الطوالع والنبوءات
على بركة الله نمضي في سرد المقدمات التي سبقت البَعْثة المحمدية بنوعيها: مقدمات ترتبط بما تلاها من الحوادث ارتباط الأسباب بالمسببات.
ومقدمات لا ترتبط بما تلاها هذا الارتباط، بل لعلها تناقضها، وتؤدي إلى خلافها، وإنما ترتبط بها ارتباط الداء بدوائه، والعلة بما يزيلها، فليست النتائج هنا وليدة المقدمات، بل هي العلاج الذي يزيلها، والآية الإلهية التي تحول الأسباب الطبيعية إلى طريق الحكمة الأبدية التي تنكشف أوائلها من خواتيمها، خلافًا للعرف الشائع من دلالة الأوائل على الخواتيم.
ورائدنا في متابعة هذه المقدمات بنوعيها أن ننظرَ في الآيات الكونيَّة والمعاني التاريخيَّة؛ لأنها — ولا شك — عنوان إرادة الله المتصرف في الكون كله، ولأنها — على هذا — مفتوحة الصفحات لكل ناظر ومتأمل يعمل بفريضة الإسلام الكبرى، وهي التفكير في ملك الله، والنظر بالعقل في حقائق السماوات والأرضين.
رائدنا في البحث عن مقدمات الدعوة النبوية أنَّ إرادةَ الله ظاهرةٌ في ملكه وآيات خلقه، وأنَّ الناس مطالبون بالنظر في هذه الإرادة قَبْل النظر في المعجزات والخوارق التي لا تأتي في كل حين، ولا تخص المؤمنين دون سائر المصدقين بالحس والعيان، وسؤالنا عن كل معجزة لا يدور على إمكانها أو استحالتها، فليست المعجزات بالقياس إلى قدرة الله خالق الكون إلا كالمألوفات التي تجري بها العادات في كل يوم، فإذا كانت الموجودات مخلوقة بخصائصها، فالذي خلقها وخلق خصائصها يملك تغييرها وتبديلها، ويأتي بالمعجزات كما يأتي بالمنظور والمطَّرد من النواميس والعادات، وعقيدتنا في ذلك عقيدة الإمام الغزالي رضي الله عنه؛ حيث قال غير مرة: إنَّ الحوادث تجري عند حصول الأسباب، ولا تجري بحصول تلك الأسباب، فليست خصائصُ المادة من فعلها ولا إراداتها، ولكنَّ المادةَ وخصائصَها جميعًا من فعل الحكمة الإلهية التي تسخر كل شيء بمقدار.
فنحن لا نسأل: هل المعجزة ممكنةٌ أو غيرُ ممكنةٍ؟ فإنَّ العقلَ الذي يقول: إنَّ المادةَ لا توجدُ إلا هكذا، أضيقُ من العقول التي تصدق كلَّ شيء بغير بحث ولا برهان.
ولكننا نسأل: هل المعجزة لازمة أو غير لازمة؟ وهل كان لها أثر مشهود في الإقناع بالدعوة، كما ينبغي لكل معجزة، أو كانت في تاريخ الدعوة عملًا بغير أثر ولغير ضرورة؟
ذلك أنَّ الله — جل وعلا — يضع قوانين الطبيعة لحكمة، ويخرقها لحكمة، وتعالى الله عن العبث في غير معنى، فلا يكون خرق القوانين وخلق المعجزات لغير قصد يعلمه شهود المعجزة التي تخالف مألوفهم ومجرى العادات أمامهم كل يوم.
وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا عن «عبقرية محمد» حين قلنا: «إنَّ علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تتمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها، فإذا تجمعت هذه العلامات فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟ وإذا تعذر عليها أن تتجمع، فأي علامة غيرها تنوب عنها، أو تعوض ما نقص منها؟! وقد خُلِق محمدُ بنُ عبد الله ليكون رسولًا مبشرًا بدين، وإلا فلأي شيء خلق؟! ولأي عمل من أعمال الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات، وكل هاتيك المناقب والصفات؟!
لو اشتغل بالتجارة طول حياته، كما اشتغل بها فترة من الزمن؛ لكان تاجرًا أمينًا ناجحًا موثوقًا به في سوق التجار والشراة، ولكن التجارة كانت تشغل بعض صفاته، ثم تظل صفاته العليا معطلة لا حاجة إليها في هذا العمل مهما يتسع له المجال، ولو اشتغل زعيمًا بين قومه لصلح للزعامة، ولكن الزعامة لا تستوفي كل ما فيه من قدرة واستعداد، فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية دون سواها، وما من أحد قد أُعِدَّ في هذه الدنيا لرسالة دينية إن لم يكن محمد قد أُعِدَّ لها أكمل إعداد.»
وقلنا عن بشائر الرسالة المحمدية: إنَّ المؤرخين «يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية؛ يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه، وما قبله الثقات وما لم يقبلوه، وما أيَّدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد، أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض أمر الإسلام؟»
لا موضع هنا لاختلاف.
«فما من بشارة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحدٍ بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة، أو كان ثبوت الإسلام متوقفًا عليها؛ لأن الذين شهدوا العلامة المزعومة يوم الميلاد لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة؛ ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة، لم يشهدوا بشارة واحدة منها، ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.
وقد وُلِدَ مع النبي — عليه السلام — أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره، ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين؛ يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين. أما العلامة التي لا التباس فيها ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون أو علامة التاريخ، قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة، وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة. ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون وعلامة التاريخ …»
•••
على هذا المحك البسيط نعرض أخبار الخوارق والمألوفات في تاريخ الدعوات النبوية، وينبغي أن نقرر في هذا المقام — لأنه مقامه الذي يذكر فيه — أنَّ المؤرخ المسلم الذي يكتفي بالآيات الكونية إنما يختار هذا الطريق لأنه طريق واضح المعالم أمامه وأمام الناظرين، الذين يعملون بهداية الإسلام في تدبر الآيات، والبحث عن حقائق الموجودات، ولكنه لو شاء لوجد لديه ذخيرة من الطوالع والنبوءات التي يعتمد أتباع الأديان المختلفة على أمثالها، وقد يعز عليهم أن يجدوا أمثالها في المصادر التي يؤمنون بها ولا يشكون. فلا يعتمد المؤرخ المسلم على الآيات الكونية لقلة الطوالع والنبوءات التي يثوب إليها — لو شاء — كما يثوب غيره، وإنما يعتمدها توثيقًا للبينة، وإيثارًا لأفضل الحسنيين في مقام المقابلة بين المتشابهات.
ومن الحسن أن نأتي على أمثلة من الطوالع والنبوءات التي وجد فيها بعض المؤرخين المسلمين شواهد على ظهور النبي — عليه السلام — مكتوبة قبل أوان ظهوره بعشرات القرون، ونلاحظ أنَّ هؤلاء المؤرخين أو أكثرهم من فضلاء الهند وفارس والأمم الشرقية التي تتكلم غير العربية، وسرُّ ذلك أنهم ورثوا في بلادهم طوالع الديانات السابقة، ولم يشاءوا أن تكون هذه الطوالع مزايا خاصة تنفرد بها تلك الديانات، ويعجزون هم عن الإتيان بنظائرها التي تقابلها في كفة الديانة الإسلامية، فهم يتوخون إلزام الحجة بالدليل المماثل، ولا يعييهم فعلًا أن يجدوا ذلك الدليل مساويًا أو راجحًا في الدلالة على أدلة المتقدِّمين من أبناء المللِ الغابرين. ونحن نورد هنا بعض الأمثلة التي يستدعيها المقام، ولا يجوز إهمالها، في تمهيدٍ يحيط بجميع الشواهد والمقدمات ولو على سبيل الإجمال.
من هذه الكتب كتاب باللغة الإنجليزية أَلَّفَهُ «مولانا عبد الحق فديارتي» وسمَّاه «محمدٌ في الأسفارِ الدِّينيَّة العالمية»، واستفاد في مقارناته ومناقضاته بمعرفته للفارسية والهندية والعبرية والعربية وبعض اللغات الأوروبية، ولم يقنع فيه بكتب التوراة والإنجيل، بل عَمَّمَ البحث في كتب فارس والهند وبابل القديمة، وكانت له في بعض أقواله توفيقات تضارع أقوى ما ورد من نظائرها في شواهد المتدينين كافةً، ولا نذكر أننا اطَّلعنا على شاهد أقوى منها في روايات الأقدمين أو المحدثين من أتباع الديانات الأولى أو الديانات الكتابية.
والمؤلف يُفَسِّر الأبوابَ التسعةَ بالأبواب المؤدية إلى الكعبة؛ وهي: باب إبراهيم، وباب الوداع، وباب الصفا، وباب علي، وباب عباس، وباب النبي، وباب السلام، وباب الزيارة، وباب حرم، ويسرد أسماء الجوانب الثمانية حيث ملتقى الجبال؛ وهي في قوله: جبل خليج، وجبل قعيقعان، وجبل هندي، وجبل لعلع، وجبل كدا، وجبل أبي حديد، وجبل أبي قبيس، وجبل عمر.
ويضرب المؤلف صفحًا عن تفسير البرهميين لمعنى البيت هنا بأنه جسم الإنسان ومنافذه ولا يذكره؛ لأنه — على ما يظهر — يخالف وصف القداسة الروحية في البرهمية، ولا يأتي بتفسير للجوانب الثمانية عند تفسيره للأبواب بذلك المعنى.
وللمؤلف صبر طويل على توفيق هذه العلامات وأشباهها يستخرج منها الطالع بعد الطالع، والنبوءة إلى جانب النبوءة، مما يغني المثل عليه عن استقصاء جميع موافقاته وعلاماته.
جز آخاز وانجام وانباز ودشمن ومانند ويار وبدر ومادر وزن وفرزند وحاى سوى وتن آسا وتنانى ورنك وبوى است.
وهذه هي جملة الصفات التي يوصف بها الله سبحانه في الإسلام: أحد، صمد، ليس كمثله شيء، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ولم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا.
وقد أشار المؤلف بعد الديانات الآسيوية الكبرى إلى فقرات من كتب العهد القديم والعهد الجديد، فقال: إنَّ النبي — عليه السلام — هو المقصود بما جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية: «جاء الرَّب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، ومن يمينه نار شريعة لهم.»
ويومر يهووه مسينائي به وزارح مسعير لامو هو فيع مهر باران واتا مر ببوث قودش ميميفو ايش داث لامو.
فترجمه هكذا: «وقال: إنَّ الرَّب جاء من سيناء، ونهض من سعير لهم، وسطع من جبل فاران، وجاء مع عشرة آلاف قديس، وخرج من يمينه نار شريعة لهم.»
ونقل عن ترجمة التوراة السامرية، التي صدرت في سنة ١٨٥١، أنَّ إسماعيل «سكن برية فاران بالحجاز، وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر»، ثم قال: إنَّ سفر العدد من العهد القديم يفرق بين سيناء وفاران؛ إذ جاء فيه أنَّ بني إسرائيل ارتحلوا «من برية سيناء، فحلت السحابة في برية فاران» … ولم يسكن أبناء إسماعيل قط في غرب سيناء فيقال: إنَّ جبل فاران واقع إلى غربها. وفي الإصحاح الثالث من كتاب حبقوق أنَّ «الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران». فهو إذن إلى الجنوب حيث تقع تيمان بموضعها الذي تقع فيه اليمن مرادفتها بالعربية.
ولم يحدث قط أن نبيًّا سار بقيادته عشرة آلاف قديس غير النبي محمد — عليه السلام — وقوديش تترجم بقديس في رأي المؤلف، الذي يناقش ترجمتها بالملائكة في الترجمات الأخيرة، كذلك لم يحدث قط أنَّ نبيًّا غيره جاء بشريعة بعد موسى الكليم، فقول موسى الكليم: «إنَّ نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرَّب إلهكم من إخوتكم أبناء إبراهيم.» يصدق على النبي العربي صاحب الشريعة، ولا يصدق على نبي من أبناء إبراهيم تقدمه في الزمن. ويرجح المؤلف أنَّ المدينة التي تعلم فيها موسى — عليه السلام — في صحبة يثرون، أي شعيب، لم تكن هي مديان الأولى التي تخربت بالزلزال كما جاء في القرآن الكريم، ولكنها كانت «مدينة» الحجاز التي سميت يثرب على اسم يثرون.
•••
ومن الجماعات التي عُنيت عناية خاصة بهذه النبوءات جماعة الأحمدية الهندية، التي ترجمت القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، فإنها أفردت للنبوءات والطوالع عن ظهور محمد — عليه السلام — بحثًا مسهبًا في مقدمة الترجمة، شرحت فيه بعض ما تقدم شرحًا مستفيضًا، وزادت عليه أنَّ نبوءة موسى الكليم تشتمل على ثلاثة أجزاء؛ وهي: التجلي من سيناء، وقد حصل في زمانه، والتجلي من سعير أو جبل أشعر، وقد تجلى في زمن السيد المسيح؛ لأن هذا الجبل — على قول الجماعة الأحمدية — واقع حيث يقيم أبناء يعقوب الذين اشتهروا بعد ذلك بأبناء أشعر. وأما التجلي الثالث فمن أرض فاران، وهي أرض التلال التي بين المدينة ومكة.
وقد جاء في كتاب فصل الخطاب أنَّ الأطفال يُحيُّون الحجاج في تلك الأرض بالرياحين من «برية فاران»، وقد أصبح أبناء إسماعيل أمة كبيرة كما جاء في وعد إبراهيم؛ فلا يسعهم شريط من الأرض على تخوم كنعان، ولا وجه لإنكار مقامهم حيث أقام العرب المنتسبون إلى إسماعيل، ولا باعث لهم على انتحال هذا النسب والرجوع به إلى جارية مطرودة من بيت سيدها.
ولا حاجة إلى البحث الطويل عن مقام أبناء دومة وتيماء وقدامة وأكثر إخواتهم الباقين؛ فإن الأماكن التي تنسب إليهم لا تزال معروفة بأسمائها إلى الآن، ومن نبوءة أشعيا التي سبقت مولد السيد المسيح بسبعمائة سنة يظهر جَلِيًّا أنَّ أبناء إسماعيل كانوا يقيمون بالحجاز؛ ففي هذه النبوءة يقول النبي أشعيا من الإصحاح الحادي والعشرين: «وحي من جهة بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزه، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا؛ من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب؛ فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار.»
ويعود المفسرون من الجماعة الأحمدية فيفسرون هزيمة قيدار بهزيمة المكيين في وقعة بدر، وهي الهزيمة التي حلَّت بهم بعد هجرة النبي إلى المدينة بنحو سنة كسنة الأجير.
ويقرنون هذه النبوءة بنبوءة أخرى من الإصحاح الخامس في سفر أشعيا يقول فيها: «ويرفع راية للأمم من بعيد، ويصفر لهم من أقصى الأرض فإذا هم بالعجلة يأتون … ليس فيهم رازح ولا عاثر، ولا ينعسون ولا ينامون، ولا تنحل حزم أحقائهم، ولا تنقطع سيور أحذيتهم، سهامهم مسنونة، وجميع قسيهم ممدودة، حوافر خيلهم كأنها الصوان، وبكراتهم كالزوبعة …»
وهذه النبوءة عن رسول يأتي من غير أرض فلسطين لم تصدق على أحد غير رسول الإسلام.
وتلحق بهذه النبوءة نبوءة أخرى من الإصحاح الثامن في سفر أشعيا، جاء فيها أنَّ الرَّب أنذره ألا يسلك في طريق هذا الشعب قائلًا: «لا تقولوا فتنة لكل ما يقول له هذا الشعب فتنة، ولا تخافوا خوفه ولا ترهبوا. قَدِّسُوا ربَّ الجنودِ فهو خوفكم وهو رَهْبَتكم، ويكون مقدسًا، وحجر صدمة وصخرة عثرة لبيتي إسرائيل، وفخًّا وشركًا لسكان أورشليم، فيعثر بها كثيرون، ويسقطون فينكسرون، ويعلقون فيلقطون … صُرَّ الشهادة. أختم الشريعة بتلاميذي؛ فاصطبر للرب الساتر وجهه عن بيت يعقوب وانتظره.»
فهذه النبوءة عن الرسول الذي يختم الشريعة تصدق على نبي الإسلام ولا تصدق على رسول جاء قبله ولا بعده.
وتلحق بهذه النبوءة أيضًا نبوءة من الإصحاح التاسع عشر في سفر أشعيا، يذكر فيها إيمان مصر بالرسول المنتظر «وفي ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر، وعمود الرَّب عند تخمها، فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر؛ لأنهم يصرخون إلى الرَّب بسبب المضايقين، فيرسلُ لهم مخلصًا ومحاميًا وينقذهم، فيُعْرَف الرَّب في مصرَ، ويَعْرف المصريون الرَّب في ذلك اليوم، فيقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا ويوفون به، ويضرب الرَّب مصر ضاربًا فشافيًا، فيرجعون إلى الرب، فيستجيب لهم ويشفيهم.
في ذلك اليوم تكون سكة مصر إلى آشور، فيجيء الآشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور، ويعبد المصريون مع الآشوريين، في ذلك اليوم يكون إسرائيل ثُلثًا لمصر ولآشور بركة في الأرض، بها يبارك رب الجنود قائلًا: مبارك شعبي مصر، وعمل يدي آشور، وميراثي إسرائيل.»
فالذي حدث من قدوم أهل العراق إلى مصر وذهاب أهل مصر إلى العراق إنما حدث في ظل الدعوة الإسلامية، ولم تتوحد العبادة بينهم قبل تلك الدعوة، وأنَّ النبوءة ستتم غدًا على غير ما يهواه بنو إسرائيل؛ إذ تكون البركة لمصر وأشور، ولا تكون إسرائيل إلا لاحقة بكلتا الأمتين.
•••
ثم ينتقلون بالنبوءات إلى سفر دانيال حيث جاء في الإصحاح الثاني: «أنت أيها الملك، كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم، هذا التمثال العظيم البهي جدًّا وقف قبالتك ومنظره هائل. رأس هذا التمثال من ذهب جيد، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذه من نحاس، وساقاه من حديد، وقدماه بعضها من حديد والبعض من خزف، كنت تنتظر إلى أن قطع حجر بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا، وصارت كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الريح، فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلًا كبيرًا، وملأ الأرض كلها.»
ويلي ذلك تفسير النبي دانيال لهذا الحلم إذ يقول: «أنت أيها الملك ملك ملوك؛ لأن إله السماوات أعطاك مملكة واقتدارًا، وسلطانًا وفخرًا، وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك، وسلَّطك عليها جميعها، فأنت هذا الرأس من ذهب، وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك، ومملكة ثالثة أخرى من نحاس، فتتسلط على كل الأرض، وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد يدق ويسحق كل شيء، وكالحديد الذي يكسر تسحق وتكسر كل هؤلاء.
وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف والبعض من حديد، فالمملكة تكون منقسمة، وتكون فيها قوة كالحديد من حيث إنك رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين، وأصابع القدمين بعضها من حديد وبعضها من خزف، فبعض المملكة يكون قويًّا، والبعض قصمًا، وبما رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين، فإنهم يختلطون بنسل الناس، ولكن لا يتلاصق هذا بذاك، كما أنَّ الحديد لا يختلط بالخرف. وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدًا، وملكها لا يترك لشعب آخر، وتسحق وتفنى كل هذه الممالك، وهي تثبت إلى الأبد؛ لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين، فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب … الله العظيم قد عرف الملك ما سيأتي بعد هذا. الحلم حق، وتعبيره يقين …»
وتعود الجماعة الأحمدية إلى التاريخ لتستمد منه التعليق على تعبير النبي دانيال لتلك الرؤيا، فمن كلام النبي دانيال يُفهم أنَّ الرأس الذهبي هو ملك بابل، وأنَّ الصدر والذراعين من الفضة تعبر عن مملكة فارس وميدية التي ارتفعت بعد دولة بابل، وأنَّ الرِّجلين من النحاس تعبران عن الدولة الإغريقية في ظل الإسكندر؛ لقيامها بعد زوال حكم الفارسيين والميديين، وأنَّ القدمين من الحديد تعبران عن الدولة الرومانية التي ارتفعت بعد ذهاب مُلْكِ الإسكندر.
وتقول الرؤيا عن هذه الدولة الأخيرة: إنَّ قدمًا من قدميها خزف والأخرى حديد. وهو وصف يشير إلى جزء من الدولة في القارة الأوروبية، وجزء منها في القارة الآسيوية، فالقَدَمُ الحديد هي سيطرة الأمة الواحدة، والعقيدة الواحدة. وهذه السيطرة تستولي على أقطار شاسعة وموارد غزيرة، ولكنها تنطوي على الضعف الكامن من جراء التفكك بين أوصال الشعوب، والرؤيا صريحة في وشك انحلال الدولة الرومانية في السنوات الأخيرة لهذا السبب.
وتستطرد من ثم إلى أمور أهم وأخطر إذ تقول: «إنك كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا، وصارت كعصافة البيدر في الصيف، فحملتها الريح، فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلًا كبيرًا وملأ الأرض كلها …»
تقول الجماعة: «فهذه نبوءة بظهور الإسلام؛ فقد اصطدم الإسلام في صدر الدعوة بدولة الرومان ثم بدولة فارس، وكانت دولة الرومان يومئذ قد بسطت سلطانها على ملك الإغريق الإسكندري، فبلغت من المنعة غايتها، وكانت دولة فارس قد بسطت سلطانها على بابل، ثم ضربتهما قوة الإسلام، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة معًا، وصارت كعصافة البيدر في الصيف، وهكذا ينبئ ترتيب الحوادث وتعبيرها في رؤيا دانيال إنباءً لا ريب في معناه. إذ كنا نعلم أنَّ بابل خلفتها فارس وميدية، وأنَّ سطوة فارس وميدية كسرتها سطوة الإسكندر، وأنَّ ملك الإسكندر خلفته الدولة الرومانية التي أقامت من عاصمتها القسطنطينية أركان مملكة أوروبية آسيوية، ثم انهزمت هذه المملكة وأدال منها الفتح الإسلامي وغزوات النبي والصحابة.»
وهذا الحجر الذي جاء في رؤيا دانيال يذكره أشعيا والحواري مَتَّى؛ ففي الإصحاح الثامن من سفر أشعيا أنه «يكون مقدسًا وحجر صدمة وصخرة عثرة لكل من بيتي إسرائيل، وفخًا وشركًا لسكان أورشليم، ويعثر بهما كثيرون ويسقطون ويعلقون فيلقطون».
وفي الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متَّى يقول: «لذلك أقول لك: إنَّ ملكوت الله يُنْزَع منكم ويُعْطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه.»
كذلك يذكره المزمور الثامن عشر بعد المائة إذ يقول: «إنَّ الحجرَ الذي رفضه البناءون قد أصبح عقد البناء وركن الزاوية.»
ويتبين من كلام السيد المسيح في الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل مَتَّى المتقدم ذكره، أنَّ هذه النبوءة تنبئ عن زمن غير زمن السيد المسيح؛ إذ يقول عليه السلام: «أما قرأتم قط في الكتب أنَّ الحجر الذي يرفضه البناءون قد صار رأس الزاوية؟ فمن قِبَلِ الرَّب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا.»
ثم تُفْضي النبوءة — نبوءة النبي دانيال — إلى عقباها، فيصبح الحجر جبلًا عظيمًا، ويملأ الأرض كلها، فإنَّ هذا هو الذي حدث بعد انتشار الدعوة المحمديَّة، فإنَّ الرسولَ الكريمَ وصحابَتَهُ هزموا قيصر وكسرى، وأصبح المسلمون سادة للعالم المعمور كله في ذلك العصر، وصار الحجر جبلًا عظيمًا، فظل زمام العالم في أيدي أتباع محمد ألف سنة.
ثم تتم نبوءات العهد القديم بنبوءات العهد الجديد، ويستشهد جماعة الأحمدية بالإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل مَتَّى، حيث يقول السيد المسيح: «اسمعوا مثلًا آخر: كان إنسان رب بيت غرس كرمًا، وأحاطه بسياج، وحفر فيها معصرة، وبنى برجًا، وسلمه إلى كرامين وسافر، ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين ليأخذ أثماره، فأخذ الكرامون عبيده، وجلدوا بعضًا وقتلوا بعضًا ورجموا بعضًا، ثم أرسل إليهم ابنه أخيرًا قائلًا: إنهم يهابون ابني. فأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه.
فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه. فمتى جاء صاحب الكرم، فماذا يفعل بأولئك الكرامين؟ قالوا له: إنه يهلك أولئك الأردياء هلاكًا رديئًا، ويسلِّم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها، قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أنَّ الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية؟ من قِبَلِ الرَّب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا؛ لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنْزَع منكم ويُعْطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه. ولما سمع الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم، وإذ كانوا يريدون أن يمسكوه خافوا من الجموع؛ لأنه كان عندهم مثل نبي.»
هذا المثل يبحثه كتاب المقدمة لترجمة القرآن فيقولون: إنَّ السيد قد لخص به تاريخ الأنبياء والرسل أجمعين؛ فالكرم هو الدنيا، والكرامون العاملون فيه هم الجنس البشري الكادح في دنياه، والثمرات التي يريد صاحب الكرم أن يحصلها هي ثمرات الفضيلة والخير والتقوى، والخدم الموفدون من صاحب الكرم إلى الكرامين هم الرسل والأنبياء، ولما جاءهم السيد المسيح بعد إعراضهم عن الرسل والأنبياء، فغدروا به وأنكروه، عوقبوا بتسليم الكرم إلى كرامين آخرين، وَنُزِعَ ملكوت الله منهم لتعطاه الأمة الأخرى الموعودة بالبركة مع أمة إسحاق، وهي أمة إسماعيل ونبيها العظيم محمد — عليه السلام — وهو الذي يصدق عليه وعلى قومه أنهم كانوا الحجر المرفوض، فأصبح هذا الحجر زاوية البناء من سقط عليه رضَّه، ومن أصيب به فهو كذلك مرضوض.
وتتلو هذه النبوءة في إنجيل مَتَّى نبوءة متممة من الإنجيل نفسه، حيث جاء في الإصحاح الثالث والعشرين منه خطابًا لبني إسرائيل: «هو ذا بيتكم يترك لكم خرابًا؛ لأني أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرَّب.»
وفي الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا نبأ يحيى المغتسل، أو يوحنا المعمدان، مع الكهنة واللاويين «إذ سألوه: من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وقال: إني لست أنا المسيح، فسألوه: إذن ماذا؟ أأنت إيليا؟ فقال: لا، قالوا: أأنت النبي؟ فأجاب: لا، فقالوا له: من أنت لنعطي جوابًا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية: قَوِّموا طريق الرَّب كما قال أشعيا النبي.»
ويعقب أصحاب المقدمة للترجمة القرآنية على هذه النبوءات؛ فيقولون: إنها كانت ثلاثًا في عصر الميلاد المسيحي، كما هو واضح من الأسئلة والأجوبة: نبوءة عن عودة إيليا، ونبوءة عن مولد السيد المسيح، ونبوءة عن نبي موعود غير إيليا والسيد المسيح.
ولقد أعلن السيد المسيح، كما جاء في الإصحاح الحادي عشر من إنجيل متَّى، «أنَّ جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبئوا، وإن أردتم أن تقبلوا، فهذا — أي يحيى المغتسل — هو إيليا المزمع أن يأتي.»
وواضح من الإصحاح الأول من إنجيل لوقا أن الملك بشَّر زكريا بأن امرأته ستلد له ولدًا وتسميه يوحنا، «وأنه يكون عظيمًا أمام الرَّب لا يشرب خمرًا ولا مسكرًا، ويمتلئ من بطن أمه بالروح القدس، ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرَّب إلههم، ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته؛ ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء».
وفي الإصحاح التاسع من إنجيل مرقس يقول السيد المسيح: «إنَّ إيليا أيضًا قد أتى، وعملوا به كل ما أرادوا كما هو مكتوب عنه.»
ويتكرر ذلك في إنجيل مَتَّى إذ يقول: «إنَّ إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا.»
فالنبي إيليا قد تقدم إذن في عصر الميلاد، وقد جاء فيه المسيح أيضًا، ثم بقى ذلك النبي الموعود، ولم يظهر بعد السيد المسيح نبي صَدَقَت عليه الصفات الموعودة غير محمد — عليه السلام — وكلام السيد المسيح في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا يبين للتلاميذ «أنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيئة، وعلى بر، وعلى دينونة. فأما على خطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين، وإنَّ لدي أمورًا كثيرة أقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوها الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى الحق جميعه؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية. وذاك يمجدني؛ لأنه يأخذ مما لي ويخبركم، وكل ما للأب فهو لي؛ لهذا قلت: إنه يأخذ مما لي ويخبركم، وبعد قليل لا تبصرونني …»
وقد جاء نبي الإسلام ممجدًا للسيد المسيح، يسميه روح الله، ويجدد رسالته؛ لأنها رسالة الله.
وبعد تأويلات شتى من قبيل ما تقدم، تختتم الجماعة الأحمدية بحثها بالإشارة إلى ما جاء في الإصحاح الثالث من أعمال الرسل، الذي ينبئ عن تتابع النبوءات من صمويل إلى السيد المسيح بظهور نبي — كموسى الكليم — صاحب شريعة يحقق الوعد لأبناء إبراهيم، ويبارك جميع قبائل الأرض، ويكون هذا النبي من إخوة بني إسرائيل لا منهم، فهو من ذرية إسماعيل لا من ذرية إسحاق.
•••
يعتمد المؤلفان على الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين؛ إذ جاء فيه أنَّ أبناء إسماعيل سكنوا «من حَويلة إلى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو آشور»، فهم إذن سكان الحجاز؛ لأن الحجاز هو الأرض التي بين شور وحويلة؛ إذ كانت حويلة في اليمن، كما جاء في الإصحاح العاشر: «إنَّ يقطان ولد الموداد، وشالف، وحضرموت، ويارح، وهدورام، وأوزال، ودقلة، وعوبال، وأبيمايل، وشبا، وأوفير، وحويلة، ويوباب، جميع هؤلاء بنو يقطان» سكان الأرض اليمانية.
ويعتمدان كذلك على وعد إبراهيم الخليل في سفر التكوين؛ «لأنه بإسحاق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضًا سأجعله أمة لأنه نسلك» … وإنما شرط الوعد لأبناء إسحاق باتباع وصايا الرَّب، وألا يعبدوا إلهًا غيره، وإلا فهم يبيدون سريعًا عن الأرض الجيدة، كما جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر التثنية. وقد عبد القوم أربابًا غير الله، واتخذوا الأصنام والأوثان، كما جاء في مواضع كثيرة من كتب العهد القديم.
ومما اعتمد عليه المؤلفان رؤيا النبي دانيال.
وفي الإصحاح التاسع منها يقول: «سبعون أسبوعًا مقضية على شعبك وعلى مدينتك المقدسة؛ لتكميل المعصية، وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتى بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة، ولمسح قدوس القديسين؛ فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا يعود ويُبنى سوقٌ وخليج في ضيق الأزمنة، وبعد اثنين وستين أسبوعًا يقطع المسيح. وشعب رئيس آتٍ يخرب المدينة والقدس، وانتهاؤه بغمارة، وإلى النهاية حرب وخراب … وعلى جناح الأرجاس.»
وهذه الخاتمة هي التي تتم، كما جاء في سفر أشعيا، «على يد شعب بعيد من أقصى الأرض»، أو كما جاء في سفر التثنية: «إنَّ الرَّب يجلب أمة من بعيد من أقصى الأرض … ثم يردهم إلى مصر في سفن.»
وقد تم ذلك حين استدعى الرومان حاكم بريطانيا الكبرى، ومعه جيش نكل باليهود، وحمل طائفة منهم أسرى إلى مصر، وطائفة إلى رومة من طريق البحر سنة ١٣٢، فلم تنته حرب الرومان سنة ٧٠ ميلادية، بل جاءت بعدها تلك الحرب التالية مصدقة لنبوءة الدمار على يد القادم من بعيد، ونبوءة النقل على السفن إلى الديار المصرية وما وراءها.
يقول المؤلفان، ويعتمدان في ذلك على إجماع الشراح: إنَّ اليوم من أسابيع دانيال سنة، وإننا إذا أضفنا أربعمائة وتسعين سنة إلى ١٣٢، فتلك سنة ٦٢٢ التي هاجر فيها النبي — عليه السلام — إلى مدينة يثرب، وبعد أربع عشرة سنة دخل جيش الإسلام القدس الشريف، وبنى المسجد الأقصى في مكان الهيكل. وكان الفرس قد ملكوا فلسطين أربع عشرة سنة، أباحوا فيها لليهود إقامة شعائرهم، ثم عاد الرومان وتلاهم المسلمون. فكانت السنون التي مضت بعد الهجرة النبوية مقابلة لتلك السنين التي ارتفع فيها الحجر عن اليهود على عهد الدولة الفارسية.
•••
هذه العلامات إنما هي نماذج لأضعاف أضعافها لم نحصرها؛ لأنها تستغرق مئات الصفحات، ولا يلزمنا حصرها جميعًا؛ لأن الأمثلة المتقدمة تكفي للتعريف بها، وإن لم تجمعها بحذافيرها. ونحن أمام هذه البحوث المستفيضة نتوخى فيها الحد الوسط بين الفضول، وهو جمع هذه البحوث كلها في هذه الرسالة، التي لا تتوقف على العلم ببحوث — العلامات والطوالع جميعًا — وبين النقص، وهو إهمال هذه البحوث كل الإهمال في رسالة تدور على بيان مقدمات النبوة الإسلامية، وعلى الآراء المختلفة في شرح ما سبقها من هذه المقدمات. ومهما يكن من رأي القارئ في هذا العصر، فالرأي الذي رآه الناس منذ ألوف السنين — ولا يزالون يرونه — لا بد أن يكون له مكانه التاريخي ودلالته النفسية في هذا السياق.
ولسنا هنا بصدد الإسهاب والتفصيل في نقد الأساليب التي يعتمدها الباحثون في حلِّ الرموز، أو خلق هذه الرموز على الأصح في بعض الأحيان، ولكننا نوجز فنقصر التعقيب على مقطع الآراء الذي لا يطول عليه خلاف بين المنصفين، فكل من راجع العلامات النبوية في كتب الديانات من أقدمها قبل موسى وعيسى ومحمد — عليه السلام — إلى يومنا هذا، يرى ولا شك أنَّ العلامات التي لخصناها هنا من أقواها وأوضحها، وأقلها اعتسافًا واستكراهًا للألفاظ والتراكيب على غير معانيها، وإنما ننظر إليها على كل احتمال مفروض فلا نرى أنها تغني عن الدلائل الكونية، ولا نعلم أنَّ قيام الدعوة المحمدية قد اعتمد عليها عند أحد من المسلمين الأولين، أو عند أحد من الذين دانوا بالإسلام في الزمن الحديث.
فإذا فرضنا أنَّ التخريج صحيح في كل ما أورده الباحثون المتقدمون وغيرهم؛ فإنَّ هذه العلامات لم تنفع أحدًا من الذين كانوا يقرءون التوراة في عهد الدعوة المحمدية، ولم نعلمْ لهم موقفًا من الدعوة غير اللجاجة والمكابرة، والاشتداد في الإنكار على نحوٍ لم نعلمه من الجاهليين والذين لم يطلعوا على حرف من كتب العهد القديم. وإذا قدَّرنا أنَّ هذه العلامات لم تردْ قط في كتاب سابق للدعوة المحمدية لم يكن ذلك مما يضير هذه الدعوة، أو يصدها عن طريقها، أو يسلبها وسيلة من وسائل الإقناع والذيوع التي اعتمدت عليها.
هذا على تقدير الصحة والصواب في كل تخريج، وفي كل علامة مذكورة مشروحة، فأمَّا على غير هذا التقدير فلا حاجة بنا إذن إلى تعقيب طويل أو قصير.
ولا ندع الكلام على النبوءات الغيبية حتى نقرر فيها الرأي الذي يسلمه المنصفون، ولا يجرؤ أحد على إنكاره باسم العلم، أو باسم المنطق، أو باسم القياس الصحيح.
فما من أحد يجرؤ على أنْ يقول — باسم العلم — إنَّ الإلهام بالغيب مستحيل؛ لأنه إذا جزم باستحالته وجب عليه قبل ذلك أن يجزم بأمور كثيرة لا يستطيع عالم أمين أن يقررها معتمدًا على حجة أو سند قويم.
يجب على العالم الذي يجزم باستحالة الإلهام بالغيب أن يقررَ لنا أنه عرف حقيقة الزمن، وعرف — من ثم — حقيقةَ المستقبل، ويجب عليه مع ذلك أن يقررَ تجريدَ الكونِ من عنصر العقل غير عقل الإنسان والحيوان.
فما هي حقيقة الزمن؟ هل هو موجود في الماضي والحاضر والمستقبل، أو هو يوجد لحظة واحدة ثم يزول؟ وما هي هذه اللحظة الواحدة؟ وما مدى إحاطتها بالبعيد والقريب من الأمكنة الشاسعة في هذه الأكوان؟ وهل المستقبل موجود الآن؟ أو هو عدم يوجد لحظة بعد لحظة؟ وكيف يوجد العدم بعد أن لم يكن له وجود؟
إنَّ العالم الذي يجزم في قول من هذه الأقوال باسم العلم، يدَّعى على العلم كذبًا، وينم على عقل ضيق لا يصلح للنظر في هذه الآفاق.
فإذا كنَّا لا ننفي وجود المستقبل نفيًا مقطوعًا به مستندًا إلى حجة أو بينة، فالغيب غير مستحيل، والعلم به لا يدخل في باب الممنوعات أو غير المعقولات.
وإذا كان عنصر العقل في هذه الأكوان أكبر من أن يحصره رأس الإنسان وحده، فانتقال المعرفة منه إلى عقل الإنسان جائز جدًّا، أو جائز على الأقل كجواز الانتقال بين الأفكار على تباعد الأمكنة والعقول. ولا ندعي أنَّ هذا الانتقال الفكري بين عقول الناس قد ثبت في هذا الزمن ثبوتًا قاطعًا في جميع التجارب والمحاولات؛ فإنَّ هذا الانتقال — المسمَّى بالتلباثية — يصيب ويخطئ، ويكفي أنه لم يبطل كل البطلان باعتراف الملحدين والماديين إلى جانب المتدينين والمؤمنين.
فإذا كان وجود المستقبل لم يبطل، فكيف يبطل العلم بما جرى فيه؟ إنه قد يبطل إذا تحقق بالبينة أنَّ عنصر العقل وراء عقل الإنسان مستحيل، فإذا كان وجود هذا العقل الأكبر لم يمتنع، ولم يدخل في باب المستحيلات، فكل دعوى هنا للجزم بإنكار الغيب وإنكار العلم به، أو الإيحاء به إلى إنسان من الناس، فإنما هي دعوى تهجم على الواقع، ولا يكفي أن يقال فيها: إنها تهجم على الغيوب والمجهولات.
فليكن رأينا إذن في تخريجات الباحثين عن الطوالع والعلامات ما يكون، فإنَّ هذا الرأي لا يبطل الإيمان بالغيب إلا على لسان مجازف يخبط بالقول حيث يجهل المدى الذي يخوض فيه. وإنما نقبل تلك التخريجات أو لا نقبلها لأن الباحثين فيها أصابوا أو أخطئوا في التخريج والتأويل، وإنما نقبلها أو لا نقبلها كرة أخرى لأن قيام الدعوات النبوية متوقف عليها أو غير متوقف عليها، بل ماضٍ في سبيله على اختلاف هذه العلامات.
أما الإنباء بما في الغيب بمشيئة العالم به، والقادر عليه، فلا يمنعه علم ولا منطق ولا تجربة قاطعة من تجارب العيان.