الصورة من بعيد
نظر إلى بلده من بعيد، وكان ذلك في أواسط أعوام الأربعينيات وأواخرها، فارتسمت له الصورة في خطوط واضحة، أوضح جدًّا منها وهو في قلب المعمعة، فها هي ذي ثلاثة خطوط تَخَلَّقَتْ وتشكلت، وإن يكن بعضها هلاميًّا بعض الشيء، وكأنه جنين في أطواره الأولى، أو قل عن تلك الخطوط الثلاثة إنها كانت كجسد طائر بسط جناحيه، فأما هذان الجناحان اللذان يرفان رفيفًا خفيفًا آنًا وعنيفًا آنًا، فهما جماعتان تولدتا من قب الأحداث، وهما جماعة إسلاميَّة تشققت على امتداد الأعوام التالية جماعات رأت طريق الخلاص في إحياء الدين لتعود إليه مرة أخرى قوة التوجيه، وأما الجماعة الثانية فقد التقطت خط اليسار في خفاء حينًا وفي شيء من العلانية حينًا؛ لأنه لم يكن قد اكتسب لنفسه شرعية الظهور إلا وهو على كثير من التحفظ والحذر، وأما ما بين الجناحين فهنالك الشعب وحكومته، وكأنه لا ميمنة هناك ولا ميسرة، فهاتان بقيتا كالأمل يحلم بأن يتحقق أكثر منهما واقعًا يحيا حياته اليومية مستظلًّا بقانون وحكومة، ومع ذلك ففيهما إرهاصات قد تتمخض عن ولادة واقع جديد.
ولم يكن صاحبنا — كما أسلفت عنه القول مرارًا — من أصحاب الطبائع التي تنظر إلى الأمور أول ما تنظر، من جوانبها السِّياسية، بل كانت نظرته دائمًا متجهة نحو المعاني الثَّقافيَّة لما يراه ويسمعه، وإذا لم يكن للموقف المعين معنًى ثقافي يراه، فكان ذلك الموقف عنده غير ذي وجود، فلما أرسل بصره من بعيد إلى تلك الخطوط الثلاثة في بلده، أو إلى القلب والطرفين نظر إليها بالطريقة التي تَعَوَّدَ أن ينظر بها إلى الأشياء، فإذا هو يهمس لنفسه قائلًا: ها هو ذا شعب وحكومته يكادان يتحركان بدفعة القصور الذاتي، كالحجر تلقيه فيتحرك في الاتجاه الذي ألقيته فيه، لا حول له في ذلك ولا قوة، وتصحبهما في الطريق جماعة من أعلام الفكر والأدب، يكتبون فيما يزداد به المثقفون العاديون معرفة ونورًا، لكنه لا يقلق شعبًا ولا حكومة، وعلى الجانبين — كما ذكرنا — جماعتان تقفان إحداهما من الأخرى على طرفَيْ نقيض: إحداهما تغترف من تاريخها، والأخرى تغترف من أوعية الغرباء، والأولى ترى طريق النهوض في استرجاع الماضي، والثانية تطرح ماضيها وراء ظهرها مشدودة البصر نحو مستقبل جديد يُولد، الأولون يُحسبون على «اليمين» الذي يؤثر استنبات ثقافته وحضارته من تربته، والآخرون يحسبون على «اليسار» الذي يقبل شجرة الثَّقَافة والحضارة مأخوذة من خارج حدوده لتشتل في أرضه، والحق أن صاحبنا، وهو يُقَلِّب النظر في هذه المواقف الثلاثة، لم يستطع أن يرى أملًا في أيٍّ من الجناحين، فالميمنة كما رآها، قمينة أن تفلت منها قوة العصر، والميسرة — كما رآها أيضًا — قد تستتبع أن يفقد المواطن قوة تاريخه، وأما موطن الرجاء فيما تصور، فهو ذلك الوسط الذي تجمعت فيه جماعة الكُتاب الكبار جميعًا، وعلى اختلاف نزعاتهم، فلم يكن لأحد منهم خصوصية الجماعات الدينيَّة، ولا خصوصية الجماعات اليسارية، وإلى تلك الجماعة تمنى صاحبنا منذ شبابه الباكر أن ينتمي.
ومع ذلك فقد استحدثت الحرب العالمية الثانية نتائج واسعة المدى بعيدة الأغوار، مما لم يكن مألوفًا ولا معروفًا لأعلامنا هؤلاء، وقد كان معظمهم في نحو الستين من عمره، أو ما يزيد على الستين، حين أخذت نتائج الحرب العالمية الثانية تفعل فعلها، فلم يكن هناك كبير أمل في أن ينخرط أحد منهم في المناخ الثقافي الجديد، فدورهم في حياتنا الثَّقافيَّة قد أصبح في حكم المنتهي، وما دورهم؟ إنه دور يمكن تلخيصه في أنهم قدموا للشباب المتطلع — وصاحبنا كان واحدًا منهم — غذاءً متوازنًا من تراثنا ومن نتاج الغرب في آن، ولا جدال في أن كل رجل من هؤلاء الرواد كان وثيق العلم بجوانب من تراثنا، فكان يعرف منها ما يعرفه معرفة خبير، لا يكتفي بخطفات يخطفها ليتظاهر بها، بل يدقق ويحقق حتى لكأنه من علمائها المتخصصين، ولا جدال كذلك في أن أكثر هؤلاء الرواد، كانوا على دراية كافية بنتاج الفكر والأدب في هذه اللغة أو تلك من اللغات الأوروبيَّة، وبصفة خاصة الإنجليزية والفرنسية، فمنهم من كان ينقل لنا خلاصات من هذه، ومنهم من كان ينقل خلاصات من تلك، ذلك هو الدور الأساسي الذي اضطلع به رواد النصف الأول من هذا القرن، وعلى أنه لم يخلُ أحد منهم أن يكون له إبداع يبدعه، في شعر أو رواية أو مسرحية، لكنها كانت بمثابة بدايات «فيما عدا الشعر» خُلقت ليجيء بعدها ما يطورها، أما الشعر فأمره يختلف؛ لأننا أمة تتابعت في تاريخها منذ زمن بعيد عصور الشعر عصرًا في أثر عصر، ولكل عصر منها خصائصه، إلا أن ديوان الشعر العربي يجمعها جميعًا بين دفتيه.
بهذا الدور الذي اضطلع به هؤلاء الرواد، لم ينحازوا به إلى ميمنة أو إلى ميسرة، بل أرادوا به «تنويرًا» للشعب وللحكومة معًا، يستهدف أن يجتمع ماضٍ إلى حاضر في صيغة «متوازنة»، لا تفقد المواطن هويته الأصيلة، ولا تضيع منه مسايرة عصره، فحين أسلفنا القول عن زمرة الرواد، أنهم من الناحية الثَّقافيَّة وقفوا مع كتلة الشعب وحكومته، لم نرد قط أن دورهم كان بمثابة الصدى فيه رجع الصوت، بل أردنا أنه دور حامل المصباح ليستبين معالم طريق جديد.
لكن ما الذي أنتجته الحرب العالمية الثانية من نتائج عريضة و«عميقة»، مما لم يكن مألوفًا ولا معروفًا في جيل هؤلاء الرواد؟ أولى تلك النتائج ثورات اجتماعية من نوعٍ جديد، فهي ثورات «أُفقية» — إن صح التعبير — بالقياس إلى ما قد ألفه النَّاس من ثورات «رأسية»، فقد عرف النَّاس شعوبًا تثور من أجل حقوق يرون أنها ضائعة، كالحريَّة والاستقلال والعدالة والمساواة إلخ، على أن ينحصر الشعب الثائر في حدود نفسه — غالبًا — وأما الذي اسْتُحِدَثَ بعد الحرب الثانية، فهو أن الذي يثور شريحة وحدها من شرائح شعب، تبحث عن نظائرها في شعوب أخرى ليتضامنوا جميعًا في ثورة واحدة؛ تحقيقًا لهدف يخص تلك الجماعة وحدها، كأن يجتمع العامل مع العامل في حركة عمالية واحدة، وتجتمع المرأة مع المرأة في حركة نسوية شاملة، وأن يجتمع حملة القلم مع حملة القلم حيثما كانوا، وهكذا، على أن هنالك شرائح اجتماعية تنقصها حقوق، وليس لها القدرة على التعبير، أو ليس لديها القوة البدنية للكفاح، كالطفولة في الحالة الأولى، والشيخوخة في الحالة الثانية، فقامت من أجل هؤلاء وأولئك ما يشبه الثورة الاجتماعيَّة التي تجاوز الحواجز القومية، سعيًا إلى أن تكفل للطفولة وللشيخوخة حقوقها، ومثل هذه الثورات الأفقية من شأنها أن تدفع الفكر الإنساني دفعًا نحو آفاق أوسع جدًّا مما كان مستطاعًا لرجال الفكر من قبل، وانظر إلى ثورات الشباب في ستينيات هذا القرن، كيف تجاوبت أصداؤها في شباب العالم أينما كانوا، وإن تكن ثورتهم قد أخذت طابعًا خاصًّا في كل شعب على حدة، وفيم كانت ثورة الشباب بصفة عامة؟ لقد وجدوا أن شئونهم يتولاها الكبار، وهؤلاء كثيرًا ما يفقدون القدرة على الإحساس بلب المشكلات التي يعانيها الشباب، فلا يستطيعون معالجتها معالجة صحيحة، فقد يشعلون حربًا لا نفع فيها، والشباب هو الذي يُسْفَك دمه، أو — على الأقل — تذهب سنوات شبابه هباءً، فلا نفع ولا انتفع «وتلك كانت علة الشباب الأمريكي في ثورته أيام حرب أمريكا مع فيتنام» أو قد يرى الشباب في شعب آخر «كما حدث في بريطانيا» أنه إذا كانت طائفة من التقاليد المعوقة لتيار الحياة، كان لها ما يبررها في عصرٍ مضى، ولم يعد لها ما يبررها في الظروف الجديدة القائمة، فلماذا لا تشن عليها الحرب حتى تقتلع من حياتهم، أو قد يرى الشباب في أمة ثالثة «كما حدث في فرنسا» أن مناهج التعليم التي تُفرض عليهم في الجامعات، كثيرًا ما تبعد الشُّقة بينها وبين ما تتطلبه الحياة العملية، فيتخرج الطالب في الجامعة، في حوصلته علم كثير لكن سوق العمل لا تطلبه، ولقد حدث عندنا كذلك، أن تجاوب شبابنا مع شباب العالم في غضبته، إلا أن شبابنا — لسوء الحظ — نسي أنه شباب خُلق ليمد بصره إلى المستقبل، فاختلط عليه الأمر ولوى عنقه إلى الوراء لعله يجد مستقبله في ماضيه.
هكذا اتجهت الأنظار في اتجاه نزعة دولية تضم الأشباه إلى أشباهها بغض النظر عن الفواصل الوطنية والقومية، وهو اتجاه لو ترجمناه إلى لغة «الثَّقَافة» أي لغة الموسيقى والشعر والرواية والمسرحية والتصوير والنحت والعمارة، والفكر بما يتضمنه من إضاءة يصبها على أهداف الإنسانية العُليا، لأوحت تلك الروح الدولية إلى المبدعين في شتى الميادين برؤية إنسانية تنظر إلى الإخاء بين أفراد الأسرة البشرية كلها بغير تمييز، لكن عصرنا بُنِيَ على نقائض تلتقي في جوف واحد ليحد بعضها من سطوة بعضها الآخر، فتُمحى المعالم ويتعذر وصف عصرنا بسمة معينة تميزه بصورة قاطعة لا تجد إلى جوارها النقيض الذي ينفيها، فانظر تجد مقابل الروح الدولية التي تتجاوز الحوائل الوطنية والقومية ليتضامن الشبيه مع شبيهه، أينما كان، على بلوغ هدف موحد: السِّياسي مع السِّياسي في الأمم المتحدة، والعامل مع العامل في عيد مشترك، والمرأة مع المرأة، والشباب مع الشباب، وهكذا أقول: إنك إذا ما نظرت إلى هذا الإخاء الإنساني بين الفئات المتماثلة، فلا تلبث أن ترى في مقابلها روح التفرقة على أسس جغرافية وطنية قومية، بل وعِرقية متمثلة في التكتلات والتجمعات والأحلاف التي يتربص بعضها لبعض، فهنا حلف الأطلنطي، وهناك حلف وارسو، وبينهما التضامن بين دول عدم الانحياز لهذا أو لذاك، وفي هذا الإطار التحالفي نشأت جامعة عربية، ومنظمة للدول الأفريقية … وأخرى للدول اللاتينية في أمريكا الجنوبية وحلف دول جنوب شرقي آسيا، ودع عنك ما يظهر كل يوم من روابط بين جماعات أحست بالخطر؛ فتجمعت تحت لواء واحد لتكون على أهبة الدفاع أو الهجوم.
إذن فهذان تياران متعارضان في عصرٍ واحد، لا ندري معهما أيهما يكون هدف القيثارة والقلم والفرشاة والإزميل؟ إن محور التيار الأول هو حياة الإنسان تحت مظلة السلام إذا قامت قوائمها، ومحور التيار الثاني هو إعداد العدة للقتال إذا الحرب استعرت نيرانها، فبأي وتر يَعزف الموسيقي، وبأي قلم يَكتب الكاتب، وبأي فرشاة يَرسم المصور، وبأي إزميل يَنحت المثَّال؟ ومن بعيد ينظر صاحبنا إلى الحياة الثَّقافيَّة في وطنه، إبداعًا وتلقيًا، فيراها وكأنها في وادٍ آخر هناك على وجه القمر أو في المريخ أو زحل، الكل في حيرة: أشرق نحن أم غرب، أفي سلام نحن أم في حرب؟ إلى الحاضر بمشكلاته الحية ننظر، أم ننظر في أوراق الماضي ودفاتره؟ نعم، كان في وسع كل مواطن منا أن يحس مخاضًا في جوف الجبل، ولكن أحدًا لم يكن يستطيع أن يتنبأ بما يُولد بعد هذا المخاض؛ لأن الأهداف كانت غامضة، أو كنا بلا أهداف، والحديث هنا منصبٌّ على «الثَّقَافة» إبداعًا وتلقيًا.
ربما كان صاحبنا قد أخطأ النظر، لكن ذلك الخليط داخل أنبوب من العزلة عن العالم المضطرب عند خروجه من الحرب العالمية الثانية، هو ما رآه حين أرسل البصر إلى وطنه من بعيد، وانطوى في غرفته الصغيرة يواصل كتابة المقالات «الأدبيَّة» التي كان ينشئها تباعًا وفي هدوء متعمد وعلى مهل ليتقن بناءه الأدبي ما وسعه الإتقان، فكتب تحت عنوان «الدقة الثالثة عشرة» ليقول ما معناه: إن الساعة الدقاقة إذا تقدمت بأسرع مما ينبغي أخرناها لتنصلح، وإذا تأخرت لتكون أبطأ مما ينبغي قدمناها لتعتدل، أما إذا سمعتها تدق ثلاث عشرة دقة علمت بأن خرابها قد جاوز المدى، ولم يعد بُد من إعادة بنائها. ثم كتب صاحبنا بعد ذلك ربما بيوم أو يومين، تحت عنوان «بيضة الفيل» يصور بها معلمًا وتلاميذه، فيطرح المعلم أمام التلاميذ مشكلة «علمية» ليديروا في شأنها البحث والنظر، قائلًا لهم ما معناه: إن الفيلة — كما نعلم — تلد ولا تبيض، ولكن لنفرض أنها باضت، فماذا يكون لون بيضتها؟ وانصرف التلاميذ إلى «المراجع» وعادوا بنتائج متعارضة، فمنهم من انتهى إلى أن اللون يكون أبيض، مقدمًا لهذه النتيجة حججها وأسانيدها، ومنهم من انتهى إلى أن اللون يكون أسود، ومنهم من وجده رماديًّا يقع بين البياض والسواد، وبينما هم يتناقشون في هدوء «العلماء الباحثين» سمعوا دويًّا هائلًا، وتساءلوا في فزع ماذا يكون، ولما أنبأهم منبئ بأنه شيء جديد اسمه «قنبلة ذرية» أخذهم عجب؛ لأن أحدًا منهم لم يقع على سطر واحد في المراجع العلمية يذكر شيئًا كهذا. إلى هذا الحد تصور صاحبنا وهو ينظر من بعيد، أن التخبط والعزلة «في الأمور الثَّقافيَّة» قد بلغ بهما الخطر حده المخيف.
كانت حيرة كهذه قد أخذت بعقول النَّاس في الغرب وقلوبهم، لكنها حيرة المتعثر يبحث عما يقيله من عثرته، وسنحاول التوضيح بضرب الأمثلة: فقد غمضت أمامهم «بديهية» الحريَّة الإنسانية حتى تساءلوا لمن تكون؟ إنها في الأساس بديهية تمليها فطرة الإنسان وتتفهمها فطرة الإنسان ولا إشكال، لكن غبار الحرب هناك قد ران على قلوب النَّاس هناك وعقولهم، فقال قائل منهم: إن الحريَّة إنما هي لكل فرد على حِدة؛ ليكون ذلك الفرد الحر مسئولًا ومصونة كرامته، لكن صوتًا آخر ترددت أصداؤه ليقول: بل إن الحريَّة هي حرية المجموع، وليس للفرد داخل هذا المجموع إلا ما للخلية الواحدة داخل الكيان العضوي، فهي تؤدي ما تؤديه في إطار ما يوجبه عليها مجموع الكيان، فإذا تمردت خلية بأن نشطت لحسابها هي، أُصيب الكيان العضوي بالسرطان الذي يؤدي بحياته وشيكًا، وعلى أساس هذا الاختلاف في وجهة النظر انقسم الغرب قسمين: قسم غربي الغرب، يؤمن بأن تكون الحريَّة للأفراد فردًا فردًا، لا يجد الفرد منهم إلا قوانين تُسَنُّ لئلا تطغى حرية مواطن على حريات مواطنيه، وأما القسم الثاني فهو شرقي الغرب، جعل الحريَّة لكتلة المجموع القومي، وعلى الأفراد أن يسيروا في أفلاك تُرسم لهم في مراكز العبادة العليا، وكان الزعم في أقطار الشرق الأوروبي، أنه إما حرية للأفراد وإما عدالة بينهم، ولا تجتمع حرية وعدالة معًا؛ لأن النشاط يغلب أن يطغى به المواطن القوي على مواطنيه الضعفاء، وقد اختار الشرق الأوروبي من الضدين طرف العدالة، ثم فهم الحريَّة على الضوء الذي يجعلها صفة تلحق المجتمع في كتلته، ولا كذلك أقطار الجانب الغربي من الغرب، إذ جعلت الأولوية للحرية، زاعمة في الوقت نفسه بأنه لا تضاد بين حرية وعدالة إذا ما وُضعتا في منظور صحيح، وكانت الصيغة التي وضعها غرب الغرب لتدل على فكرته هي: أن الفردية لا تُفهم مجردة، بل تُفهم على أن الفرد «فرد في مجموع» والفرق بين الحالتين واضح، فالفرد في النظرية «الشمولية» لا يستطيع أن يتمرد على مجتمعه فيهجره إلى مجتمع آخر، وأما في نظرية الآخرين، فالفرد من حقه أن يرفض الإقامة في مجتمعه ويهاجر، ولقد شُغل المفكرون الكبار في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية بالتنظير الصحيح للعلاقة بين الفرد والمجتمع، وكان من المصادفات السعيدة لصاحبنا وهو في غربته، أن أنشأت الإذاعة البريطانية قناة أسموها يومئذ بالقناة الثالثة، تُخَصَّص لكبار الكبار من رجال الفكر عندهم، فأذاع فيها مفكرهم الفيلسوف برتراند راسل سلسلة أحاديث عن «الفرد والمجتمع» واستمع إليها صاحبنا ليخرج منها بحصيلة فكرية أعمق ما يكون التفكير وأقوى.
ومثل آخر نسوقه للحيرة الفكرية في أوروبا وأمريكا بصفة خاصة بعدما ألقت الحرب العالمية الثانية بركامها، مشكلة «العلم» في حياة الإنسان المعاصر، إنه لم يكن للعلم مشكلة قط في أي عصر سابق من عصور التَّاريخ، لكنه كان على مدى القرون السابقة علمًا بغير أنياب وأضراس، إنه لم يكن قط علمًا يتسلل بمخالبه في حياة كل إنسان مهما تكن درجة فقره وانفراده لأن العلم وراءه بأجهزته؛ وذلك لأن علم هذا العصر ينفرد وحده بأنه علم تقني «تكنولوجي»، أي إنه يقوم على أجهزة وينتج أجهزة، وإن الأجهزة والآلات تنتج بدورها أجيالًا جديدة من أجهزة وآلات، جيلًا بعد جيل، وكل جيل منها أدق من سلفه وأقوى وأنفذ إلى الخفايا والحنايا والأبعاد والأعماق، ومن هنا يجيء نفعه ويجيء خطره معًا، وحسبك أن تنظر إلى جانب واحد منه، وهو الخاص بالقوة النووية، كيف يمكن أن تهلك وتفني من تهلكه وتفنيه، لكنها في الوقت نفسه مارد جبار أخرجه العلم من قمقمه الذي لبث حبيسه دهورًا بعد دهور، له من القوة ما يستطيع أن يرفع حضارة البشر درجات، فماذا نحن صانعون إزاء العلم الجديد في جبروته نفعًا وضرًّا؟ يقول قائل: دعه ينطلق إلى آخر مداه، ويقول آخر: بل لا بد له من حد أقصى يقف عنده حتى لا يهلك البشر. وتفنن رجال الفن والأدب في تصوير ما عساه ينجم عن العلم من شر إذا طغى، فهذا «أولدس هكسلي» يكتب روايته العلمية «عالم طريف» لينذر بها الإنسان بفداحة الشر إذا هو ترك العلم الجديد يمضي إلى غير حدٍّ معلوم، ولا أول ولا آخر لما تبدعه أقلام الأدباء هناك من «خيال علمي» يستنبط النتائج التي قد تتولد للناس من معطيات العلم الجديد، وفوق هذا كله فليس في رجال الفكر والأدب هناك، من لا يلحظ ما قد أصاب الإنسان من علل نفسية تؤرقه وتقلقه وتنغص عليه حياته؛ لأن العامل تحت ضغط الأجهزة والآلات بدقتها وحدتها قلما ينجو من الشعور بالضيق والإرهاق والشعور بعبث الحياة التي يحياها؛ لأنه بعد يوم مُضْنٍ يمسي ليصبح في يوم مضن آخر، دون أن يعلم شيئًا عن القيمة الحقيقية لما يعلمه؛ وذلك لأنه في أغلب الحالات لا ينفرد بعمل متكامل يشهد له أولًا ووسطًا وثمرة، والأغلب أن ينحصر واجبه في جزيء صغير من عملية كبرى لا يدرك هو أطرافها بين بداية ونهاية، وسؤال الفكر والأدب والفن هناك لا ينقطع عن القول: ماذا نحن صانعون ليبقى العلم الجديد في قوته، ولينجو من شره الإنسان في الوقت نفسه؟
وهو سؤال تملي البداهة بعض جوابه، بأن تبث في النَّاس «ثقافة» يعتدل بها الميزان، فليست حياة الإنسان علمًا كلها، بل فيها من الجوانب الأخرى ما ليس يُقام على منطقية العقل العلمي، كالدين والفن والأدب، مما يعتمد على الجانب الوجداني، ويحمل في ثناياه ما يلطف حدة العلم وصرامة وقعه، خصوصًا وهو متمثل في تقنيات «تكنولوجيا» في المصانع وغير المصانع، ومن أهم قنوات الزاد الثقافي وسائل التعليم ووسائل الإعلام، ومن هنا لُوحظت عناية الدول الكبرى التي عانت ويلات الحرب قُبيل أن تبلغ الحرب ختامها، بأن تعد العِدة لتطويع الجهاز التعليمي بصفة خاصة، تطويعًا يمكنه من تنشئة الجيل الجديد تنشئة تتناسب مع الظروف الحضاريَّة الجديدة، هذا فضلًا عن إقامة منظمة يونسكو، التي هي جناح من أجنحة هيئة الأمم المتحدة، أُريد بها أن تتولى الميادين الثَّقافيَّة في شتى أقطار الأرض، بالعون وبالتوجيه، وبالعمل على تبادل الثقافات المختلفة وتفاعلها بما يؤدي إلى روح الإخاء بين النَّاس، فحالة السلام وحالة الحرب كلتاهما يَنْتُج، عما مُلئت به، رءوس النَّاس وقلوبهم من أفكارٍ ومشاعر، فإذا استُبدلت بأفكار البغضاء ومشاعر الكراهية أفكار للتعمير والبناء، ومشاعر للصفاء وللإخاء، تبدل المناخ الثقافي الذي يتنفس النَّاس هواءه، واتجهت سُبل الحياة كلها نحو ما يبعث في النفوس طمأنينة تنعكس على مؤسسات العلم التقني الجديد متجهة به نحو الخير، وإن للإنسان في عقيدته الدينيَّة وفي نشوته الفنية، وفي ساعات فراغه إذا أحسن توجيهها بثقافة رفيعة، ما يرد لإنسانيته ذلك المفقود الذي أهدرته آليات العصر الجديد.
كثيرون هم أولئك الذين ينظرون إلى عصرنا نظرة سطحية، فيأتيهم الظن بأنه عصر تمزقت أواصره، وتناقضت نظراته، ولا شك في أن ذلك هو ما يبدو للعين المجردة، وحسبه تمزيقًا أنه اختلف غربًا مع شرق وبينهما موقف محايد، كما اختلف شمالًا غنيًّا بصناعاته وجنوبًا فقيرًا بمواده الخام، وحتى إذا جاوزنا ظواهر السطح لننظر فيما وراء ذلك من أعماق فلسفية، يقينًا بأن في تلك الأعماق وحدها تجد روح عصرها، فسوف يصادفنا هناك ما قد يؤيد التمزق والتفرق؛ لأننا واجدون هناك حوارًا للفكر يختلف باختلاف الرقعة الجغرافية: ففي الولايات المتحدة الأمريكية، التي هي المُنْشئة الأولى لحضارة هذا العصر، وقد أقامتها أساسًا على العلوم الطبيعيَّة، ولم يحدث قط فيما مضى أن قامت حضارة على هذا الأساس في المقام الأول، أقول: إننا هناك واجدون منحًى فلسفيًّا يجعل تعريف «الحق» مرهونًا بالنتائج، فما حسنت ثمرته فهو حق وما ساءت ثمرته فهو باطل، وفي الشمال الغربي من أوروبا متجه فلسفي آخر، يجعل تحليل العلم إلى ذراته المنطقية مشغلته الأولى، على اعتبار أننا في عصر العلم، وأول واجب على صاحب الفكر الفلسفي أن يصور حقيقة عصره بلغة «الفكر»، وفي غربي أوروبا متجه فلسفي ثالث له ظهور أكثر من سواه، يتجه باهتمامه نحو «الإنسان» من حيث هو كذلك، فبأي شيء يتميز، وبأي حياة يستطيع تقرير ذاته وإثبات وجوده، فإن كانت جذور حياته ضاربة في أصول نشأته الثَّقافيَّة الأولى وجب البحث عن تلك الأصول لنصبَّ عليها الضوء، وفي شرقي أوروبا متجه فلسفي رابع له طريقته في فهم التَّاريخ على نحو يجعل أصابع الأيدي العاملة أوغل في حقيقة الإنسان من نواتج عقله ووجدانه، فهذه إنما هي فرع تفرع من تلك، وفي كثير من البلاد غير الأمريكية والأوروبيَّة لها متجهات فلسفية أخرى غير الأربعة المذكورة يغلب عليها بصفة عامة أولوية الروح على المادة، وإذا كان عالم اليوم مشتت النظر على هذا النحو، فبأي معنًى يحق له أن يكون «عصرًا» فيه ما يوحده؟
لكن صاحبنا وهو يدير بصره فيما حوله، يوم أن كان الزمن لا يزال في الأعوام الأخيرة من أربعينياته، وجد وراء هذا الاختلاف كله محورًا يجتمع عليه الرأي كله، وهو «الإنسان» ذاته ووضعه موضع الصدارة يكون غاية في ذاته، وجميع ما هنالك مما نرى ونسمع إنما هو — من وجهة النظر في هذا العصر — وسائل تخدم تلك الغاية، أو ذلك هو ما ينبغي أن يكون، وهي نظرة لم تكن، وإنما فيما سبق هي المحور الذي تتجمع حوله الأشتات.
هكذا أرسل صاحبنا البصر من بعيد ليرى في ساحة الحياة الثَّقافيَّة عند أهله جماعات وتيارات لا تتقاطع خطوطها في نقطة تلتقي عندها، كلا ولا هي تمتد نحو الأفق لتتلاقى عند هدف واحد مشترك، نعم كان صاحبنا يعلم كذلك أن بلاد الغرب من حوله تصطرع بالأفكار المتعارضة وبالمواقف المستعصية، لكنه كان يلحظ أن كل ذلك يصاحبه عندهم فكر أصيل جاد هادف، يحاولون به أن يجدوا للمشكلات حلولها، وخلاصة الفرق بيننا وبينهم هو أنهم يعيشون عصرهم الذي صنعوه بأيديهم ونسجوا خيوط على أنوالهم بكل حسناته وسيئاته، وأما نحن فنقف وقفة تشبه الرفض الذي يأبى على صاحبه أن يخوض هذا البحر الهائج الذي هو عصرنا، وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين لنا ماذا تكون النتيجة إذا تلاقى أبناء العصر بقوته وعلمه وسلاحه وصناعته ودهائه، مع أبناء الرفض بما لحقهم من ذبول وضعف، فجاء لهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية بدولة إسرائيل التي هي في الحقيقة اختصار لهذا العصر، ثم تلاقى الجانبان في حرب كانت نتيجتها صارخة: بأن الويل لمن يتلكأ رافضًا لعصره بما فيه من جوانب القوة ومحاولًا أن يتقي ما فيه من عوامل الضعف.