سنوات التحول «١»
جاءت سنوات الأربعينيات لتكون مرحلة للتحول العظيم، وهو تحول شمل العالم كله وما زال إلى هذه الساعة يشمله، متجهًا نحو أن يقتلع نمطًا من الحياة كانت له السيادة في ظل حضارة بلغت ذروتها في أوروبا القرن التَّاسع عشر، مع بضع سنوات من هذا القرن العشرين، يريد اقتلاعها من جذورها، ليقيم مكانها حضارة أخرى ينتج عنها نمط آخر لحياة الإنسان فردًا ومجتمعًا، ولقد شاء الله لصاحبنا أن تكون تلك السنوات نفسها مرحلة تتحول بها حياته الفكرية، على نحو يوثق الروابط بينه وبين تيارات عصره، قابلًا مرة، رافضًا مرة، باحثًا عن صيغة جديدة تصلح له مرة ثالثة.
فقد كان سنوات الأربعينيات من هذا القرن، هي التي شهدت الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩–١٩٤٥) وقيام هيئة الأمم المتحدة بأجهزتها المختلفة، وفي تلك السنوات أُنشئت الجامعة العَربيَّة، وزُرعت إسرائيل على أرض عربية، وصدرت وثيقة حقوق الإنسان، وبدأ الاستعمار الأوروبي رحيله عن الأقطار المستعمرة في آسيا وأفريقيا، وأما ما تحولت به الحياة عند صاحبنا، فأهمه السفر في بعثة دراسية إلى إنجلترا، وكان ذلك في قلب الحرب العالمية، فأُتيح له أن يرى الغرب من قريب، وأن يرى وطنه من بعيد، فأطلعته الرؤية القريبة على سيئات الغرب وحسناته، كما أظهرت له الرؤية البعيدة أين تكمن القوة في أمته وأين يكمن الضعف والقصور.
لم تكن الحرب العالمية الثانية حربًا كل ما فيه حديد ونار وتقتيل وتخريب ودمار، بل كانت تحمل وراء ذلك كله رسالة حضارية تريد لوجه العالم أن يتغير لتتغير معه صورة الحياة، فلقد كانت أوروبا إبان القرن الماضي تحمل في جوفها نقيضين، وكان محالًا على طابع الأمور أن يظل النقيضان متجاورين في سلام، أو لا بد لأحدهما أن يهدم الآخر ويمحوه: فبينما سارت صور الحياة الاجتماعيَّة على سكون وجمود لا يسمح لأحد بأن يغير من الأوضاع المألوفة شيئًا، كان هنالك تحت سطح البحر الهادئ تيار فكري جارٍ يعمل على التَّغيير، فإذا كان النَّاس قد استقرت لهم الحياة في ظاهرها على رؤية سكونية تجعل «الثبات» أساسًا، فلا يسأل سائل عن شيء ثبت على صورة معينة قائلًا: ما الذي أدى إلى ثباته؛ فقد ظهر لهم من بينهم مفكرون يقلبون الوضع رأسًا على عقب، بحيث يجعلون لهم «الحركة» أصلًا، والسكون فرعًا، فلا يكون السؤال هو: ما الذي حرك ذلك الموقف الثابت ليعرضه إلى التَّغير، بل السؤال هو: ما الذي جمد ذلك الموقف المعين، بعد أن كان الأصل في وجوده أن يتحرك ويتغير، ولقد امتدت الدعوة إلى هذا الانقلاب الفكري خلال القرن الماضي كله، بادئة بفكرة هيجل عن جدلية الأفكار، بمعنى أن تصورنا لفكرة ما يستوجب بالضرورة تصورنا لنقيضها، فإذا ما أخذ العقل ينتقل بانتباهه من أحد النقيضين إلى النقيض الآخر، وجد نفسه أمام طرف ثالث تولد عنهما، وأخذ أشد الأفكار تجريدًا وتعميمًا، وهي فكرة «الوجود» المطلق الذي لا يتعين بأي مضمون معين يقيده، تجد أن فكرة الوجود — أو العدم — قد نشأت من تلقاء نفسها، متولدة من فكرة «الوجود» ذاتها، فإذا أخذت تنقل فكرك بين هذين التصورين: الوجود من ناحية، واللاوجود من ناحية أخرى، تولد لك تصور ثالث، يجمع في آنٍ واحد بين الوجود واللاوجود، وهو ما يسمونه ﺑ «الصيرورة»، وهي حالة تتحقق بالفعل في كل كائن من كائنات العالم المخلوق، فانظر إلى النهر — مثلًا — تجده موجودًا معدومًا في آنٍ واحد، فهو هو النهر المعين، تراه اليوم كما رأيته بالأمس، وكما سوف تراه في الغد، لكن هل مياه اليوم هي مياه الأمس أو مياه الغد؟ ثم انظر إلى نفسك، فأنت اليوم هو الذي كنت بالأمس والذي سوف تكونه غدًا (لو أراد لك الله أن تحيا إلى غد) لكن هل تبقى تفصيلات أفكارك وأعضائك ومشاعرك هي هي اليوم كما كانت بالأمس أو ما سوف تكون عليه في الغد؟ وهكذا وهكذا تستطيع أن تدقق النظر فيما شئت من كائنات، لتجد في كل كائن ما يخلع عليه هوية تدوم ولو إلى حين، كما تجده — في الوقت نفسه — متغير التفصيلات على نحو لا يمكنه من الثبات على حالة واحدة لحظتين متتاليتين، وبهذا المعنى نقول إنه في حالة من الصيرورة المستمرة، أي إنه في كل لحظة موجود ومعدوم معًا.
وإنه لمما يضيء لنا هذه الفكرة الجدلية، أن نقف عندها قليلًا لنقارنها بما قد كان قبلها، لنفهم التَّغيير الذي طرأ على الإنسان في رؤيته للعالم وكائناته منذ القرن الماضي، فانتقل بسببه من عصر فكري استنفد دوره في التَّاريخ، إلى عصر فكري جديد بدأت طلائعه ليكتمل له كيانه بعد حين، وقد يفيدنا في وضوح التصور لما نحن بصدد عرضه من تغير في المناخ الفكري، أن نقارن بين تعريفنا لأية حقيقة رياضية — كالمثلث مثلًا — من جهة، وأية حقيقة بيولوجية — كالشجرة — ففي الحالة الأولى، نقول عن المثلث إنه سطح مستوٍ محيط به ثلاثة خطوط مستقيمة، وهو تعريف مقطوع بصوابه (في حالة استواء السطح) لا يتغير منه شيء بتغير المكان أو بتغير الزمان، فهو هكذا على سطح الأرض، وعلى سطح القمر أو المريخ، ثم هو هكذا في عصرنا، وفي كل عصر مضى، وفي كل ما سيأتي من زمان، لكن قارن ذلك بتعريفنا للشجرة، تلمس أوجه الاختلاف من فورك، فبينما الحقيقة الرياضية المتجسدة في «المثلث» هي حقيقة سكونية ثابتة ودائمة، نرى أنفسنا أمام «الشجرة» حيال كائن متغير، يُولد وينمو ويذبل ويموت ويثمر أو يجدب من الثمر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالشكل الهندسي الذي نحن بإزائه، إما أن يكون مثلثًا تام التكوين، وإما ألا يكون مثلثًا، لكن ما هكذا الحال بالنسبة إلى الشجرة؛ لأنها لا تبدأ تامة التكوين بل تُولد نبتة صغيرة وتأخذ في النمو نموًّا يأتيها باعتمال حيويتها من الداخل، ولا يأتيها بإضافات يضيفها إليها أحد من الخارج، وعلى ضوء هذه المقارنة بين تعريف المثلث وتعريف الشجرة نقول: إن وجهة النظر في العصور القديمة كانت تريد للعلم أن يحدد حقيقة الكائن أيًّا ما كانت طبيعته، على الأساس الرياضي، ولا فرق بين مثلث وشجرة، بل لا فرق بين فكرة وفكرة، ففكرة «الشجاعة» أو «العفة» أو «الوفاء» أو «العدل» أو «الفن» أو «الحريَّة» إلخ يجب أن تجد لها عند العقل تعريفًا قاطعًا محددًا يجعلها ثابتة على مر الدهور، وفي أي مكان ظهرت، وكان ذلك كله طلبًا للمُحال، ثم كان في الوقت نفسه فكرًا عميقًا يحكم على حياة الإنسان بالجمود، فلا تغير ولا تطور.
وجاء القرن الماضي بأفكاره الكبرى لينقل الإنسان إلى تصور دينامي جديد، وضح في أشكال مختلفة باختلاف عمالقة الفكر على امتداد ذلك القرن، فهو وإن تكن بدايته «هيجل» وما طرحه من منطق الجدل بين النقائض ليتولد عنها جديد، إلا أن الفكرة التطورية هذه قد أخذت صورًا مختلفة: عند دارون، وماركس، وفرويد، وسبنسر، وشوبنهور، ونيتشة، وبرجسون، ثم عند صموئيل ألكساندر، ولويد مورجان، وألفرد نورث وايتهد، وغيرهم، ممن ركزوا الانتباه على جانب «التَّغير» و«التطور» و«النمو» و«الإبداع» في هذا الكون وكائناته، متخلصين من الرؤية الرياضية إلى الأفكار والأشياء، وهي الرؤية التي ترى الحق في الثبات والدوام، لا فرق في ذلك بين شيء وشيء، ولا بين فكرة وفكرة.
على أن تلك الأفكار الكبرى، التي ساورت عمالقة المفكرين، خلال القرن الماضي وجزء من أعوام هذا القرن، لم تمنع أن يحيا النَّاس حياتهم العملية وكأنهم صُبُّوا في قوالب من حديد، لا يريدون للتقاليد الشكلية أن يتغير منها شيء، ومن ثم فقد سارت حياة الفكر وحياة الجمود الاجتماعي جنبًا إلى جنب، الأولى تجعل التَّغير والتطور محورها المحتوم، والثانية تقيس كل الحقائق على نماذج سالفة ثابتة مُسحت بمسحة من التَّقديس، وكان لا بد لهذا الاختلاف بين الحياتين أن يحدث توترًا ينتهي آخر الأمر بانفجار يقضي على أحدهما ليبقي على الآخر، وتمثل هذا الانفجار خلال النصف الأول من هذا القرن، في حربين عالميتين، وقعت بينهما ثورات وانقلابات وحروب أهلية.
وعودة بنا إلى ما قد أسلفنا ذكره عن الحرب العالمية الثانية، التي شغلت النصف الأول من سنوات الأربعينيات، من أنها لم تكن حربًا تقتصر على الحديد والنار والتخريب والتقتيل والدمار، بل كانت تحمل وراء ذلك كله رسالة حضارية تبشر بوجوب التَّغيير في الحياة الإنسانية من أسسها وجذورها، وكان أول التَّغيير أن تتحرر الشعوب المقيدة، وهكذا كان، حتى أصبحنا اليوم في عالم زال عنه الاستعمار زوالًا تامًّا (تقريبًا) من الوجهة الصورية على الأقل، على أن ما يهمنا في المقام الأول — في سياق هذه الأحاديث الثَّقافيَّة — هو ما ترتب على الاستقلال السِّياسي للشعوب في آسيا وأفريقيا، من استقلال ثقافي لمن استطاع إليه سبيلًا، فبعد أن كان الموقف قبل الحرب، هو أن تكون ثقافة الغرب معيارًا تُقاس به درجات المثقفين أينما كانوا ارتفاعًا وانخفاضًا، فمن قَرُبَ من النموذج الغربي كان بالضرورة — بحكم ذلك المعيار — أعلى ثقافة ممن بعد عنه، أما بعد الحرب واستقلال الشعوب، فقد رُفعت أولوية الاستقلال الثقافي أيضًا، فلكل ثقافة على وجه الأرض قيمتها، إذ الثَّقَافة — على خلاف العلم — تستمد مضمونها من خصوصية أصحابها ومبدعيها، فإذا كان العلم لا خلاف عليه بين شعب وشعب، فلا بد للثقافة أن يتغير لونها ومزاجها ومذاقها من شعب إلى شعب.
كان «ديبوا» في أول هذا القرن، قد تنبأ بأن القرن العشرين سيشهد ثورة «اللون»، فبعد أن كان للرجل الأبيض (الأوروبي) سيادة مُطلقة على سائر الألوان البشرية: الأصفر في الشرق الأقصى، والأسود في أفريقيا، والأسمر هنا وهناك من أقطار الأرض، توقع «ديبوا» أن هذا القرن سيشهد اليوم الذي تثور فيه الشعوب الملونة على التفرقة اللونية، وتحقق ما تنبأ به، وكان تحققه أولى النتائج التي تولدت عن الحرب العالمية الثانية؛ وذلك لأنها كانت نتيجة محتومة لاستقلال الشعوب الملونة في آسيا وأفريقيا عن سيطرة المستعمر الأوروبي الأبيض، واسترداد تلك الشعوب لحريتها التي أرادتها لهم فطرة الإنسان، وكما تساوت الثقافات المختلفة في إثبات ذاتها، تساوت كذلك ألوان البشرة مع حق المساواة للبشر.
لكن مقاومة تلفت النظر وتتطلب شيئًا من التأمل والتفكير الهادئ، نشأت عن تلك المساواة نفسها، فلقد أُقيمت هيئة الأمم المتحدة لتضم شعوب الأرض جميعًا (إلا من كانوا يحاربون الحلفاء ويناصرون محور النازية والفاشية) وكان لكل شعب صوته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن تلك المساواة نفسها جعلت أصحاب القوى الكبرى يتحوطون لصون امتيازهم، فعملوا على أن يُقام مع الجمعية العمومية، التي تضم شتى الأمم على قدم المساواة، مجلس أطلقوا عليه اسم «مجلس الأمن» ليكون «أمنًا» لهم مما عسى أن يهددهم من أخطار تلك المساواة المُطلقة، وهناك في «مجلس الأمن» يكون الحل والربط في مشكلات العالم، رهنًا بمشيئة كل دولة من الدول الكبرى على حدة، هذه واحدة، وأما الأخرى فظاهرة «ثقافية» لها مغزاها، وهي أن الوفود التي تذهب من مختلف أنحاء الأرض لتمثل شعوبها في اجتماعات الأمم المتحدة إنما تذهب مُسلحة بكل ما يؤكد للآخرين هويتها الوطنية المتميزة عما سواها، فيغلب على أعضاء تلك الوفود أن يرتدوا ثيابهم الوطنية، وأن تحتوي حقائبهم على كلمات يلقونها على سائر الشعوب، وهي كلمات أُعدت مقدمًا لتؤكد للآخرين وجهة النظر القومية التي يتعصبون لها تعصبًا يسد المنافذ دون محاولات التفاهم والتوفيق بين الأطراف المتعارضة، ولقد شهدت الدنيا ألف برهان وبرهان، عل أن اتحاد الأمم المتحدة لم ينفع إلا في أوجه النشاط الحضاريَّة، كالثَّقَافة والزراعة والصحة وما إلى ذلك (وهو كسبٍ كبير على كل حال) وأما مشكلات السياسة، فهي — أولًا — حكر على القوى العظمى في مجلس الأمن، وهي — ثانيًا — مما يمكن لدول صغرى أن تتمرد على ما يُوجه إليها من قرارات تلك الدول الكبرى نفسها، وكأن أمور النَّاس الحيوية قد تُركت لتصبح أقرب إلى لعبة شيطانية مكشوفة تسخر بها جماعة من الأبالسة على شعوب لا حول لها ولا سلطان.
لم يكن صاحبنا ذا مزاج سياسي بالمعنى الذي نراه متحققًا في الساسة المحترفين، فكانت المشكلات السِّياسية عنده تتحول إلى مشكلات فكرية نظرية، وكأنها تخص أهل كوكب آخر غير هذه الأرض من كواكب المجموعة الشمسية، ومن ثم فهو كثيرًا جدًّا ما يأخذه العجب مما يسمونه «سياسة» لكثرة ما يراه فيها من مجافاة لمنطق العقل، وحتى إذا حدث له أن أبدى رأيًا كهذا في موقف معين، قال له المحترفون: إن هذه هي «السياسة»، وقد شاءت مصادفات الأيام لصاحبنا أن يُوضع عضوًا في أحد الوفود، في أول اجتماع لهيئة الأمم المتحدة، كان ذلك في لندن، أوائل سنة ١٩٤٩م، وقصة ذلك، أنه كان عندئذ دارسًا في جامعة لندن، وكان قد تقرر لهيئة الأمم المتحدة أن تعقد أولى دوراتها السنوية في لندن؛ لأن مقرها الذي اتفق عليه أن يُقام في نيويورك لم يتم إعداده، وحدث أن إحدى الدول العَربيَّة الشقيقة، لم يكن الحد الأدنى من عدد الأعضاء (وهو ستة مقابل اللجان الست) متوافرًا لها، فطلبت من السفارة المصريَّة هناك، أن تختار لها ثلاثة أعضاء من المصريين المقيمين في لندن، الذين ترى فيهم الصلاحية للاضطلاع بتلك العضوية، وكان صاحبنا أحد الثلاثة المختارين لذلك، فأتاحت له تلك المشاركة خبرة بحقيقة «السياسة» كما رآها متمثلة في أضخم رجال السياسة الذين ملأت شهرتهم يومئذ أسماع الدنيا وأبصارها، وتابع صاحبنا في شغف ما تدور به المناقشات، وما يوصل إليه من الحلول، وخرج من ذلك كله بنتيجة غرست في رأسه غرسًا، وهي نتيجة أيدت له ظنه السابق في «السياسة» وطبيعتها، فهي لا تقل ولا تزيد عن أن تكون للدولة القوية إرادة ما، جاءت بها إلى الاجتماع، وتكون المهارة السِّياسية بعد ذلك، هي في أن تُصاغ لتلك الإرادة صيغة لغوية مقبولة شكلًا عند الأطراف المتعارضة، أما إنها ستعمل على حل المشكلة المعروضة للحل، فمسألة لا هي واردة، ولا هي في حسبان الأقوياء من أصحاب الإرادات.
نعم، كانت سنوات الأربعينيات قد تركت عند صاحبنا انطباعًا، بأن سمة من أوضح سمات العصر، فيما بعد الحرب العالمية الثانية، سوف تكون سمة التذبذب بين «أفكار» العقلاء من جهة، و«رغبات» الراغبين من جهة أخرى، و«الفكرة» و«الرغبة» طرفان قد يلتقيان عند الأسوياء، فالعواطف تميل بصاحبها نحو «رغبة» ما، وإذا هي في الوقت نفسه مما يتفق مع منطق العقل، لكنهما كذلك قد يتنافران، فتجيء رغبة العاطفة متنافية مع ما يوجبه منطق العقل، وقد أسلفنا لك القول، بأن عمالقة «الفكر» في القرن الماضي، قد أبدعوا أفكارًا كُبرى تتحول بها الدنيا من رؤية سكونية إلى أخرى حركية (دينامية)، لكنهم لم يستطيعوا، بل ربما هم لم يحاولوا أن يجروا أفكارهم تلك مجرى التَّاريخ، أعني أن يعملوا على تجسيدها في حياة النَّاس الفعليَّة، فظلت على مستواها النظري طوال القرن الماضي وبضع سنوات من هذا القرن، يمكن أن يجعل نهايتها قيام الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٤م، وبحذاء ذلك المستوى النظري، بقيت الحياة السلوكية العملية على جمودها، بل أسرفت إسرافًا شديدًا في التشبث بالتقاليد المرعية حفاظًا على «أشكالها» الظاهرة، حتى ولو اضطر النَّاس بدوافع من عواطفهم وغرائزهم أن ينقضوها في الخفاء، فلما أن جاءت الحربان العالميتان في هذا القرن، الأولى والثانية، وما توسطهما من ثورات وصور للتمرد الجماعي في بعض الأقطار نجحتا في دك الأشكال الجامدة العتيقة، لتفسح الطريق أمام الأفكار الجديد لتلتمس حظها من التطبيق وتغيير وجه الحياة، إلا أن نجاح ترك الأفكار الجديدة مع حظها في المحاولة، معرضة للصواب حينًا وللخطأ حينًا، وهو أمر طبيعي عند أية محاولة كبرى يهم بها إنسان إزاء القديم المألوف، ليستبدل به جديدًا غير مألوف، لكنه أكثر صلاحية، فها هنا يغلب التردد على سلوك الإنسان في عملية العبور من القديم إلى الجديد، وها نحن أولاء قد رأينا كم كان عسيرًا، حتى على كبار الساسة في العالم، أن يقعوا على نقطة تتم عندها مصالحة بين الروح «الوطنية» بمفهومها الضيق، والروح «الدولية» بالمعنى الذي تخيلته الأمم عندما أرادت أن تقيم منظمة دولية تتحد الأمم المختلفة أوطانها، في ساحاتها وفوق منابرها، لعل الوفاق السلمي يحل محل الحروب، فرأينا كبار الساسة — فضلًا عن صغارهم — يتعثرون بين الإبقاء على مشاعرهم «الوطنية» متسترين خلف أقنعة «دولية»، وكان أمهر الساسة هو أكثرهم توفيقًا في تلك اللعبة التي استهدفت الجمع بين الضدين.
وإذا شاء العربي أن يرسم لنفسه صورة صحيحة تبين له كيف تدور تروس تلك الآلة الكبرى التي يطلق عليها اسم «الأمم المتحدة» وأعني التروس المخبوءة في الضمائر بغض النظر عن الميثاق ومواده، ولقد أسلفنا لك شرحًا لمعنى «المهارة السِّياسية» إذ رأيناها أقرب إلى القدرة على صياغة الألفاظ على نحو تقبله كل الأطراف المتعارضة في وقت واحد، مما يقطع أن تكون تلك الصياغة أبعد ما تكون عما يقتضيه منطق العقل فيما يُراد له أن يكون فكرًا على منهج العلم أقول: إننا رأينا فيما أسلفناه كيف تكون المهارة السِّياسية أقرب إلى قدرة «الحاوي» الذي يخرج من كمه أرانب ومناديل وبيضًا وقطع النقود، منها إلى دقة المنهج العلمي الذي يتطلب أول ما يتطلب أن تكون مفردات اللغة أو غير اللغة من الرموز واحدية المعاني، بمعنى أن يكون للاسم المعين مسمًّى واحد، وألا يكون لهذا المسمى إلا اسم واحد هو الاسم الذي تصطلح عليه جماعة العلماء ذات الاختصاص الواحد، نقول: إنه إذا أراد عربي بأن يرسم لنفسه صورة للطريقة التي تدور بها تروس الأمم المتحدة في خفاء الصدور، فأين يجد الصورة المنشودة إن لم يجدها في قصة الأمم المتحدة ومواقفها من الأمة العَربيَّة وشعب إسرائيل؟
وإن صاحبنا ليكرر القول مرة بعد مرة، بأنه لم يُخلق للسياسة وألاعيبها، فهو إذا وقف عند مسألة من مسائلها، فإنما يقف وقفة عقل منطقي إزاء مشكلة فكرية، وهكذا ينظر إلى حكاية العرب وإسرائيل والأمم المتحدة، أو قل الدول الكبرى صاحبة حق النقض في مجلس الأمن، فيُحكى أن لورد بلفور، وكان وزيرًا في الوزارة البريطانية سنة ١٩١٧م، كان مسئولًا عن المستعمرات وشئونها، وكان ونستن تشرشل وزيرًا أيضًا في الحكومة البريطانية عامئذ، ثم يُحكى أن بلفور أراد أن يجد مخرجًا يعد به أن يُقام وطن لليهود في فلسطين، ودخل عليه زميل ذات يوم، فوجده قد نشر خريطة فلسطين على مكتبه، والقلم في يده يبحث عن موضع ملائم يرسم بها خطوطًا تحدد ذلك الوطن اليهودي المنشود، وعلم زميله بما يحاوله فسأله: وماذا أنت صانع بسكان هذه المنطقة من غير اليهود؟ فأجابه بلفور دون أن ينظر إليه: وهل لهذه المنطقة سكان؟! قالها ساخرًا، وكأن الذي بين يديه لوحة الشطرنج يحرك أحجارها كيفما شاءت مهارته السِّياسية، ثم جاء يوم عُرض فيه المشروع على مجلس العموم البريطاني، وربما كان له بين الأعضاء معارضون، فوقف الوزير ونستن تشرشل شارحًا للمجلس بعض الأهداف التي قد تخفى على أعضاء المجلس، فقال ما معناه: إن وراء هذه الخطة هدفين؛ أولهما: أن قيام وطن يهودي من شأنه أن يمتص الثورة العَربيَّة، فبدل أن يتجه العرب بانفعالاتهم نحو بريطانيا، سيتحولون بها نحو الوطن اليهودي، وأما الهدف الثاني: فهو أن قيام وطن يهودي في المنطقة المقترحة من أرض فلسطين، من شأنه أن يقسم الوطن العربي قسمين تنقطع بينهما الصلة الجغرافية الميسرة فيدب بين العرب نوع من الفرقة بسبب ذلك التفريق.
كان ذلك كله سنة ١٩١٧م أي قبل وجود منظمة الأمم المتحدة سنة ١٩٤٦م، وبعد قيامها بعام واحد — وهو العام الثاني لوجودها، والأول بعد انتقالها إلى مقرها الدائم في نيويورك — صدر قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين: إحداهما للعرب من أهل فلسطين والأخرى لليهود، وبعد نحو ستة أشهر من هذا القرار، أُعلن عن قيام الدولة اليهودية، وأن يُطلق عليها اسم «إسرائيل».
إلى هنا وليس في منطق العقل ما يرفض شيئًا من هذا، ما دام الأمر مشروطًا بألا يضر التقسيم أحدًا من أهل البلاد، وهو شرط يتولد عنه بالضرورة ألا يهاجر اليهود من أنحاء الأرض إلى فلسطين، إلا بما تسمح به مساحة الوطن اليهودي، فماذا تقول إذا علمت أن الدول الكبرى صاحبة النفوذ في الأمم المتحدة، هي نفسها التي عملت، وما زالت تعمل، على أن تفتح أبواب الهجرة اليهودية على مصاريعها؟ وليست تلك الدول — بالطبع — من البلاهة بحيث يفوتها ما لا بد أن ينتج عن ذلك من رغبة في توسع الدولة اليهودية على حساب دولة عربية، فإذا ارتفع صوت يعارض تلك الهجرة اليهودية المفتوحة، لما يتحتم أن تحدثه من أضرار بحقوق الجيران، ردت تلك الدول الكبرى بوجوب رعاية «حقوق الإنسان»، وكان تعريف «الإنسان» عندهم لا يشمل العرب، فمثل هذا التناقض فيما تصنعه هيئة الأمم المتحدة، هو ما ينفر منه منطق العقل.
وتساءل صاحبنا ذات عام فيما بعد قيام إسرائيل، وما تبعه من متناقضات ومفارقات يثور لها العدل والعقل معًا: وماذا فعلت الجامعة العَربيَّة يا تُرى تجاه حلقات العدوان الطاغي بغير حساب؟ وهنا دفعه حبه للمعرفة أن يقرأ شيئًا عن نشأة الجامعة العَربيَّة وأسلوب عملها، فاهتدى إلى مجموعة من محاضر الجلسات التي عقدتها الحكومات العَربيَّة وهي في سبيلها إلى إنشاء الجامعة العَربيَّة، ووقف طويلًا عند المناقشات التي دارت حول أن تكون قرارات الجامعة ملزمة للدول الأعضاء أو غير ملزمة، وأحس بحرارة المعارضين لفكرة الإلزام، حتى انتهى الأمر بأن تصبح القرارات بمثابة توصيات، من شاء أخذ بها ومن لم يشأ أهملها كأن شيئًا لم يكن، فهمس صاحبنا لنفسه قائلًا: كفى، كفى، فلا فرق بين أن تقوم للدول العَربيَّة جامعة، أو ألا تقوم، إذ لا يعدو شأنها في مجرى الأحداث، أن تتحول إلى دردشة لا تغير من أحداث العالم شيئًا.
كان صاحبنا عند انتقاله في عقود السنين إلى سنوات الأربعينيات، وهي السنوات التي شهدت تحولات عميقة في حياة الشعوب بصفة عامة، وفي حياته هو الشَّخصيَّة بصفة خاصة، قد ترك الثلاثينيات مثقل الصدر بهموم حقوق الإنسان الضائعة، حتى على أيدي روادنا الأعلام، فماذا وجد في عقد الأربعينيات عن تلك الحقوق؟ وكيف جاء رد فعله لما وجد؟