فرار إلى مدينة الأحلام
ما زال صاحبنا في الأعوام الأولى، من ثلاثينيات هذا القرن، عندما أخذته الرغبة الشديدة في أن يسافر إلى القدس الشريف في فلسطين، لم يكن يعلم أن الرحلة تبدأ بإجراءات إدارية قد تثبط أصحاب العزائم الضعيفة؛ فينصرفون عما اعتزموا على أدائه، لكن أخانا لم يكن من هؤلاء، فاخترق كل ما وجده من عقبات، وهو ما زال حتى يومه هذا، يذكر أن القطار قد غادر به القاهرة ساعة الغروب وأن عبور القناة وركوب قطار آخر قد استغرق بضع ساعات، وأن هذا القطار الثاني قد وصل به إلى محطة «اللد» عند مطلع الفجر، فنزل ليستقل قطارًا من «اللد» إلى القدس، وكان عليه أن ينتظر في محطة «اللد» حتى يجيء هذا القطار، ولم يكن هناك إلا رجل واحد، ارتدى زيه «الكاكي» الذي كان شبيهًا بأزياء الجنود، وكان الرجل بلا حقائب، شبك يديه خلف ظهره وهو يمشي على رصيف المحطة جيئة وذهابًا، واعترضه صاحبنا بسؤال على ظن منه أن الصلة الكلامية في مثل هذا الظرف أمر واجب، حتى ولو لم يكن الكلام يحمل معنًى مفيدًا، فحياه أولًا: صباح الخير (قالها بالإنجليزية) فأجابه بتمتمة لا تتبين فيها حروف، فعاد وسأله: ما جنسيتك؟ وهنا أجاب الرجل في شيء من الخشونة التي تنبئ بشر: أنا يهودي، ومرة أخرى عاد صاحبنا ليسأل: إني لا أسألك عن ديانتك، بل أسألك عن جنسيتك، فصرخ الرجل من غيظ، وأجاب: نعم، جنسيتي هي أني يهودي. ومضى يستأنف مشيته على الرصيف رائحًا وغاديًا.
لم يستطع صاحبنا على طول ما فكر، وهو في القطار الذاهب به إلى القدس، ماذا عناه ذلك الرجل عندما جعل جنسيته ويهوديته مترادفتين؟ لكنه تجاهل حيرته لعل الأيام تكشف له ما يفسر له الغامض، ووصل إلى القدس، وألقى بحقيبته في أقرب فندق استطاع النزول فيه، وخرج مسرعًا ليجلس في مقهًى ازدحم بالناس جلوسًا ووقوفًا، وقد ينسى صاحبنا كثيرًا من أحداث ماضيه، لكنه لن ينسى تلك اللحظة التي أخذ فيها مجلسه وسط الزحام، والنشوة تملؤه، والفرحة ترسم على وجهه ملامح ضاحكة، ولم تمضِ إلا دقائق معدودات حتى جاءه شاب وسيم مشرق المحيا، حسن الهندام، وبعد أن حياه تحية النهار، سأله: أجئت إلينا زائرًا؟ فأجابه: نعم، وقد وصلت لتوي آتيًا من مصر. فسأله الشاب وكان من عمره في مثل صاحبنا من عمره، قال: هل تأذن لي بالجلوس معك؟ فأجابه القادم المصري: إن ذلك يجعل فرحتي فرحتين. وبدأ الفلسطيني الشاب يقدم نفسه إلى الزائر، فقال إنه تخرج من كلية الحقوق منذ عامين والتحق بمكتب محامٍ في القدس ليقضي به فترة التدريب، ورد عليه الشاب المصري تعريفًا بتعريف، وكان أول سؤال ألقاه الفلسطيني على أخيه المصري، هو: ما أخبار «القضيَّة» في مصر؟ فرد المصري على السؤال بسؤال: أية قضية تعني؟ فعاد الفلسطيني إلى السؤال، وعلى وجهه علائم دهشة وتعجب قائلًا: «القضيَّة» يا أخي! إنها القضيَّة العَربيَّة!
لم يفهم المصري عن زميله شيئًا إلا بعد أن أفهمه ذلك الزميل ما لم يكن قد فهمه وأعلمه ما لم يكن قد علمه عن قضية العرب أهل فلسطين، فيما قد نشأ لهم من مشكلات مع الأقلية اليهودية في فلسطين، يشد أزرها المندوب البريطاني.
عاد صاحبنا إلى مصر، وقد عرف ماذا قصد إليه الرجل الذي التقى به في محطة «اللد» حين قال إن جنسيته هي نفسها يهوديته، وكذلك عاد صاحبنا إلى مصر وقد أدرك أنه برغم أنه قارئ يتابع أعلام القلم فيما يكتبونه لم يقع قط على شيء يشد انتباهه إلى «القضيَّة» التي رأى الفلسطيني الشاب أنها هي القضيَّة محددة بأداة التعريف، حتى ليغنيه أن يقول «القضيَّة» ليفهم سامعه إنها هي القضيَّة العَربيَّة التي أخذت تتعقد بما نشط بها اليهود في فلسطين يؤازرهم حاكم بريطاني، وأحدثت هذه المفرقة عند صاحبنا أثرًا، إذ أخذت تضطرب في صدره أسئلة غامضة عما يعتور حياته الثَّقافيَّة من أوجه النقص التي يستحيل أن يعود وزرها إليه وحده، ولا بد أن يشاركه في هذا الوزر حملة الأقلام الذين كانت لهم الريادة عندما كان صاحبنا شابًّا يتلقى.
وتمر الأيام بصاحبنا أعوامًا بعد أعوام وذكرى ذلك النقاش مع الفلسطيني الشاب في مدينة القدس، عما أسماه ﺑ «القضيَّة» عالقة في ذهنه، تناديه بأن يبحث عما يقرؤه عن تلك «القضيَّة» التي لم تكن عند أصحابها تحتاج إلى بيان، وفجأة خطر له أن يقرأ شعر إبراهيم طوقان؛ فهو الشاعر الفلسطيني المبدع المجيد — أولًا — وهو الذي لا شك منبئ في شعره عن روح «القضيَّة» لما جاء وقعها على قلب مرهف حساس، فقد نظم ذلك الشاعر الثائر شعره خلال الأعوام التي كانت تتجمع فيها غيوم النكبة ظلمات بعضها فوق بعض، فصاح في قومه محذرًا من فادحة توشك أن تقع، فكان كأنه يقرأ لهم عن مقبل الأحداث في كتاب مفتوح.
مات إبراهيم طوقان والحرب العالمية الثانية مستعرة الأوار، وترك شعره مفرقًا في دفاتر وأوراق، فجمعه له شقيق وفي، وقدمته إلى القراء شقيقة شاعرة، وبفضلهما أصبح ديوان شعره بين أيدينا فاتحته قصيرة رائعة، ترسم لقارئها لوحة تصور شهيدًا عربيًّا في فترة كان الشهداء فيها يخطون مستقبل بلادهم بكلمات من دمٍ مسكوب، وهو شهيد رآه الشاعر يبتسم للخطوب حين تدهم، ويقتحم الأهوال إذا تطغى، فكأنما تجمعت في همته قوة خضم هائج ورسوخ جبل أشم، إنه العربي المجاهد، خلقه ربه فسواه من عنصر الفداء، ثم أرسله جذوة من الحق، تلفح بحرارتها جنوب الطغاة، حتى تظفر بحريتها أمم مقيدة، إنه العربي المجاهد، الذي لا يبالي في سبيل بلاده شيئًا.
ولا تفرغ من القراءة عن هذا الشهيد المجهول، حتى تجدك من الديوان أمام رائعة الروائع، وهي قصيدة «الثلاثاء الحمراء» التي نظمت عن الثلاثة الشهداء الأبرار وهم: فؤاد حجازي من صفد، ومحمد جمجوم وعطا الزير من الخليل، الذين أُعدموا في سجن عكا، صبح الثلاثاء السابع عشر من شهر يونيو (حزيران) سنة ١٩٣٠م إثر حادث «البراق»، ذلك الحادث المفجع الذي أشعل أول ثورة عمت أرجاء فلسطين عام ١٩٢٨م، و«البراق» عند المسلمين هو «حائط المبكى» عند اليهود، أرادوا الاستيلاء عليه، وكان في حوزة المسلمين، فثار المسلمون، وامتدت ثورتهم من القدس إلى سائر مدن البلاد وقراها، حتى اضطرت حكومة الانتداب البريطاني إلى قمع الثورة بالقوة، وأصدرت أحكامًا بالسجن على ثمانمائة عربي، وأحكامًا بالإعدام على عشرين، ونُفذ الحكم صباح الثلاثاء التي أسماها الشاعر إبراهيم طوقان ﺑ «الثلاثاء الحمراء» ونظم فيها رائعته — عن الشهداء الثلاثة الذين أسلفنا ذكرهم — وهي رائعة من الشعر نراها فريدة في طريقة بنائها الفني؛ فهو يقسمها إلى مقدمة وثلاث ساعات وخاتمة، أما المقدمة ففيها تهيئة للنفوس بجوٍّ أقتم يتناسب مع الفاجعة التي شهد ذلك اليومُ هولَها، على ثلاث ساعات متواليات، وجاءت المقدمة في ثماني مقطوعات، في كل مقطوعة خمسة أبيات: الأول والثاني على قافية والثالث والرابع مجزوءان وعلى قافية أخرى، والخامس على قافية وَحْدَه، تتفق مع القافية في الأبيات الخوامس، كلها من المقطوعات الثماني، فتجيء ضرباتها كأنها دقات الطبول الفاجعة في جنازة الشهداء، وقد رسم لنا الشاعر يوم المأساة وكأنه يطل على سوالف الأيام جميعًا، باحثًا فيها عن يوم ينافسه في عمق المأساة وسوادها، فتصدى له أول ما تصدى يوم من أيام محاكم التفتيش، التي شهدت ما شهدته من إحراق الآدميين الأبرياء، مع تعذيب وتنكيل يشيب لهما الرضع في حجور الأمهات، لكنه برغم هذا البغي كله، فإن يوم محاكم التفتيش هذا لم يكد ينظر إلى يوم مأساتنا، حتى استدرك مُقِرًّا بأنه لم يلقَ ليومنا في الجور شبيهًا، وتوارى في تواضع، لعل يومًا آخر من أيام المنكر والبغي أن يتصدى للتحدي.
ذلك هو فحوى المقطوعة الثانية، وتليها المقطوعة الثالثة، وفيها ينهض للحديث، يوم راسف بقيوده، هو اليوم الذي كان الرقيق — أبيضه وأسوده — يُباع فيه لكل من شاء الشراء من ذوي الثراء، وظن ذلك اليوم المكبل بحديده أنه قرن، أي قرن ليوم مأساتنا، فهاله أن رأى عجبًا من العجب، فبعد أن تحرر البشر من ذل الرق عاد أدراجه إلى أسوأ ما شهده التَّاريخ، وذلك أن من زعم لنفسه تحرير الرقيق ومنع بيعه وشراءه، هو نفسه — اليوم — من أمسك بالأحرار ونادى بأن يُشترى.
وتأتي المقطوعة الرابعة بيوم آخر، يحسب أن قد بلغت به المأساة أبلغ مداها، ولكنه سرعان ما أقر — بدوره — ليوم مأساتنا بأنه أبشع وأفظع، كأنه هو يوم المحشر، وأما المقطوعات الأربع الأخيرة من مقدمة القصيدة، فيخصصها الشاعر لجانب آخر من جوانب المأساة الدامية هو التوسل إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين ليعفو عن الأبرياء الثلاثة الشهداء، ويظل الرسول رائحًا غاديًا ولا رجاء، فما كان الأجدر بنا إذن أن نخص أنفسنا بالإباء، وبهذا تُختم المقدمة.
وبعد المقدمة تجيء الساعات الثلاث، ساعة تلو ساعة، ففي كل ساعة منها يُشنق شهيد، فتفاخر كل واحدة منها أختيها بشهيدها، على نحو ما رأينا الأيام السود التي شهدت مآسيها، إذ رأينا كل يوم منها ينعي نفسه، حاسبًا أنه أحلك أقرانه سوادًا، إلا أن عويل النعي هناك، يقابله ما يشبه غناء الأناشيد هنا، فكل منها تتغنى بمجدها الذي تستمده من مجد شهيدها، وقد خُصَّت بكر الساعات الثلاث بالشهيد فؤاد حجازي، ثم جاءت الساعة الثانية مفتخرة بشهيدها محمد جمجوم، الذي لم يكفِه استشهادًا أن يموت في سبيل وطنه، بل زاد على ذلك باستباق ليأخذ المكانة الثانية، فبقيت ثالثة الساعات للشهيد الثالث عطا الزير، فكان أن جاء نشيد الساعة الثالثة مشيدًا بحسنات ثالث الشهداء بادئًا بقوله: «أنا ساعة الرجل الصبور» أنا ساعة القلب الكبير … إلخ، وخرج صاحبنا من ديوان إبراهيم طوقان، وقد امتلأت مشاعره ﺑ «القضيَّة العَربيَّة»، كانت كذلك لحظة راجع فيها مع نفسه الحساب ليرى أن حملة الأقلام من كبار الرواد عندئذ، برغم قاماتهم السامقة وشموخهم العظيم، قد تعرضوا فيما بذلوه وقدموه لضروب من المفارقات، ربما ألزمتهم بها طبيعة المرحلة التَّاريخيَّة التي أحاطت بهم، فقد أخذ صاحبنا يتبين ما لم يكن قبل ذلك قد تبينه في وضوح من ضروب الازدواج التي تظهر في أعمالهم وفي حياتهم، كما نقرأ عنها في تراجمهم، مما يصعب تفسيره من جهة، ويقلل من أثر رسالتهم الثَّقافيَّة من جهة أخرى.
كان من حسن الحظ لأعلامنا الكبار في الجيل الماضي، وهو الجيل الذي شهده صاحبنا في مطلع شبابه وما بعد المطلع ببضع سنوات، أن شاركوا بأقلامهم القادرة في ميدان السياسة عندما كانت قضيتنا الأولى هي التحرر من الاحتلال البريطاني؛ إذ كانت تلك المشاركة منهم في قضية تشغل جمهور النَّاس فردًا فردًا، كائنة ما كانت منزلتهم من درجات الثَّقَافة والتعليم، وبذلك استطاع روادنا أن يجدوا طريقهم إلى مواطنيهم جميعًا في ريف وفي حضر، أقول: إن ذلك كان من حسن الحظ لهؤلاء الرواد، لكنه كذلك كان حظًّا حسنًا لجمهور النَّاس، إذ أُتيح لهم، وهم في خِضم الجهاد السِّياسي، أن يطالعوا ما يكتبه سادة الكلمة عندئذ، فإذا لم يكن في مقدورهم أن يطالعوه استمعوا إلى من يطالعونه لهم، فتهيأت بهذا كله فرصة عظيمة أمام صفوة المثقفين من كبار الأعلام أن ينتقلوا — يومًا واحدًا على الأقل كل أسبوع — من ميدان السياسة إلى ميادين الثَّقَافة الخالصة، فيجدوا قراءهم في انتظارهم، وهم أنفسهم القراء الذين ما كانوا ليأبهوا مقدار خردلة لو أن هؤلاء الكتاب واجهوهم بجانبهم الثقافي وحده دون أن تُمهد له شهرة بلغت أوجهًا في الكتابة السِّياسية، ومع ذلك فقد أدرك صاحبنا، فيما بعد ذلك بسنوات، كم ضيع روادنا على أنفسهم وعلى جمهور النَّاس جميعًا فرصة ذهبية سنحت، فتركوها تتبدد مع الهباء، بسبب ما قد وقعوا فيه من ازدواجيات في المعايير، وكيف كان ذلك؟
كان ذلك من وجهين على الأقل؛ أولهما: أنهم لم يجعلوا — في أغلبهم — من ثقافتهم الرفيعة أداة لتغيير أشخاصهم بحيث يتخلقون في حياتهم العملية مع النَّاس، بالأخلاق التي يبشرون بها في ثنايا ما يكتبونه وأقول: في «ثنايا» ما يكتبون؛ لأنهم في الحقيقة قد بذلوا الشطر الأكبر من جهدهم في عرض ما كتبه فلان، من الأسلاف أو ما كتبه علان من جهابذة الغرب، وبالطبع لم يكونوا يتخيرون لنا من يتخيرون من هؤلاء وأولئك إلا نفرًا من العظماء الأخيار، الذين جاءوا إلى النَّاس ينشرون فيهم قيم الحق والعدل والحريَّة والمساواة وغير ذلك من أشرف المعاني، لكن هل استطاع روادنا أن يتعاملوا مع مواطنيهم على أسس المعايير التي بُثَّتْ في ثنايا ما يعرضونه على قرائهم؟ إن حقيقة الأمر الواقع في حياتنا، هي أن التعامل بين الأفراد لا يجري على أساس «المساواة» بين الأفراد، فإذا كان الموقف المعين من مواقف ذلك التعامل، يشتمل على طرف ذي سلطان مع طرف آخر من عابري السبيل لم يتوقع أحد من الطرفين أن تكون المساواة بينهما مدار القول والفعل، وهكذا قل في سائر القيم العليا من حرية وعدالة إلى آخر هذه المعاني الشريفة، أقول: إن حقيقة الأمر في حياتنا هي أن هذا التفاوت موجود بالفعل بين الأفراد، برغم كل ما تنادي به في الدساتير وفي الشرائع وفي القوانين، والسؤال مرة أخرى هو: هل استطاع روادنا في الجيل الماضي الذين أخذوا أنفسهم بعرض خلاصات من تراثنا ومن نوابغ الغرب تحمل في ثناياها تلك القيم العليا، هل استطاعوا أن يحيوا مع عباد الله من مواطنيهم على أسس ما يبشرون به، أم غلبتهم العنجهية الموروثة، في طبائعنا، منذ اللحظة الأولى التي يرون أنفسهم فيها وقد كسبوا شيئًا من السلطان أو من الثراء، أو من القوة في أية صورة من صورها الكثيرة؟ أما صاحبنا فيشهد شهادة صدق بناها على خبرة مباشرة بأن روادنا من أعلام الجيل الماضي، برغم ما كانوا يعرضونه مبثوثًا في ثنايا ما يكتبونه من قيم الحريَّة والعدالة، والمساواة … إلخ قد كانوا — على الأعم الأغلب — أحرص النَّاس على أن تبقى مسافات بعيدة بينهم وبين من يتعاملون معهم من سواد النَّاس، ومعنى ذلك أنه إذا لم تكن رسالة الكاتب قد أحدثت أثرها في شخصه هو فهل يُتوقع لها أن تحدث أثرها في الآخرين؟
إذن فقد كانت هناك فجوة عميقة بين الصحائف كما كتبها كاتبوها ونشرها في النَّاس ناشروها وبين وقع الحياة الجارية، ولقد أسلفت نبأ الرحلة التي ارتحلها صاحبنا بعد تخرجه بعامين إلى مدينة القدس، وكيف كان أول ما فُوجئ به هناك أن ثمة قضية عربية كبرى، يُكتفى فيها بأن يُشار إليها مقيدة بأداة التعريف، فيقال: «القضيَّة» ويفهم النَّاس إلى أي شيء تشير، ولم يكن صاحبنا قد قرأ عنها حرفًا فيما قرأ، وهو ممن كانوا يتابعون بالقراءة المتصلة كل ما كان ينشره روادنا، فهل كتبوا عن القضية العَربيَّة وأفلت منه ما كتبوه؟ هذا جائر بالطبع، لكنه ظن يومئذ أن ذلك أمر بعيد الاحتمال، فكانت هذه — في حسابه — علامة أخرى تُضاف إلى ما قد لحظه من فجوة بين الرواد في كتاباتهم من ناحية، وفي محافظتهم على ما تواضع عليه المجتمع من عدم المساواة وعدم العدالة الاجتماعيَّة وعدم الحريَّة إلخ، أقول: إن صاحبنا قد جمع في نفسه العلامة التي رآها في القدس، التي دلته على أن روادنا شغلهم ما ينقلونه تلخيصًا من الكتب، عما تجري به حياة النَّاس من فواجع، إلى هذه العلامة الثانية فيما بدأ يلحظه من تناقض بين ما يكتبونه وما يسلكونه، فأَوْشَكَ أن ينتهي إلى نتيجة يوقن بها أن جبابرة الكلمة في شبابه إنما كانوا يكتبون بعقولهم، وأما قلوبهم وما تؤمن به، فكانت متخلفة هناك، تنبض بما كان سائدًا مما زعموا أنهم إنما كتبوا ليغيروه.
من ذا يلوم شابًّا عربيًّا طموحًا لنفسه ولأمته، يبذل الجهد ما وسعه الجهد، ويتابع ما استطاع المتابعة تيارات التثقيف والتنوير كما أجراها أعلامنا الرواد، إذا رأى ومضات الضياء تسري في أنهر المجلات والصحف مبشرة بقيم جديدة ليست جديدة في تاريخ ولادتها، لكنها جديدة بالنسبة إلى ما كان بحياة النَّاس في الوطن العربي، ومع ظهورها على أقلام كتابنا، فلم يستطع هؤلاء الكتاب أنفسهم أن يحيوها مع مواطنيهم، أقول: من ذا يلوم ذلك الشباب، وقد انطبعت نفسه بما حوله على هذا النحو — إن صدقًا وإن كذبًا — إذا ضاق صدرًا بما هو فيه؟ حقوق الإنسان يقرأ عنها ولا يجدها، الحريَّة والعدالة والإخاء والمساواة، ينادي بها الخطباء على منابر السياسة، ويشيد بها الأدباء والمفكرون، فيصدق صاحبنا ما يقرؤه وما يسمعه وينقل القول إلى حياته، فيناله ما يناله جزاء بلاهته، وهو أشبه شيء ﺑ «دون كيخوته» حين قرأ عن الفروسية والفرسان، فنقل المقروء إلى حياته، فبات أضحوكة الضاحكين، وإن صاحبنا ليذكر جيدًا تلك اللحظة في ساعة مبكرة من صباح يوم شتوي بارد، وقد كان عندئذ في طريقه من البيت إلى العمل، فأحس بقوة العزيمة في جوفه تهز كيانه هزًّا، وصوت باطني ينطق له في خفاء ليسمع، قائلًا: لا بد من الخروج من هذا الطريق المسدود، ولكن كيف السبيل إلى الخروج؟ آه! اترك ذلك إلى ساعة تهدأ فيها نفسًا وعقلًا. هكذا همس صاحبنا لنفسه، ثم استطرد ليقول: لماذا لا تقضي عامك هذا في فرار إلى مدينة الأحلام، انتظارًا للفرج يأتيك من رب العالمين؟
وقد قصد صاحبنا بما أسماه «مدينة الأحلام» تلك الصور الحالمة التي رسمتها عقول قادرة، نعم فللعقول القوية القديرة أحلامها، يضيق أصحابها من كبار المفكرين بالحياة كما تجري حولهم، فيصورون للناس ما يتمنونه للإنسانية إذا هي أفاقت من خلالها، وعاد صاحبنا إلى بيته يومئذ، ليبدأ بالبحث عما يقرؤه من مؤلفات هؤلاء الحالمين، وكانت نقطة البدء «جمهورية أفلاطون» التي رسم فيها ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم صورة للدولة المثلى كما رآها، ثم تسلسلت المؤلفات الطوباوية التي اختارها صاحبنا ليهرب في صفحاتها من حياة ثقلت رحاها على صدره، فكان اختياره الثاني هو «يوتوبيا» تأليف «تومس مور»، وأما اختياره الثالث فكان أطلنطس الجديدة الذي كتبه «فرنسيس بيكون» الفيلسوف الإنجليزي في عصر النهضة، وقفز صاحبنا بعد ذلك إلى ما كتب في العَصر الأحدث، خلال القرنين الأخيرين؛ فقرأ «جنة أرضية» من تأليف «وليم مورس» و«بلد لا وجود له» تأليف «صموئيل بتلر» و«يوتوبيا حديثة» بقلم «ﻫ. ج. ولز» ولم يكن قد نسي «آراء أهل المدينة الفاضلة للفيلسوف العربي أبي نصر الفارابي» … حقًّا لقد نعم صاحبنا بضعة أشهر بالأجواء الحالمة التي عاشها على صفحات تلك الكتب، وكان يلخص ما قرأه في موجزات تبين الخطوط العريضة لما حلم به أولئك الحالمون، ولم يكن يريد لتلك الموجزات إلَّا إثباتًا لمقروءات قد يعود إليها ذات يوم على سبيل الذكرى، لكن شاء الله، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ألا يمر عام بعد تلك القراءات إلا ويقرأ صاحبنا إعلانًا في الصحف عن مسابقة بين الشباب في التأليف الأدبي، وقفزت الفكرة إلى رأسه: لماذا لا نعيد كتابة تلك الموجزات في صورة حية تربطها جميعًا في لوحة واحدة، يظهر فيها تطور الإنسان حتى في أحلامه؟ نعم، فإن نظرة مقارنة سرعان ما تهدينا إلى أن تصوره لإنسان حالم يوناني قديم ليس هو ما تصوره لإنسان حالم عصري، يحس للحياة نبضًا جديدًا وآمالًا جديدة، وحسبنا أن نلحظ بأن الحالمين القدامى قد تصوروا مثلهم الأعلى في «مدينة» ثم جاء حالمون آخرون أيام النهضة الأوروبيَّة، فتصورا مثلهم الأعلى في «جزيرة»، وأخيرًا جاء الحالم في عصرنا فلم يكفه في مثله الأعلى إلا أن يكون الكوكب الأرضي كله وطنًا واحدًا للناس جميعًا، لا تُقام بينهم حواجز القوميات التي تشعل نيران الحروب، وأنجز صاحبنا فكرته في جمع تلك الصور في صورة، وتقدم بها في تلك المسابقة الأدبيَّة، وكان أن ظفر بجائزتها الأولى.
لم يكن صاحبنا في مقره ذاك الذي لاذ به من ضيق نفسه، قارئًا سلبيًّا يتلقى ولا يضيف، بل أخذ يقارن ويختار، فكانت درة الدرر عنده هي فكرة «فرنسيس بيكون» في «أطلنطس الجديدة»، ولنلحظ هنا أنه اختار هذا الاسم، ليضمنه إشارة إلى جزيرة خيالية كان أشار إليها أفلاطون في بعض ما كتب، وأسماها «أطلنطس» فجاء «بيكون» ليبدع بخياله «أطلنطس الجديدة»، والحق أن صاحبنا إذ تأثر بما رواه «بيكون» عن أحلام عقله، لم يكن تأثره مما يزول عنه بعد يوم أو بعد عام أو عشرة أعوام، بل هو تأثُّر باقٍ معه إلى يومنا هذا؛ إذ يرى في الصورة المرسومة ما يتساءل إزاءه قائلًا: لماذا لا يتحقق للإنسان هذا الحلم؟ وما الذي يتميز به حلم «أطلنطس الجديدة» دون سائر الأحلام؟ إن أهل هذه الجزيرة قد استبدلوا بالدولة السِّياسية دولة علمية، فبدل أن تتولى الحكم وزارة من رجال السياسة، تتولى الحكم في أطلنطس الجديدة وزارة من العلماء المتخصصين في فروعهم، وبدل أن يُقال وزارة الخارجية ووزارة الداخلية ووزارة الزراعة … إلخ، يُقال: وزارة الفيزياء ووزارة الكيمياء ووزارة الجيولوجيا … إلخ، والمكاتب في هذه الدولة العلمية هي «معامل» البحوث العلمية، والقرارات التي تصدرها الحكومة هي القوانين العلمية في شتى فروع العلم التي يُكشف عنها في المعامل وهكذا، ورئيس الدولة هو كبير العلماء.
إنه لو وُفق الإنسان في تحقيق هذا الحلم العظيم لانتفت الحروب، وانمحت الصغائر التي تشغل حتى أعلام الرواد، وأما الحروب فتنفى لأن الإنسان في أطلنطس الجديدة لا يحارب الإنسان ليقهره، وإنما يحارب الطَّبيعة لينتزع منها أسرارها فيسودها، وأما الصغائر التي تشغل النَّاس، حتى كبار العظماء منهم، فتنمحي لأن المفاضلة بين إنسان وإنسان لن تكون على أساس السلطة وجبروتها، بل على أساس القدرة العلمية في الكشف عن الجديد.
على أنه لم يكن لصاحبنا بد من صحوة يعود بها من فراره في مدينة الأحلام، ليواجه واقعه الصلب العنيد، محاولًا أن يستبدل به واقعًا جديدًا.