سنوات التحول «٣»
لم يكن صاحبنا نفسه يستطيع أن يرد ذلك القلق المؤرق إلى منابعه الأولى، وهو قلق محوره ما قد تصوره في صورة مكبرة، عن حرمان الإنسان في وطنه من حقوقه الأولية التي لا يكون الإنسان إنسانًا بغيرها، لقد جاءه هذا الانطباع في السنوات الأخيرة من الثلاثينيات، وكان قبل ذلك على عقيدة أخرى، إذ كان هنالك في حياتنا ما يبرر له ولغيره رأيًا يرى تلك الحقوق وقد رسخت في وعي الكثرة الغالبة من المواطنين، فهنالك حق الحريَّة قد أخذت تجري به الأقلام منذ رفاعة رافع الطهطاوي فصاعدًا مع كبار الرءوس جيلًا بعد جيل، كما قد أخذت تعيه في معناه السِّياسي أفئدة العامة من جمهور الناس، كما قد تجلى في ثورات وطنية تشتعل آنًا بعد آن، ثم أخذ هذا الحق في الحريَّة يتفرع فروعًا ليشمل ميادين أخرى غير السياسة في مجابهة الاحتلال البريطاني، كميدان الاقتصاد، وميدان الأدب، وميدان التعليم، وميدان المرأة، وميدان الحياة الشَّخصيَّة للأفراد أمام الرأي العام.
وليس في كل هذا شك، فما الذي رآه صاحبنا بعد ذلك مما أثار فيه القلق؟ ربما كمن السر في أن المقارنة مع الشعوب الأخرى التي هي في موقع الريادة من حضارة هذا العصر وثقافته، قد أيقظته ليرى الفارق الكبير بين أن تجري أقلام الرواد بحق الحريَّة ووجوبه لكل إنسان، وبين أن يحيا هؤلاء الرواد أنفسهم على نحو ما يكتبون، فبينما ترى الواحد منهم، وقد أوشكت حروف كلماته أن تشتعل بحرارتها دفاعًا عن الحريَّة والمساواة والعدالة … إلخ، تنظر إليه في ساحات التعامل الفعلي يذل للكبار بقدر ما يستبد بالصغار، وقد رأى صاحبنا بعينيه وسمع بأذنيه، كيف لا يطيق حماة الحريَّة الفكرية أن يروا من هم دونهم وقد استباحوا لأنفسهم ذلك الحق نفسه، حتى إذا ما سافر صاحبنا وكذلك رأى هناك بعينيه وسمع بأذنيه كيف يتساوى في تلك الحقوق الأساسية كبار وصغار، بغير توتر أو شعور بالتحدي، كأنما هي عادات مألوفة لا تستلفت الأنظار، هنالك أدرك البون الشاسع بين سهولة القول وصعوبة العمل، وإنه ليذكر ذات يوم بعد نهاية الحرب بقليل، وقد أتيح له أن يرى هناك صفًّا من العاملين في ديوان حكومي وقف كل منهم في مكانه من الصف، يحمل في يده طبقًا وشوكة وسكينًا، وأخذ الصف يتحرك قليلًا قليلًا نحو منضدة كبيرة وقفت عندها مناولات يناولن من جاء دوره فنجان الشاي وقطعة الكعك، لكن كم كانت دهشة صاحبنا حين لمحت عينه فيمن وقفوا في الصف وزير الوزارة التي وقع في بهو ديوانها هذا المشهد، وكان الذي وقف أمامه أحد السعاة في ديوان تلك الوزارة نفسها، وما إن رأى هذا الترتيب المقلوب، حتى ركز بصره فيها لعله يجد أثرًا للقلق عند الساعي، أو أثرًا من الضجر عند الوزير، فلم تقع عينه على شيء من ذلك، فعاد إلى بيته مع المساء ليكتب قبل أن يأوي إلى فراشه، تحت عنوان «الكبش الجريح» قطعة من «أدب» المقالة ليبعث بها إلى وطنه، يصور بها ما كان ليحدث لو شاءت مصادفة عمياء أن يقع هذا الترتيب في الوقوف عندنا بين وزيرٍ وساع، وجوهر المأساة هنا، أن خيالنا قد يتصور وزيرًا له من سعة الثَّقَافة ما لا يقلقه أن يجيء دوره وراء دور خادمه، لكنه لا يتصور أن يجد الساعي الذي يرضى لنفسه أن يتقدم وزيره، خالطًا في ذلك بين أن يكونا مواطنين يتساويان في غير مجال العمل، ولا يتساويان في مجال العمل، فللوزير عندئذ أن يأمر وعلى الساعي أن يطيع، نعم، كتب صاحبنا ليجسد لقرائه في وطنه هذا المعنى، في كبش ذبيح تنظر إلى عينيه ودماؤه تتدفق من عنقه، فإذا هما عينان ناطقتان بالطمأنينة والرضى.
ولأمر ما وجد صاحبنا نفسه مشدودًا إلى حق «الحريَّة» أكثر من سواها في قائمة حقوق الإنسان، بمعنى أنه شُغل بالقراءة عنها في فراغه أكثر مما شُغل بالقراءة عما عداها، وربما كان ذلك لأنه وجد فيها أصلًا تتفرع منه الفروع، ولعل أهم ما يلفت النظر في الطريقة التي يغلب على صاحبنا أن ينتهجها في تفكيره، أيًّا ما كان موضوع التفكير، نزوعه نحو أن يرد الفروع إلى الأصول، فتسهل عليه رؤية الحقائق من مواضعها في شجرة أنسابها، ومن هنا أقول إنه ربما ارتأى صاحبنا عندئذ أن «الحريَّة» أصل، ومعظم حقوق الإنسان الأخرى فروعًا لها، أو ربما نظر إلى التَّاريخ الثقافي الحديث في مصر، فوجد فكرة «الحريَّة» توشك أن تكون محورًا أساسيًّا للحركة الثَّقافيَّة كلها، منذ الطهطاوي فاتيًا، حتى لقد كانت تتقطر من أقلام الكتاب قطرات تتوالى وتتراكم آثارها في صدور النَّاس خلال بضعة عقود من السنين، ثم تتفجر ثورة عاصفة، فبعد نحو أربعين سنة من نشر الطهطاوي لمؤلفاته ومترجماته، قامت ثورة أحمد عرابي، وبعد نحو أربعين سنة من ثورة عرابي اشتعلت ثورة سعد زغلول، وبعد نحو ثلاثين عامًا تفجرت ثورة جمال عبد الناصر، وفيما بين الثورة والثورة التي تليها، لا تكف الأقلام عن الدعوة إلى ضروب منوعة من الحريَّة، وكلما تحقق منها شيء طالب النَّاس بمزيد.
وأيًّا ما كان الدافع الباطني، فقد أحس صاحبنا برغبة شديدة في أن يطيل القراءة والنظر حول فكرة «الحريَّة»، وهي قبل أن تكون «فكرة» يتناولها العقل بالتحليل والتدليل كانت منذ كان على الأرض إنسان، حنينًا نحو أن يملك الإنسان قياد نفسه في اختيار هذا وترك ذاك، وفي إزالة ما عساه مصادفة في طريق الحياة من عوائق وعقبات، ولماذا نقصر أمر «الحريَّة» على الإنسان، اللهم إلا إذا أردنا بلورة طبيعتها في عبارة لغوية تصفها وتحددها؟ أما إذا كان المراد هو أن يكون في وضع الكائن الحر أن يسلك سلوكًا يستحيل التنبؤ به قبل وقوعه؛ لأنه سلوك أبدعه الكائن بوحي من فطرته إبداعًا غير مسبوق بأسباب معلومة، ولا بمقدمات يمكن الاستناد إليها في استدلال ما سوف يترتب عليها، فإن كل كائنات الكون، من الذرة فصاعدًا إلى الشموس والنجوم، فإلى دنيا الأحياء نباتًا وحيوانًا وإنسانًا، نعم، إن كل كائنات الكون لها أنصبة متفاوتة من الإبداع غير المسبوق بأسباب معلومة أو بمقدمات تنبئ عما يتولد عنها، فكهارب الذرة تقفز من مدار إلى مدار دون أن يكون في مستطاع العلم البشري أن يعرف عن تلك القفزات كيف تحدث، ومتى، ولماذا، وإذا أراد العلم صياغة قانون أو قوانين تحدد مساراتها، فليس أمامه سوى تقريبات إحصائية يمكن الاعتماد عليها في عمليات التنبؤ، إذن فالذرة حرة النشاط بمعنًى من المعاني، وعلى هذا الأساس يمكن القول كذلك بشيء من حرية النشاط في سائر الكائنات، ما دامت كلها مؤلفة آخر الأمر من ذرات حرة الكهارب، حتى إذا ما ارتفعنا بالنظر إلى عالم الأحياء، ثم سَمَوْنا على سُلَّم الحياة لنبلغ ذروته متمثلة في الإنسان، وجدنا تلك الحريَّة المحدودة قد نمت وتفرعت حتى تصبح عند الإنسان «إرادة» حرة تريد ما تريد لتفعل ما أرادت.
الحق أن فكرة عابرة كانت قد طافت برأس صاحبنا قبل ذلك بسنوات، إذ حدث له في جلسة هادئة أن طرح على نفسه سؤالًا يقول: ترى هل لي من مفتاح يفتح لي أفق النظر، لأقع على النقطة الأساسية التي منها نشأ اختلاف هذا العصر عما سبقه من عصور؟ وإنه ليذكر جيدًا كيف فُوجئ بفكرة تعرض نفسها عليه، وهي أن تلك النقطة الأساسية تكمن في «الذَّرة» الأولية وكيف يتصورها الإنسان، وهنا أود أن ألفت نظر القارئ إلى أن «الذرة» في أي شكل من أشكالها في شتى عصور الفكر، لا يدركها الإنسان بحواسه، وإنما هي تصور عقلي تثبت صحته أو لا تثبت عن طريق استدلال النتائج الممكنة من ذلك «التصور» العقلي لها، فإذا وجد العلماء الباحثون أن تلك النتائج تصدق على الواقع المحسوس، كان «التصور» العقلي الذي تصورناه للذرة صحيحًا، فكثيرة هي التصورات التي تخيل بها رجل الفكر صورًا لجزئيات المادة، التي نصل إليها بتحليل المادة تحليلًا نبلغ به آخر حدٍّ مستطاع، وهو الحد الذي نفترض فيه أنه غير قابل للتحليل، فنطلق عليه اسم «الذرة»، إلا أن العصور السابقة كلها، حين تصور علماؤها كيف تكون ذرات المادة إذا وفقنا إلى بلوغها، وبرغم اختلافهم في تصورهم لأشكال الذرة، فهم إنما كانوا على اتفاق بأن الذرة التي ينتهي إليها تحليل المادة، لا بد أن تكون صلبة لا يتخللها فراغ، وأما عصرنا هذا فقد انفرد وحده بتصور جديد، وهو أن يجعل الذرة أولًا شحنة من الطقة، وثانيًا داخلها خلاء تدور فيه كهارب سالبة حول مركز من كهارب موجبة، ثم جاءت بعد ذلك إضافات جديدة تضيف أنواعًا أخرى من الكهارب داخل الذرة، لكنها إضافات لم تغير من الإطار العام للتصور الجديد، ولنلحظ أن هذا التصور الجديد للمادة، قد قرب مسافة الخلف بين «المادة» و«الطاقة»، حتى لقد كاد يمحو فكرة السلبية والموات والجمود التي كان التصور القديم — بمختلف أشكاله — يلحقه بالمادة، وخرج صاحبنا من تلك الخواطر — يوم أن طرح على نفسه السؤال في جلسته الهادئة تلك — بمفتاح التمييز الذي كان يبحث عنه، ليفرق به بين عصرنا وما سبقه من عصور؛ فالتفرقة تبدأ من «الذرة» التي كانت سلبية جامدة، فأصبحت إيجابية دينامية فاعلة، ثم هي قد أصبحت فوق هذا كله «حرة» تتحرك كهاربها في جوفها بوثبات لا تخضع لقانون في علم البشر.
وإذا كان هذا هكذا فنحن — إذن — في كونٍ وَهَبَ الحريَّة في كل رجًى من أرجائه، في كل كائن من كائناته، في كل ذرة من ذراته، ودع عنك، ما وهبته، الأحياء، نباتًا يعرف كيف تسعى جذوره في التربة لتصل إلى مواضع الغذاء، وكيف يتلقى الهواء والضياء في معامله الكيماوية المنبثة في جذوعه وغصونه وأوراقه، ليأخذ العناصر التي تنفع ويلفظ العناصر التي تضر، وماذا — إذن — تقول عن عالم الحيوان؟ لقد كان من أشد ما شُغف به صاحبنا في حياته أن يحيط بما وسعته قدرته أن يحيط به من علم بطرائق صنوف الحيوان في تدبير الحياة: كيف يجمع غذاءه؟ كيف يحتمي من عدوان الأعداء؟ كيف يدبر المصائب لفرائسه؟ كيف يؤمن الحياة بجحر أو عش أو عرين؟ ألا إنه لتلخيص مخل أن ترد هذه المهارات والبراعات كلها، إلى كلمة واحدة بسيطة نركن إليه ونستريح لها، كأن نقول — مثلًا — إنها «الغريزة» أو إنها «الفطرة»، وكأننا قد حللنا العقدة بأن أطلقنا عليها اسمًا يسميها، ولو هدانا الله سبحانه إلى لفتة أصح، لاتجهنا إلى «الحريَّة» التي وهبها الخالق إلى مخلوقاته، ليتسع أمامها هامش الاختيار فيما تفعله وما تمسك عن فعله، حرصًا على حياتها، على أن تتم لها تلك الحريَّة داخل إطار القانون أو القوانين التي تنتظم تلك الحياة.
فإذا ما بلغنا من مدارج الأحياء قمتها في الإنسان الذي أراد له ربه أن يكون له من التكريم ما يتفوق به على سائر الكائنات، وجدناه قد أشعلها حربًا على نفسه، يأبى أقوياؤه إلَّا أن يحتكروا حق «الحريَّة» لأنفسهم، على حساب ضُعَفائه، حتى يصبح هؤلاء الضعفاء في حاجة إلى ألسنة تخطب وأقلام تكتب، تذكيرًا لهم بحقائق ما فطرهم عليه فاطرهم وفاطر السموات والأرض، وهو — سبحانه وتعالى — إنما فطرهم على «إرادة» تريد و«عقل» يدبر، وأن الإرادة والعقل معًا ليفقدان كل معناهما إذا لم تكن الإرادة حرة فيما تدع وما تختار، وإذا لم يكن العقل حرًّا في فرض فروضه ليستدل النتائج، التي من مجموعها الصحيح تتألف «العلوم» …
إننا حين أشرنا إلى حرية العقل في فرض فروضه ليستدل نتائجها، قد وضعنا أصابعنا على خاصية من أبرز الخواص التي تميزت بها حرية الإنسان في عصرنا هذا، فلم تكن بنية العلم فيما سلف من عصوره، كبنية العلم في هذا العصر الذي قُسم لنا أن نعيش فيه، ومن أهم ما نذكره من أوجه الاختلاف، أمران؛ أولهما: أن السابقين جميعًا — إلا استثناءات لا تستحق الوقوف عندها — كانوا على ظن بأن كل فروع العلم قائمة على أساس واحد، هو الأساس الذي نراه متمثلًا في أجلى صوره في العلم الرياضي الذي من شأنه دائمًا أن يوصلنا إلى يقين لا يحتمل ظلًّا من الشك في صحته، وكان على سائر العلوم غير الرياضية، كالعلوم الطبيعيَّة، والعلوم الاجتماعيَّة بشتى فروعها، أن تنهج في بحثها منهج العلم الرياضي لتحقق لنفسها يقين النتائج، وما هو صلب المنهج الرياضي؟ هو أن تُصَدَّر العملية الفكرية بمجموعة من «الفروض» تتميز بأنها تُؤخذ مأخذ التسليم، أي إنها ليست مما يُطلب عليه برهان، لكنها هي الإسناد التي يُبرهن بها على صحة النتائج التي تتفرع عنها، فإذا سأل سائل عن مصدر صحة نتيجة ما، أُجيب عليه بأن يُشار إلى واحد أو أكثر من تلك الفروض التي وُضعت بادئ ذي بدء لتُؤخذ مأخذ التسليم من جهة، وليُستخرج منها ما عساه يتولد عنها، فما دامت النتيجة المعينة قد أمكن ردها إلى الأساس الافتراضي الذي جاءت منه، وجب التسليم بصحة تلك النتيجة.
وكانت المشكلة في العلوم الطبيعيَّة والعلوم الاجتماعيَّة جميعًا، هي أنها ليست كعلوم الرياضة نضع لها نحن أسسًا مسلمًا بصوابها، بل هي علوم تريد أن تبدأ من وقائع تقع فعلًا في الظواهر الطبيعيَّة كما نراها، وكل ما يحصله الإنسان بحواسه ومشاهداته وتجاربه معرض للخطأ، فكيف يُتاح لنا التسليم بصحته لنجعله أساسًا نستدل منه كما كانت الحال في العلم الرياضي؟ الفرق بين الحالتين واضح، وهو فرق يؤدي حتمًا إلى ضرورة ألا تتمكن العلوم الطبيعيَّة من «يقين» كالذي تتمكن منه الرياضة، ومع وضوح الفرق بين الحالتين لم يدركه السابقون، ومن ثم أصروا على أن تنهج العلوم الطبيعيَّة والاجتماعيَّة نهج الرياضة.
ذلك — إذن — هو أحد الأمرين اللذين اختلفت بهما بنية العلم في عصرنا عن بنية العلم في العصور السابقة، وأما الأمر الثاني — ولعله تفرع من الأمر الأول — فهو أن تَساءل علماء الرياضة، وتَساءل معهم أعلام المناطقة منذ أواسط القرن الماضي، قائلين: من أين جاء الاعتقاد في أن الفروض التي يُصَدِّر بها الرياضيون عملياتهم الفكرية، هي في الوقت نفسه مطابقة لواقع الأشياء؟ إنها ما دامت فروضًا فمن حق من شاء واستطاع، أن يستبدل بها فروضًا أخرى فتتغير النتائج، ومن ثم تكون صحة الحقائق الرياضية مرهونة فقط بسلامة استدلالها من مقدماتها، دون أن يكون لها الحق في أن تمتد صحتها تلك لتشمل صحة انطباقها على عالم الأشياء؛ ولهذا جاز أن تتعدد الحقيقة الرياضية بتعدد البناءات التي ترد فيها، فلكل بناء منها فروضه ونتائجه، بحيث تصبح كل نتيجة مقيدة في صحتها، بمجموعة الفروض التي وردت في سقف بنائها.
وهكذا جاء التحول العظيم نحو حرية «العقل»، فما أكثر ما وُضعت له عند السابقين فروض ليبدأ منها فاعليته، ثم سرعان ما يجيء الوهم بأن تلك المقدمات «المفروضة» إن هي إلا «حقائق» ثابتة يُطلب لها أن تُؤخذ مأخذ التسليم، فلا مراجعة ولا حساب، ومن هذا التحول العظيم في مجال العلم، وهو تحول أثرى العلم الرياضي نفسه ثراءً غزيرًا، من جهة، وحرر العلوم الطبيعيَّة والاجتماعيَّة من ضرورة التزامها منهج الرياضة، فاتسع لها المجال، أقول: إنه من هذا التحول العظيم في بنية العلم انبثقت تحولات كبرى في الرؤى الثَّقافيَّة بصفة عامة، فبعد أن كان الموروث عن السلف يقوم بالدور نفسه الذي كانت تقوم به «الفروض» في العلم الرياضي، بمعنى أنه كان يُظن به اليقين، ويُعطي حق التسليم بصحته عن غير برهان، أصبح من حق الإنسان أن يطور موروثه إذا لم يجد فيه الدينامية التي تحرك أوضاع الحياة نحو الأفعل والأفضل والأقوى.
وهكذا ترى أن فكرة «الحريَّة» في بلادنا، حتى عند أكثر المثقفين، ضاقت حدودها بحيث كادوا يقصرونها على التخلص من قيود الطاغية، بالمعنى السِّياسي في أغلب الأحيان، ومثل هذه النظرة الضيقة تضعهم في وهم كبير، إذ تجعلهم يتوهمون أنهم قد باتوا أحرارًا وما هم في حقيقة أمرهم بأحرار، فلأن تفك عنهم قيود المستبد — على اختلاف ضروب الاستبداد — لا يعني أنهم قد صاروا بذلك أحرارًا، بل يعني أنه قد توافرت لهم الظروف التي تمكنهم من أن يكونوا أحرارًا لو أرادوا؛ لأن الحريَّة في صميم معناها هي القدرة على العمل في الميدان الذي نريد أن نكون أحرارًا فيه، ومعنى ذلك هو أن الحريَّة مستحيلة بغير علم بتفصيلات العمل الذي تزعم لنفسك أنك حر في مجاله، فمن تعلم القراءة والكتابة — مثلًا — حر إزاء حروف الأبجدية ويستطيع التصرف فيها تركيبًا وتفريقًا، والزارع حر إزاء أرضه وأدوات الزراعة والحرث والري التي يستخدمها، وسائق السيارة الذي يعرف كيف يصلح محرك سيارته إذا أصابه عطب، حر إزاء سيارته، وكذلك قل في رجل السياسة إزاء المشكلات التي يعالجها في شئون الحياة الداخلية، وفي العلاقات التي تتشابك بين بلده وغيره من بلدان العالم، وهكذا، فالحريَّة الحقيقية هي محصلة لمعرفة الحر بالمجال الذي يريد أن يكون حرًّا فيه، ومن هنا يتضح لنا كيف أن الحريَّة لا تكون مطلقة لأي إنسان، وإنما هي منسوبة دائمًا لما يكون الحر على علم دقيق به، وكان أفلاطون قد أدرك هذا المعنى للحرية إدراكًا واضحًا، إذ جعلها صفة تدور مع العلم وجودًا وعدمًا، فحينما يكون للإنسان علم بشيء، تكون له بالنسبة إلى ذلك الشيء حرية بقدر علمه به، وقد فصل القول في هذا المعنى، في محاورة «ليزيس» وهو اسم لغلام في أسرة تملك عبدًا، فمن حق الغلام أن يأمر العبد بما شاء وعلى العبد أن يطيع، فالإرادة هي إرادة السادة الذين يملكون الرقاب، ولا إرادة للعبيد، لكن ذلك العبد المعين كان يجيد سياسة الخيل وركوبها، وقد أراد رب الأسرة لولده «ليزيس» أن يُدَرَّب على ركوب الخيل، فأمر العبد أن يتولى الغلام بالتدريب، فكان لا بد أن تنقلب الأوضاع في فترة التدريب، بمعنى أن يكون للعبد حق أن يأمر، وعلى الغلام واجب أن يطيع، أي إن الإرادة تصبح للعبد، وتُسْلَب من السيد إرادته، وإذا قلنا «الإرادة» فقد قلنا «الحريَّة»، ففي ساعات التدريب يصبح الحر هو ذلك الذي كان عبدًا، والعبد هو «ليزيس» الذي كان حرًّا، فماذا أحدث هذا التَّغير في الموقف؟ إنه «العلم» بالمجال الذي بين أيدينا، وهو مجال سياسة الخيل وركوبها، فمن عرف كانت له السيادة، وعلى من جهل أن يتبع صاحب المعرفة.
وما نظن الشعوب التي جاهدت للحصول على حريتها من قبضة المستعمر ثم ظفرت بحقها آخر الأمر، وبصفة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، التي كان من أهم ما نتج عنها، أن أخلى الغاصبون من أهل الغرب، سبيل من كانوا في قبضتهم، فتحرر المقيدون من أغلالهم، أقول: إننا لا نظن أن الشعوب التي رُفع عن أعناقها نير المستبد بهم من دول الغرب، كانت في حاجة إلى أفلاطون ومحاورته «ليزيس» لتدرك أن الحريَّة الصحيحة مرهونة بأن يكون الحر على علم بالمجال الذي أراد أن يكون حرًّا فيه؛ لأن الشعوب التي ظفرت باستقلالها عن مستعمريها — وأغلبها من شعوب أفريقيا وآسيا — قد وقعت في الفخ، ولم تكن قد حسبت له حسابه، إذ وجدت نفسها أبعد ما تكون قدرة على تزويد أوطانها بما هي في حاجة إليه إذا أرادت تحضرًا وتقدمًا، ومن أين لها القدرة على علم تبتكره ابتكارًا، لتقيم عليه التصنيع الذي لا غناء لها عنه في سلم أو في حرب؟ ليس أمامها إلا أن تستعير مما كان بالأمس سيدًا يتحكم في أرضها: علومه وصناعاته، فإذا شاء استجاب لها وإذا شاء امتنع، فماذا يعني ذلك إلا أن سيد الأمس هو نفسه سيد اليوم، وكل الفرق بين الحالتين أن سيادة الأمس كانت سلطانًا ظاهرًا لا خفاء فيه، وسيادة اليوم هي التي كُتب لها أن تكون للذين يعلمون على الذين لا يعلمون.
بمثل تلك الشئون والشجون شُغل صاحبنا خلال النصف الثاني من أربعينيات هذا القرن، وكان لم يزل في غربته دارسًا، فكما أسلفت لك القول عنه، أخذ يبحث عما يقرؤه عن «الحريَّة» التي اختصها بأعظم اهتمامه دون سائر حقوق الإنسان، إذ رآها أصلًا ورأى سائر الحقوق فروعًا لها، وقد ألح عليه سؤال الحائر المتعجب: ما الذي يمنع أهله من السعي لكسب الحريَّة الصحيحة، وهي حرية من يعلمون، بعد أن تحرروا في مجال السياسة من قبضة المستعمر؟ ويجيء الجواب بعد تدبر طويل وتحليل علمي أطول، بأن السر يكمن في حقيقة عن الطَّبيعة البشرية، لعلها من أغرب ما نعرض له من حقائق، وهي أنه إذا كان الإنسان بحكم فطرته التي خُلق عليها يريد أن يكون حر الإرادة، ليُتاح له أن يكون حر الاختيار بين البدائل الممكنة في الموقف المعين؛ لكي يكون مسئولًا مسئولية خلقية أمام ضميره، وأمام النَّاس، ثم آخر الأمر أمام ربه يوم الحساب، نقول: إنه إذا كانت الرغبة في هذه الحريَّة جزءًا من فطرته، فجزء آخر من فطرته كذلك، أن يخاف من الحريَّة لثقل أعبائها، ومن ثم نراه يعمل على أن يحيل الاختيار لسواه إذا وجد، وعندئذ يوهم نفسه بأنه حين أسلم إرادته لحاكم يحكمه، ويختار نيابة عنه، إنما فعل ذلك بإرادته الحرة، وأمثال تلك الإحالة واردة في الحياة السِّياسية، عندما ينتخب أفراد الشعب عددًا محدودًا منهم ينوبون عنهم في الاختيار وصُنْع القرار، لكن الأمر كثيرًا ما يجاوز تلك الحدود المشروعة في الحياة الديمقراطية، مجاوزة تصل إلى ظهور فرد واحد يبتلع في جوفه إرادات المواطنين جميعًا، لتبقى إرادة واحدة هي إرادته، فلا تكون الحريَّة عندئذ إلا رجل واحد، يعيد في شخصه صورة التنين الجبار الذي تصوره «تومس هوبز» في كتابه «اللواياتان» (ومعناها التنين).
وإذا كان ذلك كذلك — هكذا سأل صاحبنا نفسه يومئذ، في جدية صارمة — فكيف تكون النجاة من هذا الخوف الذي يخشى عواقب الحريَّة بحكم الفطرة، تمامًا كما يسعى الإنسان إلى كسب الحريَّة بحكم الفطرة؟ أين المفر؟ وكان الجواب الذي لا جواب سواه، هو أنها «التربية» وحدها هي السبيل، فالشعوب التي نراها حرة بأوسع معنى مستطاع لهذه الكلمة، لم تلتقط حريتها تلك التقاطًا هينًا من قارعة الطريق، بل تولت تربية أبنائها على حمل تبعة الحريَّة بكل أثقالها، وهي تبعة تشمل، فيما تشمله، عناء الكشف عن المجهول من سر الكون الذي يضن بنفسه أن يتبدى إلا لمن سعى، وبمثل هذا العلم تُقْتَحم العقبة، فيخطو الإنسان عبر العتبة ليمسك ما شاء له ربه أن يمسك من عنان الطَّبيعة ليسود، فقد أحس صاحبنا يومئذ أن أهله في وطنه يربون أبناءهم على خوف من الحريَّة وتبعاتها، ولا مفر من أن يستبدلوا بتربية تقتل وتميت، تربية أخرى تفتح أمام الناشئين طريق الحياة …