سنوات التحول «٢»
ألقت الحرب العالمية سلاحها سنة ١٩٤٥م، وكان صاحبنا عندئذ في بعثته الدراسية التي جاءته متأخرة بعد تخرجه بأربعة عشر عامًا، لم يكن قد أضاع منها يومًا واحدًا فارغ البال، إذ جرت حياته في ثلاثة خطوط متوازية، كان كل خط منها كافيًا وحده أن يملأ الحياة عملًا: فهو في أحدها معظم نهاره كاسبًا لرزقه، حتى إذا ما فرغ من ذلك غمس نفسه في القراءة والكتابة كاتبًا ليشارك في الحياة الثَّقافيَّة، ثم هو آخر الشوط يختم نشاطه بدراسة يستعد بها لقدوم اللحظة المجهولة، التي إذا حانت، ظفر بحقه المُرجأ في السفر إلى الخارج ليكمل دراسته العليا، وكان من طبيعة تلك الحياة المزدحمة أن تترك في صدر صاحبها مزيجًا من الأمل واليأس، والحق أنه كان اليأس أقرب حلولًا في نفسه من بوارق الأمل، فما أكثر ما أوحى إلى نفسه بأنه إنما ينفخ في رماد، هيهات أن تتوقد له من تحته جذوة فتبعث فيه الدفء، وربما كان بعض ذلك راجعًا إلى كثرة ما امتلأ به طريقه من عقبات تدعو إلى الإحباط، فقد كان من أندر النادر في مجتمعنا، الذي لا نستثني معه أعلامنا الرواد، أن يجيء الحق إلى صاحبه بقوة الحق وحدها، فإما أن تعامل النَّاس والعصا في يدك، واللفظ الخشن بين شفتيك، وإما أن يصيبك الإهمال إلا أن يتولاك ربك برحمته وعدله، ولم يكن صاحبنا قد عرف الطريق إلى العصا، ولا اعتاد لسانه اللفظ الغليظ لينطق به في حينه فيستريح، حتى وإن أفلتت منه وسائل النجاح.
ولقد حدثناك عنه، فيما أسلفناه من أحاديث، كيف انتقلت به السنون من ثلاثينيات القرن إلى أربعينياته مثقل القلب بهموم اليأس من أن تجد حقوق الإنسان سبيلها ميسرة إلى من يستحقها، وكان مصدر يأسه أن روادنا الكبار قد غلب عليهم أن يكتبوا بالأقلام ما لا يفعلون، فهم يدعون إلى الحريَّة والعدل والمساواة وكرامة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى، حتى إذا ما دخلوا في معاملات من سواهم، لم يكن لكل ما يدعون إليه إلا أضعف الأثر، فحرية الفكر والقول لهم وليس لمن دونهم، ومن ثم فلا عدالة، ولا مساواة، ولا كرامة، إلا وهي حبر على ورق، وسافر صاحبنا في بعثته الدراسية وملء صدره غيوم من هذه الهموم، ليجد مجتمعًا آخر يتعامل أفراده بعضهم مع بعض على نحو ما كان يتمنى أن يراه في قومه، وهنالك أشرق عليه المعنى القوي الناصع، للعبارة التي قالها الإمام الشيخ محمد عبده، عندما زار إنجلترا سنة ١٩٠٥م، حين قال إنه وجد في تلك البلاد إسلامًا بغير مسلمين، بعد أن ترك وراءه في بلده مسلمين بغير إسلام.
ولم يكن قد مضى على نهاية الحرب العالمية الثانية إلا ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، حتى أعلنت أمام العالم وثيقة حقوق الإنسان، في العاشر من شهر ديسمبر سنة ١٩٤٨، فتلقاها صاحبنا بفرحة وكأنه يتلقى بارقة تزيح عن صدور النَّاس في أنحاء الأرض كوابيس الظلام، وماذا قالته تلك الوثيقة عن «حقوق الإنسان»؟ إنها رددت ما يمليه الإدراك الفطري السليم، فليس الذي ينقصنا هو «معرفة» الحقوق، بل هو التربية التي تدربنا على النط السلوكي الذي يصون تلك الحقوق، فأول ما نادت به الوثيقة، هو حق «الحريَّة»، ومن ذا ينكر على النَّاس حقهم في «الحريَّة» ما دام أمرها مقصورًا على اسمها؟ لا أحد، لكن تأمل حياتهم العملية لترى كيف تُفهم الحريَّة وكم يتحقق من معانيها، فهي في بلادنا — على أحسن الفروض — تُفهم من جانبها السلبي وحده، إذ تُفهم بمعنى التحرر من القيود، ومن القيود السِّياسية بصفة خاصة، ومثل هذا التحرر واجب محتوم، لكنه إذا اكْتُفِيَ به لما كسب الإنسان من حريته شيئًا إلا الشكل الخارجي، فبعد أن كان القيد يغل قدميه أُزيل القيد، إلا أن القدمين ما زالتا عاجزتين عن السير، لماذا؟ لأن السير يريد هدفًا يُوصَل إليه، ولأن الوصول إليه يتطلب «معرفة» بالوسائل، فإذا كان لا هدف هناك، أو كان هنالك الهدف ولا معرفة يُستعان بها على خلق الوسائل المحققة لذلك الهدف، إذن فيا خيبة الرجاء، وهذا هو ما قد حدث بالفعل في معظم الأقطار التي فُكَّتْ عنها قيود المستعمر، قطرًا بعد قطر، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية سلاحها، إذ ماذا يُجدي إذا أُزيلت الأغلال عن الأقدام، وبقيت أغلال تقيد العقول؟ ماذا يُجدي أن تظفر أمة بحريتها السِّياسية، حتى إذا ما همت بعد ذلك تبني قوائم حياتها الجديدة وجدت نفسها في حاجة إلى ذلك المستعمر نفسه تطلب منه أن يعينها بعلمه وخبرته، وأجهزته؟ أليس سيد الأمس هو نفسه سيد اليوم، ولم يغير من الأمر شيئًا أن تنتقل الأغلال من الأقدام إلى الرءوس؟
وحرصت وثيقة حقوق الإنسان منذ فاتحتها، على أن تطالب لكل إنسان بكل الحقوق، ولنتأمل هذا المعنى جيدًا؛ لأننا لم نألف العيش في مجتمع لا يتفاوت فيه الأفراد بامتيازات تُعطى لزيد ويُحرم منها عمرو، ولست أعني بالامتياز ذلك التفوق الذي يظفر به صاحبه بمواهبه وبجهده، فهذا امتياز لا مأخذ عليه، بل وأراده لنا رب العالمين، وإنما قصدت إلى امتيازات تُؤخذ سرقة ونهبًا، وتُعطى قسرًا وتجبرًا واعتسافًا.
ويطالب إعلان «حقوق الإنسان» بحق «الحياة» وقد نسرع إلى الظن بأنه حق يضمن للإنسان أن يتنفس، فلا يغتاله أحد، أما صاحبنا حين طالع إعلان الحقوق فور صدوره، وأخذته الفرحة بما طالع، فقد ذهب بفكره بعيدًا في فهم «الحياة» التي هي حق لكل إنسان، وساعده على هذا التوسع في فهم المعنى، ما كان يعرفه عن معنى «الحياة» في الفكر الإسلامي فصفة «الحي» اسم من أسماء الله الحسنى، ويذهب نفرٌ من فقهاء المسلمين — ومنهم أبو حامد الغزالي — إلى أن الصفات المتضمنة في أسماء الله الحسنى، هي في الوقت نفسه صفات تلزم الإنسان المسلم بأن يتخلق بها، مع الفارق الواسع بين الحالتين، فبينما تُفهم الصفة وهي منسوبة لله جل وعلا بمعناها المطلق الذي لا تحده حدود، تكون وهي منسوبة إلى الإنسان محدودة ومقيدة، فصفة «الحي» في كلتا الحالتين تتضمن — كما شعر الغزالي — صفتَي «الإرادة» و«العلم»، إلا أن الله الحي — سبحانه وتعالى — مريد بمشيئة مطلقة ومحيطة بالكائنات جميعًا، وهو كذلك «عليم» بعلم يسع السموات والأرض، وأما الإنسان فهو وإن تكن «حياته» الإنسانية متميزة دون الحياة في أي كائن آخر، بكونها مشتملة على القدرة المريدة والقدرة الإدراكية الواعية لما تدركه، إلا أن ذلك مقيَّد بحدود، وما دام الأمر كذلك، فحق «الحياة» بالنسبة إلى الإنسان، لا يقتصر على حصانة تمنع اغتياله أو قتله بأية صورة من الصور، بل يضيف إلى ذلك حق الإنسان في أن يكون ذا إرادة حرة، يسعى إلى العلم بمخلوقات الله ما وسعته القدرة على تحصيل ذلك العلم، فليس النَّاس سواء في قدراتهم الإدراكية وفي مواهبهم المختلفة، ومن حق الإنسان الحي في امتلاك هاتين الخاصتين — وهما أن يريد بإرادة حرة، وأن يحصل من المعرفة ما استطاع تحصيله — تنبثق حقوق أخرى انبثاقًا يجعل تلك الحقوق جزءًا من الفطرة الإنسانية، وليست هي موهوبة له من أحد سوى خالقه الذي فطره على ما فطره من خصائص: فمن كون «الحياة» الإنسانية مريدة بطبيعتها، ينتج بالضرورة أن تكون للإنسان «الحريَّة» التي يختار بها ما يريد، فإذا حُرم من حق الاختيار الحر بين البدائل المتاحة، فكأنه حُرم من إرادته التي هي جزء من فطرته، ومفهوم بالطبع أنه لما كان الفرد عضوًا في مجتمع بحكم الضرورة، وجب أن تتوازن حريات الأفراد بحيث لا تطغى إرادة منها على أخرى، ومن هنا جاءت الشرائع والقوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها في كل موقف من مواقف الحياة والقوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها المشتركة، وكذلك ينبثق من كون الحياة الإنسانية — في الفكر الإسلامي — مميزة بتحصيل العلم، حق «التفكير» و«التعبير» عما قد انتهى إليه ذلك التفكير، فليس لأحد على أحد سلطان يقيد به فكره، أو يصادر به حقه في أن ينشر في النَّاس ذلك الفكر، ولعل أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، وفوق ذلك كله، أن الفكر الإسلامي حين جعل «الحياة» الإنسانية مؤلفة من «إرادة» ومن «علم»، قد افترض افتراضًا مسبقًا لم يجعله موضع مجادلة بين قبول ورفض، وهو أن كل فرد من أفراد الإنسان قد خُلق لذاته، ولم يُخلق من أجل ذات بشرية أخرى، وبذلك يكون من معاني حق «الحياة» أن يكون الإنسان غاية مقصودة، وهو مسئول أمام الله سبحانه وتعالى عما يعمل، بغض النظر عن سائر الأفراد، وكونه غاية في ذاته يستوجب رفض الرق الذي يُوكل إلى السيد أن يسلب العبد إرادته فيسلبه — بالتالي — حياته الإنسانية فلا يبقى له من الحياة إلا جوانبها الآلية والحيوانية.
ويستخرج إعلان «حقوق الإنسان» بعض النتائج التي تتفرع عن حق «الحياة» لتكون بدورها حقوقًا مُسلمًا بها، منها ألا يُكْرَه إنسان على غير إرادته إكراهًا يلجأ إلى تعذيبه بأي نوع من أنواع التعذيب، سواء أكان إيلامًا جسديًّا، أم كان إحراجًا يحط من كرامته أمام الآخرين، كأن تُهْتَك خصوصية حياته، الشَّخصيَّة الخاصة، فمن حق كل إنسان أن تكون لحياته الخاصة حُرمة تُصان.
وهكذا يعلن ميثاق الحقوق عما يجب أن يتمتع به أفراد النَّاس جميعًا، فلكل إنسان حق التنقل حيثما أراد، لا تُحدد إقامته في مكان معين رغم إرادته، ولكل إنسان حق التملك لا ينازعه فيما كسبه بعمله منازع، وإذا كان لكل إنسان الحق في التفكير والتعبير، والحق في اختيار عقيدته، فإنه مما يلحق بذلك أن يكون له أيضًا الحق في أن يغير من فكره ومن عقيدته إذا أراد لنفسه ذلك، ولكل إنسان الحق في العمل وفي حرية اختياره لنوع العمل الذي يراه ملائمًا لقدراته.
كما أن لكل إنسان الحق في وقت الفراغ، وذلك كله يستتبع أن تكون السلطة الحاكمة مسئولة عن تهيئة الظروف التي تكفل للعاملين درجة لائقة من مستويات العيش، وأن تدبر نظامًا للتأمينات التي تكفل دوام ذلك المستوى في حالات البطالة والمرض والشيخوخة، وينص إعلان «الحقوق» بصفة خاصة على حقوق «الأمومة» و«الطفولة»، فالأم أم تستحق الرعاية والحماية، مهما تكن العلاقة التي أدت بها إلى تلك الأمومة، والطفل طفل تجب له العناية بغض النظر عن أي عامل اجتماعي أو طبيعي يحيط به. وللتعليم والثَّقَافة نصيبهما في إعلان «الحقوق»، فلكل فرد حق في أن يتعلم وفي أن يجد زادًا ثقافيًّا يلائمه، كما أن للقائمين بعمليات التعليم والتثقيف حقوقًا ينص عليها الإعلان، تشمل فيما تشمله حقوق المؤلفين والمبدعين، كما تشمل حقوق الآباء في أن يكون لهم رأي في تعليم أبنائهم، وإلى جانب حقوق الأفراد التي ذكرنا بعضها، لم يفت الإعلان أن يذكر ما «للشعب» الذي هو مجموع مواطنيه، من حقوق، وعلى رأسها أن يكون الشعب مصدر السلطات جميعًا، بما يكون لأبنائه من حقوق الانتخابات لمن ينوبون عنه في مواقع صنع القرار، لم يكن صاحبنا ولا كان غيره بحاجة حقًّا إلى إعلان لحقوق الإنسان لكي يعرفها بعد جهل، لكن جاء الإعلان ليوقظ الغافلين، فحقوق الإنسان أمور تكاد تمليها فطرة الإنسان، إلا أن تلك الفطرة فيها كذلك ما يملي التسلط والاستبداد والحقد والكراهية، وها هو ذا صاحبنا قد سافر في بعثته الدراسية محيطًا بما وجده من خيبة الرجاء، حتى عند الرواد الكبار إذا ما اقتربت منهم لتراهم عن كثب، فلما أن استقر به المقام في الغربة، لم يستطع أن يقاوم إغراء القلم ليكتب فيما أثقل قلبه من أسًى، لكنه حمل قلم الأديب، لأنه آثر أن يدخر قلم العالم ليجول به في مجال البحث العلمي، فماذا كتب الأديب بقلمه في سويعات فراغه هناك؟ إنه ابتكر لنفسه طرازًا فريدًا من المقالة «الأدبيَّة» يصب فيها مرارة نفسه، وليست المقالة «الأدبيَّة» موصوفة بهذه الصفة لمجرد أنها كلام مكتوب في لغة سليمة، أو بأسلوب متميز، وإنما هي «أدبيَّة» لأنها صفة ضرورية لا يكون الفن فنًّا ولا الأدب أدبًا إلا إذا توافرت فيه تلك الصفة، وقد يُضاف إليها بعد ذلك صفات أخرى، أو لا يُضاف، وتبقى هي شرطًا ضروريًّا، وأعني بها الصورة، أو «الشكل» أو «التكوين» أو طريقة البناء، أو الإطار … فهذه كلها أسماء تشير إلى طبيعة الصفة المميزة التي لا يكون الفن الأدبي، أو الفن من أي ضرب آخر، فنًّا إلا بها، فالفن إذا ما أراد أن يُوَصِّل إلى المتلقي حالة نفسية معينة، أو فكرة، لجأ إلى وسيلة تحمل تلك الحالة أو الفكرة المبثوثة إلى متلقيها، تصل إليه بطريق غير مباشر، لماذا؟ لأن الحالة النفسية أو الفكرة ينقصها التجسيد الذي يجعلها وكأنها شيء مما تراه الأبصار أو تسمعه الآذان أو تلمسه الأيدي، وعلى الفنان — في الأدب وفي غيره — أن يبحث عن وسيلة تجسيد ملائمة لموضوعه.
حمل صاحبنا — إذن — قلم «الأديب» ليصور ثورة نفسه على ما كان قد خبره في وطنه من روح التسلط والتعالي والظلم والخنوع والنفاق، وغير ذلك من الصفات التي يختفي منها كثير إذا ما نشأ المواطنون نشأة تبث فيهم الشعور بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن فقره وغناه، وضعفه وقوته، وما شئت من أوضاع اجتماعية تتبع ضروب العمل المختلفة، وأعجب العجب أن تسري في مجتمعنا هذه الأخلاق ولا يراها النَّاس، أو هم يتصرفون إزاءها وكأنهم لا يرونها، فلا المتسلط يرى في تسلطه شذوذًا عن السواء، ولا الخانع أمام المتسلط يشعر بأنه قد أهدر آدميته بخنوعه وخضوعه لإنسان من البشر، نعم، أخذ صاحبنا ينشئ مقالاته «الأدبيَّة» في غربته، ويرسلها إلى القاهرة؛ فتنشر وتحدث الصدى، فلكي يصور استعلاء بعضنا على بعض، بحيث إذا ظفر أحد منا على مقدار ذرة من قوة أو ثراء أو نسب أو ما شئت، تفنن في ابتكار الوسائل التي يتعالى بها على من دونه حتى ليطمس له حقوقه المشروعة من حيث هو إنسان ذو حقوق لا يضيعها حرمانه من أسباب القوة والسلطان، ومع ذلك فالشعب يُلَقَّن في الصباح وفي المساء بأنه قد بلغ من إنسانية الإنسان ما لم يبلغه شعب آخر ممن أعمتهم المادة والفساد! أقول إن صاحبنا لكي يصور تلك المفارقات، كتب ذات مرة يقول: «وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب علينا النسائم عليلة بليلة، فإذا خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال، أو إلى أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها، الكاوية، عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم، تغفو عيناه فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو، لينعم في غفوته بحلاوة غفلته …» ثم يأخذ صاحبنا في تصوير نماذج من تعامل النَّاس أعلاهم مع أسفلهم، وفي صورة تقطر مرارة، أجرى مقارنة ساخرة بين قيمة الإنسان في مجتمعنا، وقيمته في مجتمع الغرباء الذي وجده في الغربة، كتب يقول: «… وجدت النَّاس هنا (أي في مجتمع الغرباء) لا يؤمنون بأن الليل لا ينبغي له أن يسبق النهار، ولا الشمس أن تدرك القمر، وأن كُلًّا في فلك يسبحون، فهم يريدون لأجرام السماء كلها أن تسبح في فلك واحد، ثم تختلف بعد ذلك أوضاعها وأشكالها ما شاءت أن تختلف، وذلك الفلك الواحد عندهم هو صفة «الإنسانية» التي تجعل الإنسان شيئًا غير الكلب والحمار، فكن عندهم فقيرًا ما شئت، أو كن عندهم غنيًّا ما شئت، لكنك «إنسان»، كن عندهم ضعيفًا ما شئت، أو كن عندهم قويًّا ما شئت، لكنك «إنسان»، كن عندهم زارعًا، أو صانعًا، فأنت «إنسان»، كن عندهم خادمًا أو مخدومًا، وأنت في كلتا الحالتين «إنسان»، كأنهم جماعة من النمل، لا تختلف فيها نملة عن نملة، وأقارن فوضاهم هذه بالنظام في جنتي، فأحمد الله على سلامتي، أرادت زوجتي في جنتي، أن تستخدم خادمة فسألتها: اسمك ماذا؟»
– بثينة يا سيدي.
لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء؛ حتى لا يختلط خادم بمخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين منذ اليوم زينب، أتفهمين؟
– حاضر، سيدتي.
وبثينة بالطبع لم تفهم لماذا تكون منذ اليوم زينب؛ لأنها جاهلة صغيرة، لم تفهم بعد ما الفضيلة وما الرذيلة …
كان صاحبنا يحمل معه ذكريات كثيرة عن الحياة الاجتماعيَّة في وطنه، وهي ذكريات كانت مزيجًا مما يدعو إلى الحب والفخر، وما يدعو إلى السخط والغضب، لكن الكاتب في موقفه من حقائق الحياة كما يراها، يشبه الطبيب في موقفه من مريضه، فالمريض ليس مرضًا كله، بل هو جمع بين مرض وصحة، إلا أن الطبيب إنما جاء ليستخرج مواضع العلة، لتكون هي مشغلته لعله يكون وسيلة لشفاء مريضه، وكذلك الكاتب، إذا هو ركز انتباهه على جوانب القوة من حياة قومه مرة، فهو يركزه على جوانب الضعف مرات، لعله يستطيع أن يلفت إليها الأنظار فيصيبها إصلاح، وعلى هذا الأساس كان صاحبنا، وهو في غربته، يجد الأحداث والمواقف التي تجري حوله هناك — وكانت الحرب العالمية في لهب سعيرها — أقرب إلى أن تثير في نفسه ذكريات الخلل في حياة أهله، منها إلى إثارة الذكريات الجميلة الدافئة، ومن أبرز الصور التي كانت تعاوده حينًا بعد حين، صورة الرئيس المستبد الوقح، الذي ينتهز فرصة الشعور بالضعف والحاجة عند من هم في قبضته، ولم تكن «الرياسة تقتصر» عنده على رياسات الدواوين وما إليها، بل هي تجاوز ذلك لتشمل كل ذي سلطان، وكثيرًا ما كان صاحبنا يذكر رأيه لأصدقائه وقرائه، بأن الإسراف في قيمة «السلطة» عند مواطنيه، هو العلة الأولى في حياتهم، ولو استطعنا أن نقلقل حب التسلط لننزل من ذروته في سلم القيم عندنا لانزاح عن صدورنا كابوس ثقيل، إذ يضيع من جهودنا في نشر الحريَّة، والعدالة، والديمقراطية إلخ جزء كبير، يذهب هباء ما دامت قيمة «التسلط» تتربع على عرشها بين القيم، ومن هنا وجه صاحبنا قلم الأديب الذي خصص له سويعات من وقته هناك، ليكتب ما يرسله لينشر في مصر، نحو «التسلط» يصوره في بشاعته لعله يثير شيئًا من سخط قارئه، وكان ذلك الجهد الأدبي المبذول، في وسط الأربعينيات من أعوام هذا القرن، ولم يكن قد بقي على موعد الثورة سنة ١٩٥٢ إلا فترة تقل عن عشر سنوات، فتجيء ترفع لواء «العدالة الاجتماعيَّة». كان بين ما كتبه صاحبنا هناك، موضوع أسماه «تجويع النمر» يقول فيه لقرائه: إن بين أفراد النَّاس فئة تشبه صنوف الحيوان في تركيبها النفسي، بحيث إذا بقر بطونهم مبضع التشريح، وجد في الجوف نمر كامن، أو ثعلب، أو حمل، أو ضبع، أو كلب، وهكذا فترى صاحب هذا المكنون الجوفي يتصرف على طباع الحيوان الذي كمن فيه، ويهمنا من هؤلاء قبيلة النمور، فماذا أنت صانع بنمر بشري استبد بك في طريق حياتك لتنجو من شره؟ الحل بسيط غاية البساطة، وهو أن تلجأ إلى تجويعه، فأنت تعلم أنه يقتات على ضعفك، فما عليك في هذه الحالة إلا حرمانه من الغذاء الذي يشبعه، فإذا رأيت بوادر التنمر قد أخذت في الظهور، اتركه ليجد أمامه هؤلاء في خلاء.
وعن «الظلم» الاجتماعي كتب صاحبنا صورة يصور بها غلامًا في نحو العاشرة، سمع في الطريق العام بائعًا متجولًا يصرخ وهو في قبضة شرطي، قائلًا: هذا ظلم، ولم يكن الغلام قد سمع هذه الكلمة بعد، فلما عاد إلى منزله، سأل أباه: ماذا تعني كلمة «ظلم»؟ فأجابه أبوه بأنها تعني مجاوزة فرد من النَّاس لحدوده المشروعة فيؤذي آخرين، كأن تجلس خادمتنا على مقعد من مقاعدنا … فما هو إلا أن جاء الليل ونام أفراد الأسرة، ليستيقظوا في الصباح فيجدوا كلمة «ظلم» قد كُتبت بالطباشير على قطع الأثاث كلها، ولم يكن عسيرًا على الوالد أن يعلم بأن ولده هو الفاعل، فنهره وزجره وأمره بألا يعود إلى مثل هذا العبث، ومُحيت الكلمة حيثما وُجدت، لكن لم يمضِ إلا يوم واحد، ليجد الجيران أن مجهولًا قد عبث بأبواب منازلهم ودرجات السلم وفي كل بقعة تصلح للكتابة، إذ رأوا كلمة «ظلم» قد كُتبت بالفحم هنا وهناك، ودارت الشكوى، وأدرك الوالد أنه ابنه الذي اقترف الإثم، فجعل عقابه هذه المرة ضربات أوجعت الصبي، ولكنه لم ينطق بصوت، ومرة أخرى حذر الوالد ولده وأنذره وتوعده إذا هو عاد، ولكنه فُوجئ بعد أيام قلائل بشرطي يدق على بابه، ممسكًا بالغلام، فعلم الوالد من الشرطي أن ابنه قد ضُبط في ساعة مبكرة من الصباح، يلطخ أبواب المتاجر المغلقة، وبعض النوافذ في مكاتب حكومية مجاورة، يلطخها بكلمة «ظلم» يكتبها بفرشاة كبيرة يغمسها في وعاء مليء بطلاء أسود … وهنا لم يجد الوالد بُدًّا من عرض ابنه على طبيب نفسي، فأوصى الطبيب بأن يأخذ الوالد ولده إلى مكان يستريح فيه ويهدأ، فسافر الوالد مع ولده إلى الإسكندرية بالقطار، وما كان أشد العجب يعجب به الوالد، حين سمع عجلات القطار تدمدم على القضبان وكأنها تقول: ظلم، ظلم، ظلم … على هذا النحو أخذ صاحبنا يكتب مقالاته «الأدبيَّة» خلال السنوات الوسطى من الأربعينيات، وذلك في هوامش سويعات الفراغ بعد تركيز الفكر في ساعات العمل، ولما أعلنت وثيقة «حقوق الإنسان» في اليوم العاشر من شهر ديسمبر سنة ١٩٤٨م، أحس بشيء من الرضا، إذ شعر كأنما كان بشخصه جزءًا في التمهيد لظهور ذلك الإعلان.