخذ من العصر منطق العلم الذي هو بالفعل من مقوماته؟ وماذا يضيره أن يدخل بصناعاته مرحلة التقنيات كما هو مدخلها بالفعل في حياته العملية ولا يبقى إلا أن يسهم في ابتكارها؟ وأما الجانب المنفعي في أخلاقيات الغرب فليستبدل بها أخلاقياته الدينيَّة والتي ذكرنا لك فيما أسلفناه أننا نأخذ أخلاقياتنا من الوحي الديني، حتى ولو لم تكن المنفعة المرجوة متحققة في هذه الدنيا فهي متحققة في الحياة الآخرة.
بهذه النتيجة انتهى صاحبنا عن إيمان بوجوب الدعوة إلى هوية عربية أصيلة تتبنى إضافة الحداثة، كما هي متمثلة في صورة العلم الجديد، تقنياته مشاركة في ابتكاره وليس اكتفاءً بشرائه من أصحابه.