الجزيرة العربية قبل البَعْثة المحمدية
كان في الجزيرة العربية مجوس ويهود ونصارى، وعرف أبناء الجزيرة هذه الأديان من طريق القدوة الفردية في رحلاتهم ومبادلاتهم مع الأمم التي تحيط ببلادهم، كما عرفوها من طريق الدعوة العامة التي يعززها سلطان الرؤساء على نحو ما حدث في أرض غسَّان والحيرة ونجران.
ويقول ابن قتيبة: إنَّ المجوسية كانت معروفة في قبائل تميم، ومنهم زُرارة بن عدس وابنه حاجب، وقد تزوج ابنته ثم ندم … ويُرْوَى أنها كانت شائعة بين قبائل البحرين عامة على مقربة من فارس، وأنَّ لقيط بن زرارة — كما جاء في ابن الأثير — تزوج بنته دُخْتَنوس، وسماها بهذا الاسم الفارسي ومات عنها، فقال وهو يجود بنفسه:
والأغلب على الظن أن المجوسية شاعت في هذه القبائل لأنها كانت سهلة هينة عليهم، لا تكلفهم بناء الهياكل ولا نحت الأصنام، ولا ينكرون في عبادتهم للنار شيئًا؛ لأن إشعال النيران للقِرَى والاستسقاء وإشهار الحلف لم تكن مجهولة في البادية العربية، ولعلهم سبقوها إلى عبادة بعض الكواكب؛ لأنهم كانوا أحوج إلى رصد الأنواء والاهتداء بالنجم في سفر الليل، حتى جعلوا له اسمًا خاصًّا من السرى والإدلاج وغيرهما من الرحلة في سائر أوقات الظلام.
ولعل أحدًا منهم لم يكن يلتفت إلى مجوسية المجوس؛ إلا حين يحدث الزواج بالمحارم التي لا يحلها عامة العرب، فأما فيما عدا ذلك فقد كانت مراسم الدين عادات كغيرها من عادات البداوة في الأعراس والمآتم، وتعظيم الأسلاف والأرواح، لا ينكرها المجوسي ولا اليهودي ولا النصراني من عرب الجاهلية.
وإذا كان عرب البحرين قد عرفوا المجوسية، فقد عرفوا الصابئين الذين كانوا يقيمون على مقربة من بلادهم، ولكنهم لم يقتدوا بهم في عقيدتهم لكثرة قيودها وأشراطها، وكتمان الصابئين ما كانوا يؤمنون به مخالفًا لمن حولهم، وقد كانوا يخالفون كل دين في أشياء ويحالفونه في أشياء، ويجنحون إلى العزلة والاعتكاف، فلا يصل إلى أسرارهم إلا من تعمد البحث عنها والنفاذ إليها من طلاب المعرفة والمتنسكين والمتحنفين، والظاهر من أصول كتابتهم النبطية أنَّ الصلة بينهم وبين نبط الحجاز الشمالي عن طريق العراق والعقبة، كانت أوثق وأقرب من صلاتهم بسكان البحرين والشواطئ اليمانية، ولهذا وُجِدَ فيهم من ينتمي إلى جدٍّ يسمونه كاظم بن تارح، يزعمون أنه أخو إبراهيم الخليل.
وكيفما كانت علاقة العرب بموطن الصابئة، فلم توجد بين العرب قبيلة كبيرة تدين بملة الصابئة كما دانت تميم بالمجوسية؛ لأنه هذه الملة الصابئية بطبيعتها لا تنتقل إلى طائفة كبيرة بعيدة من موطنها على موارد الماء، وإنما ينتقل إليها فرد أو أفراد يفضلون عقيدتها على العقائد الوثنية من حولها. ولا يخفى شأن الارتباط بالمكان في العقيدة الصابئية؛ فإنَّ اشتراط القرب من الماء فريضة من فرائضهم العامة، واسمهم الأول في أصله مأخوذ من سبح لا من سبأ التي ينتمي إليها بعض قبائل اليمن، ولا من صبأ بمعنى ارتد عن الدين، وذلك أرجح الآراء فيما قيل عن أصول هذه الأسماء.
وكانت اليهودية أعم انتشارًا في الجزيرة العربية من المجوسية؛ لأن المجوسية بقيت محصورة في عشائر من العرب من سكان بين البحرين، ولكن اليهود كانوا يهاجرون بجملة قبائلهم من أرض كنعان كلما أصابهم القمع والتشريد من فاتح جديد، وقد هاجر بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل جملةً واحدةً إلى يثرب على رواية الأغاني «بعد أن ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعًا بالشام».
قال صاحب الأغاني: «لما قدم بنو النضير وقريظة وبهدل المدينة نزلوا الغابة، فوجدوها وبيئة فكرهوها، وبعثوا رائدًا أمروه أن يلتمسَ لهم منزلًا سواها، فخرج حتى أتى العالية — وهي بطحان ومهزور — واديان من حرة على تلاع أرض عذيَّة بها مياه عذبة تنبت حر الشجر، فرجع إليهم فقال: قد وجدت لكم بلدًا طيبًا نزهًا إلى حرة، يصب فيها واديان على تلاع عذيَّة ومدرة طيبة في متأخر الحرة، فتحول القوم إليها من منزلهم ذلك.
فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، وكانت لهم إبل نواعم فاتخذوها أموالًا، ونزلت قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور، فكانت لهم تلاعة وما سقى من بعاث وسموات، فكان ممن يسكن المدينة، حتى نزلها الأوس والخزرج، من قبائل بني إسرائيل بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو الفصيص، فكان يسكن يثرب جماعة من أبناء اليهود فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود … وكان هناك معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب، منهم بنو الحرمان حي من اليمن، وبنو مرتد حي من بلى، وبنو نيف حي من بلى أيضًا، وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني الحارث بن بهثة، وبنو الشطبة حي من غسَّان.»
ولم ينزل اليهودُ بغير المدن والقُرى التي تحميهم فيها الآطام والأبنية.
فنزلوا تيماء وفدك وخيبر، واشتغلوا بالتجارة والصناعة في المدن، وزرعوا الأرض حولها للمرعى والاتجار بمحاصيلها، واختاروا من التجارة أيسرها على غير المحاربين؛ لأنهم لم يقدروا على حراسة القوافل الكبيرة التي كانت تحمل أحيانًا — كما جاء في الطبري — على أكثر من ألفي جمل، فاستغلوا المال، وشاركوا في قروض الربا والوساطات، ولم ينسوا قط أنهم غرباء في بلد غريب، واجتنبوا المزاحمة في التجارة، فلم يكن لهم شأن بمكة دون سائر المدن؛ لأنها كانت مستقلة بالتجارة على طريقها في أيدي قريش، ولكن يقال في روايات غير حاسمة: إنَّ بطونًا من نمير وكنانة وكندة وبني الحارث عرفت اليهودية من جوارها لطريق المدن التي سكنها اليهود.
وموضع النظر الكثير ما يقال عن دخول اليهودية إلى اليمن، وقيام دولة يهودية فيها بإمرة زرعة المكني بذي نواس؛ فلا خلاف في وجود اليهود بين عرب الجنوب من أهل اليمن، ولكن الخلاف في تاريخ دخول اليهودية تلك البلاد ووسيلة دخولها؛ لأن المعهود في بني إسرائيل المتأخرين أنهم كانوا لا يدعون أحدًا إلى دخول دينهم؛ لإيثارهم أنفسهم بوعد إبراهيم الخليل، وحصر هذا الوعد في ذرية إسحاق بن يعقوب.
وقد حدث في عهد هركانوس الأول المكابي أنه أغار على الأدوميين وأكرههم على التهود فتهودوا، وقامت منهم دولة هيرود حليفة الرومان. وكان ذلك في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد حين ضعف إيمان اليهود برجعة الدولة الدنيوية إلى أرض الموعد، وكان تدبيرًا حربيًّا سياسيًّا دعت إليه الرغبة في تأمين الطريق ومخالفة الرومان؛ لدرء الخطر من ناحية فارس وحلفائها من جانب الصحراء.
فإذا كان اليهود قد أكرهوا قبائل اليمن على التهود، فمن أين لهم القوة التي تضارع قوة المكابيين في الشام وفلسطين؟ وإذا كانوا قد هودوا تلك القبائل بالتبشير والإقناع، فكيف قبلوا أن يشركوا معهم أناسًا من المطرودين المحرومين في وعد إبراهيم الخليل؟
إنَّ الاحتمال الراجح بين هذه النقائض أنَّ اليهود وصلوا إلى اليمن مهاجرين متفرقين، وربما بدأت هذه الهجرة من أيام السبي البابلي لقرب بابل من طريق البحرين إلى اليمن، فإن لم تكن موغلة هذا الإيغال في القدم، فقد يكون مبدؤها عند تشتيت اليهود في أوائل القرن الثاني للميلاد، ثم استمرت نحو ثلاثمائة سنة إلى أواخر الدولة الحميرية، ثم وجد اليهود الحميريون أنفسهم معرضين لخطر واحد أمام تحالف الحبشة والروم ونصارى اليمن بنجران وغير نجران، فعقدوا الحلف المقابل لهذا الحلف بينهم وبين فارس وأعوانها من عرب الشواطئ الشرقية.
ومن المعلوم أنَّ الدولة الفارسية كانت تنازع الحبشة والروم في أرض اليمن، وكانت ترحب في بلادها باليهود بعد انقلابهم على الدولة الرومانية، واشتهارهم بمعاداتها وموالاة أعدائها، وكانت ترحب بالنصارى الذين اضطهدهم الرومان الوثنيون، ولم تزل ترحب بعد ذلك بالنصارى من أتباع المذاهب التي وقع عليها التحريم والتشريد بعد تنصر العواهل الشرقيين في القسطنطينية، ولم تقبل نصارى الحيرة إلا لعلمها بمنافستهم لنصارى غسَّان من أتباع الرومان، وانتمائهم إلى مذهب النسطوريين.
فالدولة الحميرية على عهد ذي نواس لم تكن دولةً يهوديَّة يقبلها اليهود، ويدخلونها معهم في عداد شعب الله المختار، ولكنها كانت تُحالِف اليهود وتعمل على الاشتهار بمحالفتهم؛ لإقناع فارس بولائها في النزاع بينها وبين الحبشة والروم، واشتهرت من ثمة بالتهود لأنها أيدت اليهود وتنكرت للنصارى؛ حذرًا من معاونتهم — خفية أو جهرة — لشركائهم في العقيدة أبناء الحبشة. ولو كان اليهود هم القوة التي قامت عليها دولة حمير لما صاروا إلى القلة التي غمرتها الكثرة العربية في القرن الخامس للميلاد.
على أنَّ الصبغة اليهودية التي بقيت مع يهود يثرب في معيشتهم وصناعاتهم ومعاملاتهم، ومعرفة بعضهم بالكتب العبرية القديمة، ولياذهم بالآطام أدل عليهم من تقديرات المؤرخين على الفرض والتخمين، وما أشبه قينقاع أن ترجعَ في أصلها إلى كوهنكا! وما أبعد اسم النضير من أسماء العرب الأقدمين! لقد قيل: إنهم بطن من بطون جذام من أبناء عم اللخميين، فهل كان في جذام من يعرف العبرية كما عرفها يهود يثرب؟ وهل كان في وسعهم أن ينشئوا المدرسة العبرية التي ظلت إلى عصر الدعوة المحمدية، يسميها العرب بيت المدارس، ويسميها اليهود (بيت هام مدراس)؟
وقد كان يحسب لهؤلاء اليهود أثر في مقدمات الدعوة الدينية، أو مقدمات النهضة القومية الإنسانية، بعبارة أخرى لو أنهم أفادوا العرب من حولهم دروسًا في التفكير والأخلاق تكشف لهم عن سخف الجاهلية، وتهيئ ضمائرهم لما هو أصح منها، وأقرب إلى التقدم والهداية. هذا، أو تكون حياتهم بين العرب قدوة صالحة يقتدون بها في معاملاتهم، وعلاقة بعضهم ببعض في السلم والحرب والمحالفة والمخالفة.
ولكنهم لم يصنعوا هذا ولا ذاك، وصنعوا في أكثر الأحيان نقيض هذا وذاك؛ لأنهم لم يكترثوا لأمر المتهودين من قبائل العرب إلا لينتفعوا بولائهم وحراستهم لتجارتهم في الطريق، فلم يكن بين الجاهليين المتهودين والجاهليين الوثنيين فرق في العادات والأخلاق، إلا أن يكونَ فرق الشجاعة والرجولة في جانب الوثنيين يمتازون به على الذين تعودوا اللياذ بالآطام، والتعلق في حربهم وسلمهم بذرائع المساومة والنفاق.
وقد كان يهود يثرب قدوة سيئة في كل علاقة بينهم وبين العرب، أو بينهم وبين أنفسهم في جوار المدينة؛ فقد كانت سياستهم مع قبائل العرب قائمة على الإيقاع بينها، وإثارة الأحقاد في المتخاصمين منهم كلما جنحوا إلى النسيان، وتعاهدوا على الصلح والأمان. ولزم اليهودَ أنفسهم داؤهم القديم من الشقاق والمشاكسة حيثما اجتمعوا في مكان واحد؛ فدبَّت الخصومةُ بين بني قينقاع من جانب، وبين بني النضير وبني قريظة من الجانب الآخر.
ولم يتفق بنو النضير وبنو قريظة على شيء غير حسدهم لبني قينقاع، وعملهم على الوقيعة بين قبائل الأوس والخزرج، وهي كثيرة في جوار المدينة، وقد كانوا ينفسون على بني قينقاع أنهم كانوا يقيمون في قصورهم داخل المدينة، ولا مأوى لبني قريظة غير ضاحية المشرق، ولا لبني النضير غير ضاحية المغرب. فلما نشبت الحربُ بين الأوس والخزرج تفرق اليهود بين الحزبين، فكان بنو قينقاع مع الخزرج، وكان بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس.
ولم يتحرك أحد من النضيريين والقرظيين لنصرة بني قينقاع حين أجلاهم المسلمون عن المدينة، ولا تحرك أحد من القرظيين لنصرة النضيريين حين قُضي عليهم بالجلاء؛ لغدرهم بالنبي — عليه السلام — وصعود أحدهم؛ عمر بن جحاش، على جدار يجلس النبي تحته؛ ليلقى عليه بصخرة من أعلاه … وإنما وصفتهم الآية بوصفهم هذا، حيث جاء في القرآن الكريم من سورة «الحشر» أنهم لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ [سورة الحشر: ١٤].
وليس في خليقة من هذه الخلائق قدوة صالحة تعلم الجاهليين ما يحسن بهم أن يتعلموه، ويهتدوا به إلى طريق مستقيم.
ولقد عاش يهود يثرب ما عاشوا في جزيرة العرب ولم يؤثر عنهم قط سعي في سبيل مطلب من المطالب العامة والخاصة، غير الاستكثار من الربح المشروع وغير المشروع بكل ما استطاعوا من حول وحيلة، فلما جهر النبي بدعوته خذلوه من مبدأ الأمر، وأوفدوا وفودهم إلى كفار قريش يعرضون عليهم المؤازرة والمحالفة، واتخذوا خطتهم التي ثابروا عليها بعد ذلك، ولم يعدلوا عنها إلى حين إجلائهم عن حدود الجزيرة، وخلاصة هذه الخطة تثبيت الوثنية الجاهلية، وإيثارها على دعوة التوحيد والتنزيه، التي جاءت بها رسالة الإسلام، وشملت بها تعظيم العقائد الكتابية وعقائد التوحيد جملةً منذ عهد إبراهيم الخليل.
وكان في سعيهم للتأليب على هذه الدعوة بعض الأناة والحيطة قبل الهجرة النبوية إلى المدينة؛ لأنهم كانوا يتراوحون في مساعيهم بين الحذر من عاقبة الدعوة، وبين الأمل في القضاء على تجارة قريش وانفرادهم بعد قريش بتجارة الحجاز كله؛ من اليمن إلى مكة إلى المدينة إلى الشام. فلما هاجر المسلمون القرشيون إلى المدينة، وأقاموا لهم سوقًا بجوار سوق اليهود، أرادوا أن يفسدوا كل ما صنعه الإسلام حتى الصلح بين الأوس والخزرج، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، واستيئسوا في الكيد والدس، ولم يحرصوا على شيء غير استبقاء الربح، والتأليب على كل إصلاح وكل مصالحة في غير هذا السبيل.
فإذا كان ليهود يثرب أثر في مقدمات الدعوة المحمدية، فهو أثر أسوأ من أثر الجاهليين في المقاومة والعناد، وإذا استفاد الباحث من تاريخ هؤلاء القوم توضيحًا لتلك المقدمات، فإنما تأتي هذه الفائدة من جانب آخر لا فضل لهم فيه؛ فإنهم كانوا تصحيحًا عمليًّا لأخطاء المستشرقين الذين أنكروا وحدة اللغة العربية قبل الإسلام في عصر المعلقات والقصائد الجاهلية.
ولقد كانت وحدة اللغة من مقدمات الدعوة الإسلامية التي خاطبت العرب جميعًا بلسان يعرفونه من قبل عصر الإسلام، فجاء بعض المستشرقين بوهم من أوهامهم يشككون في وحدة هذه اللغة، وينكرون اتفاق الجزيرة على التخاطب بلسان القرشيين والمكيين، وزعموا أنَّ وحدة هذه اللغة ممتنع لاختلاف لسان العدنانيين والقحطانيين.
فاليهود في يثرب أصدق جوابٍ على هذه الأوهام؛ لأنهم غرباء عن الجزيرة العربية، دخلوها في القرن الأول أو الثاني للميلاد، ولا يجوز الشك في ذلك، ولا القول بأنهم عرب تهودوا، كما قال بعض المؤرخين على غير علم ولا روية فيما يصح أن يقال؛ فإن القول بذلك يستلزم منا أن نفرضَ أن العرب الأميين تطوعوا للتحول إلى اليهودية، ثم تعلموا العبرية وتفقهوا في كتب التوراة لينقطعوا عن أسلافهم، وينضووا إلى قوم مخذولين في بلادهم لا يُسلِّمون لأحد من الأمم بأنه أهل للدخول معهم في عداد شعب الله المختار؛ فهذا من أغرب الفروض التي لا تثبت بغير دليل قاطع، فضلًا عن الثبوت بغير دليل.
وليس في هجرة اليهود من فلسطين إلى بلاد العرب غرابة أو مناقضة لوقائع التاريخ بعد تشتيتهم في القرن الأول أو الثاني للميلاد، وقد كان مقامهم على الطريق بين تيماء والمدينة للتجارة والزراعة، والاشتغال بغير صناعات القبائل العربية أشبه شيء أن يكون على تلك الطريق خاصة دون الطريق الأخرى، التي يحميها النبط وقريش، ولا يستطيع اليهود المهاجرون أن يقتحموها على أصحابها وهم مشردون مستضعفون، مع العداء بينهم وبين النبطيين، وتعصب النبطيين على إسرائيل دينًا ولغة وميلًا في السياسة والولاء. وعلى جميع هذه الفروض التي لا تقبل الشك، تبقى هناك الحقيقة التي لا تختلف مع اختلاف القول في أصول يثرب وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى على الإجمال.
فهل هؤلاء عرب يكتبون؟
لو كانوا كذلك لقد كانوا خلقاء أن يحفظوا في صحفهم كلامًا عربيًّا مما قبل الإسلام بثلاثة قرون يخالف العربية الموحدة في عصر الإسلام، إن صح أنَّ العربية لم تكن موحدة في أيام شعراء المعلقات، وبعض هؤلاء الشعراء لم يسبقوا عصر الإسلام بأكثر من مائة عام.
وكانوا خلقاء أن يحفظوا بالكتابة العبرية لهجة غير اللهجة الموحدة، التي يشك المستشرقون في سبقها للإسلام إلى عصر أولئك الشعراء، أو كانوا خلقاء أن نعلمَ من كتابتهم شيئًا يؤيد ذلك الشك نوعًا من التأييد.
أما إذا كانوا على القول الراجح — بل القاطع — يهودًا دخلوا الجزيرة بلسان غير لسانها، وتكلموا الآرامية أو الأدومية أو العبرية، ثم تعلموا اللغة العربية الحجازية، فهذا التوحيد الذي تم بين اللغة الحجازية وبين الآرامية أو الأدومية أو العبرية ليس بالمستغرب أن يتمَّ بين لهجة العرب في الجنوب، ولهجة العرب في الحجاز وسائر أطراف الجزيرة، فقد أقام عرب اليمن في الجزيرة واتصلوا بالحجاز زمنًا أطول جدًّا من مقام اليهود المهاجرين منذ القرن الأول أو الثاني للميلاد.
ولم يصل إلينا شيء من لغة اليهود الذين أقاموا بجنوب الجزيرة، أو اليهود الذين تحالف معهم ذو نواس في نجران، ولكنَّ اليهودَ الذين وفدوا إلى الحجاز بعد البَعْثة النبوية كان منهم كُتَّاب ومؤرخون مطلعون على تواريخ حمير وتواريخ أسلافهم العبرانيين، وكان منهم كعب بن ماتع الحميري الملقب بكعب الأحبار، وكان منهم وهب بن منبه الصنعاني، الذي قال ابن خلكان: إنه رأى كتابًا له عن ملوك حمير وأخبارهم وأشعارهم في مجلد واحد. ووصف هذا الكتاب بأنه مفيد.
وقد كان كعب ووهب من المغربين في طلب النوادر، فلم يذكرا لنا زمنًا شهداه، أو شهده آباؤهم وأجداهم كانت فيه لغة قريش مجهولة في اليمن ومن جاورها. وأدنى من ذلك إلى عصر البَعْثة قدوم الوفود من اليمن إلى الحجاز، وذهاب الولاة من الحجاز إلى اليمن بإذن النبي — عليه السلام — ومنهم معاذ بن جبل وعليُّ بن أبي طالب ومن كان يصحبهما في عمل الولاية والتعليم، فلم نسمع أنَّ وفود اليمن على النبي جهلوا ما سمعوه، أو نطقوا بكلام لا يفهمه أهل الحجاز، وهؤلاء قد لقنوا لغاتهم من آبائهم، فلا يفوتهم ما اختلف من كلامهم إذا كان ثمة اختلاف.
وأقدم من البَعْثة المحمدية رحلة الصيف ورحلة الشتاء، وليس في أخبار هذه الرحلات إلماع إلى تفاهم قريش مع أهل اليمن بلغة غير اللغة القرشية في الجيل السابق للبعثة والجيل الذي تقدمه، ومن البعيد جدًّا أن يغيب عن ذاكرة العربي حديث جيلين قبل جيله وقد كانت أخبارهم ورواياتهم وأنسابهم وأمثالهم كلها قائمة على الحفظ، وتسلسل الرواية، والإسناد من جيل إلى جيل. فإذا كانت لغة الحجاز شائعة عامة على مدى الذاكرة في عصر البَعْثة المحمدية، فلا أقل من ثلاثة أجيال تقدر لهذا الشيوع وهذا التعميم، وترجع بنا هذه الأجيال إلى أقدم الأوقات التي أُسند إليها نظم المعلقات، فلا نستغرب نظمها باللغة التي يفهمها العرب من الجنوب إلى الشمال.
ولقد سمع النبي — عليه السلام — قصيدة كعب بن زهير، وقد نظمها — ولا شك — بلغة أبيه زهير بن أبي سلمى، وكان زهير من أسرة شاعرة مسبوقًا إلى النظم بتلك اللغة، ولا يعقل أن يكون التغير في لغة النظم قد طرأ عليهم فجأة في مدى سنوات معدودات، فإذا بلغنا بالمعلقات عصر هرم بن سنان — ممدوح زهير — وما تقدمه بقليل، فليس من شعراء المعلقات من هو أقدم من ذلك بزمن طويل يمتنع فيه التوافق على النظم الواحد واللغة الواحدة.
ولا بُدَّ أن نذكرَ هنا أنَّ أوزان العروض لا تُخْلَق بين يوم وليلة، وأنَّ وزن قصيدة كعب ووزن قصيدة أبيه قد وجدا قبل عصر الشاعرين، ونظمت فيهما قصائد جيل أو جيلين على الأقل قبل ذلك التاريخ، ولو أنَّ هذه الأوزان وسعت شعرًا غير شعر اللغة الحجازية لما غاب خبره ولو غاب لفظه ومعناه.
ومن عسف القول — ولا ريب — أن نجزمَ بامتناع هجرة اليمانية إلى ما وراء حدود اليمن في الجزيرة العربية، فإذا جاز أن تهاجر منهم قبيلة واحدة، فحكم القبيلة في مسألة اللغة كحكم القبائل العشر أو العشرين. ولمن شاء أن ينكر نسبة البكريين أو التغلبيين أو الغساسنة إلى اليمن مستندًا إلى الدليل، أو غير مستند إلى دليل على الإطلاق، ولكنه لا يستطيع أن ينكر نسبتهم إلى اليمن، وينكر نسبة اللغة العدنانية إليهم في وقت واحد؛ فإنه بذلك ينكر نسبتهم إلى كل أصل معروف في الجزيرة العربية، ولا يأتي لهم بأصل غير تلك الأصول.
وإنَّ من ينكر انتقال قوم من اليمن إلى ما وراءها لينكر أمرًا غير قابل للإنكار في الجزيرة العربية، التي لم يثبت فيها تاريخ أثبت من تواريخ الرحلات على تباعد الأزمنة، وتبدل العوارض الجوية وطوارئ الخصب والجدب، والغلبة والهزيمة. وما من باحث ذي روية يعتسف البت بذلك الإنكار، ثم يجزم بحصر اليمانية في حدودهم منذ أحاطت بهم تلك الحدود؛ فمن العسف أن يقال: إنَّ اليمانية لم تبرح اليمن قط في العصور التي سبقت البَعْثة المحمدية.
وليس من العسف في شيء أن يقال: إنها برحتها على حسب الطوارئ وعوامل الجو والتاريخ، ولا داعية بعد ذلك لاستغراب التوافق بين اليمانية وأبناء الحجاز وتهامة وسائر الجزيرة في لهجة من اللهجات. فما دمنا نقدر بحكم البداهة أن اليمانية وجدوا في الجزيرة العربية وراء حدودهم، وتكلموا كما يتكلم المقيمون في جوارهم، فقد زالت المشكلة، ولم تكن هنالك في الحقيقة مشكلة تزال.
وليس أكثر من العسف الذي يلجأ إليه منكرو الوحدة في لغة الجزيرة قبل البَعْثة المحمدية بجيلين أو ثلاثة أجيال، وإنَّ اعتساف التاريخ هنا لأهون في رأينا من اعتساف الفروض الأدبية التي لا تقبل التصديق، فما من قارئ للأدب يسيغ القول بوجود طائفة من الرواة يلفقون أشعار الجاهلية كما وصلت إلينا، ويفلحون في ذلك التلفيق؛ إذ معنى ذلك «أولًا»: أنَّ هؤلاء الرواة قد بلغوا من الشاعرية ذروتها، التي بلغها امرؤ القيس والنابغة وطرفة وعنترة وزهير وغيرهم من فحول الشعر في الجاهلية.
ومعنى ذلك «ثانيًا»: أنهم مقتدرون على توزيع الأساليب على حسب الأمزجة والأعمار والملكات الأدبية، فينظمون بمزاج الشاب طرفة، ومزاج الشيخ زهير، ومزاج العربيد الغزل امرئ القيس، ومزاج الفارس المقدام عنترة بن شداد، ويتحرون لكل واحد «مناسباته» النفسية والتاريخية، ويجمعون له القصائد على نمط واحد في الديوان الذي ينسب إليه.
ومعنى ذلك «ثالثًا»: أنَّ هذه القدرة توجد عند الرواة ولا توجد عند أحد من الشعراء، ثم يفرط الرواة في سمعتها وهم على هذا العلم بقيمة الشعر الأصيل. وما من ناقد يسيغ هذا الفرض ببرهان، فضلًا عن إساغته بغير برهان ولغير سبب، إلا أن يتوهم ويعزز التوهم بالتخمين. وإنَّ تصديق النقائض الجاهلية جميعًا لأهون من تصديق هذه النقيضة التي يضيق بها الحس، ويضيق بها الخيال.
وشتان — مع هذا — النقائض التي يستدعيها العقل، ويبحث عنها إذا تفقدها فلم يجدها، والنقائض التي يرفضها العقل ولا موجب لها من الواقع ولا من الفكر السليم.
فهذه النقائض التي تحاول أن تشككنا في وحدة اللغة العربية قبل الإسلام يرفضها العقل؛ لأن قبولها يكلفه شططًا، ولا يوجبه بحث جدير بالإقناع.
فمما يتكلفه العقل إذا تقبلها أن يجزمَ — كما تقدم — بانقطاع عرب اليمن عن داخل الجزيرة كل الانقطاع، وأن يجزمَ ببقاء لغة قحطانية تناظر اللغة القرشية في الجيلين السابقين للبَعْثة المحمدية غير معتمد على أثر في ذاكرة الأحياء، ولا في ورق محفوظ، وأن يلغي كل ما توارثه العرب عن أنسابهم وأسلافهم، وهم أمة تقوم مفاخرها وعلاقاتها على الأنساب وبقايا الأسلاف، وأن يفترض وجود الرواة المتآمرين على الانتحال بتلك المَلَكة التي تنظم أبلغ الشعر، وتنوعه على حسب الأمزجة والدواعي النفسيَّة والأعمار، وأن يفهم أنَّ القول المنتحل مقصور على الأسانيد العربية، مبطل لمرجعها دون غيرها من مراجع الأمم التي صح عندها الكثير مما يخالطه الانتحال والكذب الصريح.
ومن النقائض التي يستدعيها العقل ويستلزمها، ويتخذ منها حجة الثبوت الواقع في جملته أن يحدث الاختلاف في الرواية، وأن يتعذر فيها الإجماع بين الرواة؛ فإن العقل لا يصدق الأقاويل التي يتفرق رواتها، ويطول العهد عليها، ويعول أصحابها على الذاكرة والإسناد، ثم تأتي متفقة في الجملة والتفصيل، ولا تتعرض مع الزمن وعوامل الأهواء للاضطراب والحذف والإضافة عن قصد، أو بفعل النسيان والإهمال.
فاختلاف الرواة إذن سبب من أسباب التصديق، واتفاقهم يدعو إلى الشك أو التكذيب.
وقد نسمع النقيضين في هذه الحالة فنرفضهما، ولا نرفض لباب الخبر ومغزاه؛ فقد سمعنا أنَّ عمرو بن كلثوم أو الحارث بن حلزة ألقى قصيدته في وقفة واحدة، وسمعنا أنَّ زهير بن أبي سلمى كان ينظم قصيدته في الحول، وتسمى قصائده من أجل ذلك بالحوليات، وقد نسقط هذه المبالغة كما نسقط تلك، ولا يلزم من ذلك أن نسقط الشعر الذي بولغ في وقت نظمه بين أقصى الطرفين.
وربما وقفنا على روايتين نصدقهما الآن عند النظر إلى الحقائق العصرية، ونعلم أنَّ تلفيقهما في الزمن الماضي جد عسير ولو أراده الملفقون، فمما يروى عن امرئ القيس أنه تعجب من إعراض النساء عنه مع وسامته ومكانته، وسأل إحدى النساء في ذلك فقالت له: نعم، ولكن لك عرقًا كأنه عرق كلب. ثم نقرأ أخبار وفاته فنعلم منها أنه أصيب قبل موته بقروح تساقط منها جلده، وسمَّى الحُلَّة التي كان يلبسها من أجل ذلك بذات القروح.
ومؤدي الروايتين معًا أنَّ الشاعر كان على استعداد للمرض الجلدي لفساد رائحة العرق الذي يفرزه، وأنه لم يزل حتى استشرى به الفساد في رحلته القصية، فظهر في تلك القروح، ويقترن ذلك بنوادره مع النساء المعرضات عنه، وغلبة الشاعر علقمة عليه في عيني امرأته، فلا يسهل على الناظر في جميع هذه الأخبار أن ينسب تلفيقها عمدًا إلى راوية واحد، ولا يسهل عليه أن يتلقاها متفرقة ثم يجردها من الدلالة التي تربط بينها على غير علم من الرواة المتفرقين.
وربما كذب الكثير من أخبار طرفة، ولم تكذب قصيدته التي تنم في جملتها على خلائقه التي تنوب عن تلك الأخبار، وتغنينا عن محاسبة الرواة على التصديق أو على التكذيب.
ومنهم من يقول: إنَّ التضحية تدل على عبادة الشمس؛ لأنها من الضحى … وما هي في وضعها إلا كالتغذية من الغداة، والتعشية من العشاء، والسحور من السحر، إلى غير ذلك من توقيت الوجبات والذبائح بميقاتها من الليل والنهار … ومنهم من يحسب أنَّ القصيدة من القصد، فيترجمها بالكلام الذي يراد معناه!
وقد تصدت منهم لهذا البحث الذي نحن فيه عن اللغة قبل نزول القرآن طائفة تقتحم هذه المباحث وهي أجهل بآلاتها من عامة الأميين.
ويتخذ منها قرينة على اقتباس القرآن بعض الآيات من أشعار الجاهليين.
ويضيف الدكتور العلَّامَةُ إلى هذه الأبيات أبياتًا أُخْرى كقول القائل:
قال الدكتور: «ومن الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنه لما كانت فاطمة بنت محمد تتلو هذه الآية، وهي اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: ١]، سمعتها بنت امرئ القيس، وقالت لها: إنَّ هذه القطعة من قصائد أبي، أخذها والدك وادعى أن الله أنزلها عليه، ومع أنه يمكن أن تكون هذه الرواية كاذبة؛ لأن امرأ القيس توفى سنة ٥٤٠م، ولم يولد محمد إلَّا في سنة الفيل؛ أي سنة ٥٧٠م، فلا ينكر أنَّ هذه الأبيات المذكورة واردة في سورة القمر، وفي سورة الضحى، وفي سورة الأنبياء، وفي سورة الصافات، وغاية الأمر أنه يوجد اختلاف طفيف في اللفظ وليس في المعنى؛ فوَرَد في القرآن: اقتربت، وفي القصيدة: دنت …
ومن البَيِّن الواضح أنه يوجد مناسبة ومشابهة بين هذه الأبيات وبين تلك الآيات الواردة في القرآن، فإذا ثبت أنَّ هذه الأبيات هي لامرئ القيس حقيقة، فحينئذ يصعب على المسلم توضيح كيفية وُرُودها في القرآن؛ لأنه يتعذر على الإنسان أنَّ أبيات شاعر وثني كانت مسطورة في اللوح المحفوظ قبل إنشاء العالم.»
ثم قال الدكتور يطالب العلماءَ المسلمينَ مع المعترضين والمشتبهين بأن يقيموا الدليلَ على أنَّ هذه الآيات مأخوذة ومقتبسة من القرآن، وأنها ليست من نظم امرئ القيس الذي توفي قبل مولد محمد بثلاثين سنة، ولكن يصعب علينا أن نصدق بأن ناظم هذه القصائد بلغ إلى هذا الحد من التهتك والاستخفاف والجرأة في أي زمن من الأزمان بعد تأسيس مملكة الإسلام، التي كانت متسعة الأطراف والأكناف، حتى يقتبس آيات من القرآن ويستعملها في مثل هذا الموضوع.
وأيسر ما يبدو من جهل هؤلاء الخابطين في أمر اللغة العربية قبل الإسلام وعلاقتها بلغة القرآن الكريم، أنهم يحسبون أنَّ علماء المسلمين يلقون في بحث تلك الأبيات وصبًا واصبًا؛ لينكروا نسبتها إلى الجاهلية، ولا يلهمهم الذوق الأدبي أنَّ نظرة واحدة كافية لليقين بإدحاض نسبتها إلى امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية.
وهذه النظرة الكافية هي التي تعيي الناقدين المستشرقين، وهي أصل وثيق من أصول النقد يعول عليه الناظر في الأدب كل التعويل، ولا يقدح فيه أن يتسع للجدل، وأن يجوز عليه الخطأ في القليل دون الكثير.
كذلك يتسع سبيل الجدل في إنكار خبرة الخبير بكتابة الخطوط، وكذلك يجوز الخطأ في محاكاة الكلمة، أو بضع كلمات، ولا يجوز في السطور والصفحات.
فإذا نظر خبير الخطوط في صفحة من الصفحات فقد تغنيه نظرة في الحكم عليها بالصحة أو التزييف، وربما جاز عليه أمر الكلمة والكلمات إذا لم يكن أمامه غير هذه الكلمة، أو هذه الكلمات للمقابلة والمضاهاة، ولكنه إذا حصل على تلك الكلمة المكتوبة عشر مرات أو عشرين مرة، لم يكن من اليسير أن ينخدعَ فيها كما ينخدع في الكلمة المفردة بغير تكرار، وعلى هذا المنوال يبدو الصحيح والزيف في الشعر الأصيل والشعر المدخول. وقد يجوز التزوير في الشطرة الواحدة أو البيت الواحد إذا امتنعت المقارنة بينه وبين أمثاله من تلفيق صاحب التزوير، ولكنه لا يجوز إذا كرر المزور الأبيات، ومثلت للناظر الناقد طريقته في تزوير هذه الأبيات المتفرقات.
تزوير الأدب الجاهلي مستحيل
أما المستحيل أو شبيه المستحيل، فهو تزوير أدب كامل ينسب إلى الجاهلية، ويصطبغ في جملته بالصبغة التي تشمله على تباين القائلين والشعراء، فإذا جمعنا الشعر المنسوب إلى الجاهلية كله في ديوان واحد، فمن المستحيل أو شبيه المستحيل أن نجمع ديوانًا يماثله من كلام العباسيين، أو كلام الأمويين المتأخرين، وإذا قلَّ الفارق بين الشعر المخضرم والشعر الأموي الأول والشعر الجاهلي؛ فتلك آية على صحة العلامات التي تميز الشعر الجاهلي، وعلى صحة القرابة بينه وبين الشعر الذي لم يفترق عنه افتراقًا بعيدًا بزمانه، وثقافة قائليه وبيئاتهم في المعيشة ومناسبات التعبير، فلا يتشابه الشعر الجاهلي والشعر المخضرم إن لم يكن بينهما ميزان مشترك، مع انتمائه إلى عشرات الشعراء الجاهليين والمخضرمين.
إنَّ الملامح الشخصية التي تميز بين الفرزدق والأخطل وجرير لم يكن لها ثبوت أوضح وأقوى من ثبوت الفوارق التي تميز بين امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وزهير. فمن يرى أنَّ خلق دواوين الفرزدق والأخطل وجرير في وسع راوية واحد، فقد سهل عليه أن ينسب شعر الجاهليين جميعًا إلى راوية أو رواة، ولكنه يذهب في الحالين مذهبًا لا سند له ولا سابقة من مثله في آداب الأمم، ولا نصيب له من الذوق الأدبي غير النبو والاستغراب.
وربما كان «سنكلر ثسديل» الذي مثلنا به لجهل المستشرقين باللغة والذوق الأدبي مثلًا صارخًا، كما يقال في التعبير الحديث، ولكن المثل الصارخ هو الذي يبرز الحقيقة مستعصية على اللبس والمكابرة، ويحيط بما دونه من الأمثلة التي تتردد بين الشك واليقين، وقد أتينا على طائفة منها لا تتخلف عن المثل الصارخ بشوط بعيد.
سوء فهم وسوء نِيَّة
والمعهود في جماعة المستشرقين أنَّ الكثيرين منهم يقرنون سوء الفهم بسوء النية؛ لأنهم يخدمون سياسة المستعمرين أو سياسة المبشرين المحترفين، أو ينظرون في بحوثهم نظرةَ الغربي الذي ينظر إلى الشرقي نظرة المتعالي عليه في حاضره وماضيه، غير أنهم — ما عدا القليل منهم — محدودون سطحيون يحومون حول المسائل الحسية، ولا يتوسعون في النظر أو يتعمقون وراء الظواهر التي يلمسها شاهد الحس لمسًا، فلا تخرج عنده من حدود ما يثبته أو ينفيه من وقائع العيان والسماع.
فغاية ما يقصدون إليه من أمر اللغة أنهم يلتمسون الأسناد المعتمدة عند أهلها، فيأخذونها بالشك والتجريح، وأنهم يهدمون الدعائم القائمة ليستجيزوا بعد ذلك كل ادِّعاء يدَّعونه، وكل إنكار ينكرونه من أصول اليقين والاطمئنان، وتشكيكهم في أسانيد اللغة من هذا القبيل لا يعدوه إلى مطلب بعيد من مطالب الإحاطة والاستيعاب، فهو كالمنازع الذي ينكر على صاحب الدار وثيقته، ولا يعدوها إلى أركان الدار وما في الدار، وتقديرهم لمسألة الشك في وحدة اللغة أقل جدًّا من قدرها الصحيح في مقدمات الدعوة المحمدية؛ إذ هي أصلح هذه المقدمات للدلالة على ما بعدها، وأصدق في التمهيد لنتائجها من مقدمات السياسة والأحداث الاجتماعية؛ لأنها المقدمة الوحيدة التي تمشي في طريق الدعوة المحمدية مساوقة لها، مترقبة لأوانها، ولا تكون الدعوة المحمدية بالنسبة إليها كأنها رد الفعل الذي يقاوم ما قبله، ويجري معه مجرى النقيض من النقيض.
الفخر باللسان العربي
إنَّ الشعور بالعربية والفخر باللسان العربي مقدمة لا بُدَّ منها للدعوة التي تواجه العرب بآية البلاغة في القرآن الكريم، وتروعهم بالمعجزة التي يحكونها إنْ استطاعوا، أو يحسبونها من قدرة الله.
مثل هذا التحدي بالبلاغة لا يحدث في أُمَّة لم تتأصل فيها مفخرة اللسان العربي والوحدة العربية جيلين أو ثلاثة أجيال، ولا بُدَّ — مع ذلك — أن تكون فتحًا قريبًا أو شعورًا فنيًّا لم يتطاول عليه العهد مئات السنين، ولم تذهب روعته بالألفة وفتور النسيان.
ووحدة اللغة القرشية أو الحجازية لا تصبح من مفاخر العرب جميعًا كرامة لقريش أو لأرض الحجاز، ولكنها خليقة أن تسري إلى نفوس العرب من حيث يشعرون بالعروبة الموحدة عالية الرأس، غير مستكينة لسلطانٍ من «العجم» على الخصوص.
والكعبة هي الجوار الوحيد الذي يشعر عنده العرب هذا الشعور.
فهم في الشام رعايا دولة الروم، وهم في الحيرة رعايا دولة الفرس، وهم في اليمن أتباع للحبشة أو لفارس، أو رعايا لسلطان يدينهم بالمذلة كما يدينهم الملوك الغرباء.
ولكنهم عند بيت الله في حرم الله يقدسونه جميعًا؛ لأنه لهم جميعًا يضمهم إليه كما يضم أوثانهم وأصنامهم وأربابهم، يلوذون به ويأوون إليه، فكلهم من معبود أو عابد في حمى من الكعبة؛ لأنهم في بيت الله.
وشعورهم هنا بأنهم «عرب» لم يماثله شعور قط في أنحاء الجزيرة العربية، وقد أوشك أن يشمل شعب اليمن وجمهرة أقوامه على الرغم من سادته وحكامه، فما كان هؤلاء الحكام لينفسوا على الكعبة مكانها، ويقيموا لها نظيرًا في أرضهم لو كان شعب اليمن منصرفًا عنها غير معتز بها كاعتزاز البادية والصحراء.
وحدة الكعبة
وقد وافق ذلك زوال عرش الحيرة، وزوال عرش حمير، واستكانة الغساسنة في الشام تارةً للروم وتارةً للفرس، بلا ولاء لهؤلاء ولا لهؤلاء، ولا بقية من الفخر لهم غير أنهم عرب، وليسوا من هؤلاء ولا هؤلاء.
وإنَّ إبقاء الإسلام على مكانة الكعبة لدليل على هذه المكانة، ودليل على حكمة الإسلام في الاحتفاظ بها للعالم الإسلامي في متسعه العميم بعد عالمه الأول في الجزيرة العربية.
ونكاد نقول: إن العرب أقبلت على الإسلام أفواجًا حين صارت الكعبة إلى يديه، وأصبحت عاصمة العروبة عاصمة للدين الجديد.
ولو لم تكن للعرب وحدة معروفة بينهم قبل البعثة الإسلامية، لما اعتزوا بالبيت الجامع لهم هذا الاعتزاز، وما وحدة أقوام متقاتلين متنازعين مأخوذين بعصبية الأجداد والعشائر إن لم تكن وحدة اللغة، ووحدة الفخر بلسان مبين يتيهون به على «العجم» أجمعين؟!
قال سترابون: إنه وجد الأقوام في بلاد العجم تتفاهم بلغة واحدة، وهي بلاد تعاقبت عليها سلالات الآريين والطورانيين والساميين، ويقال في روايات شتى: إنَّ الحاميين وصلوا إليها في زمن قديم، كما كانوا يصلون إليها، ويتجمعون فيها بعد الإسلام بعدة قرون، ولم تكن عوامل الوحدة اللغوية بينهم أقوى من عواملها في جزيرة العرب، ولم يمضِ عليهم من الزمن ممتزجين متقاربين أكثر مما مضى على القبائل العربية التي من عادتها الترحل والانتقال من مرعى إلى مرعى، ومن جوار إلى جوار.
وفي زماننا هذا — من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين — لا نرى أحدًا يستغرب تخاطب القوم في جزائر البريطان بلغة واحدة، ومنهم الأيرلنديون والأيقوسيون والغاليون، وفي كل أمة من هذه الأمم خطباء مفوهون، وشعراء مشهورون يحسنون الإنجليزية منظومة ومنثورة، وفي مجامع الخطابة والبيان، ولا نرى أحدًا يستغرب ذلك في بلاد الإسبان، ومنهم القشتاليون والباسكيون.
ولا نرى في مصر هنا من يستغرب البيان العربي الفصيح إذا نسب إلى فئة من أبناء النوبة، وهم يتفاهمون في الإقليم النوبي برطانة لا يفهمها سائر المصريين، فلا موجب لإنكار النظم والكلام بلغة واحدة في جزيرة العرب قبل البَعْثة المحمدية بمائتي سنة أو أكثر من ذلك، مع عجز المنكرين أن يأتوا بشاهد من اللغة الأخرى التي يفترضونها، وينكرون توحيد اللغة من أجلها، ومع توافر الأسباب الموحدة في جزيرة العرب على نحو لم يعهد في غيرها من بلاد الزمن القديم، ولا تكفي كلمة أو كلمات للحكم بانفصال اللغات؛ فإنَّ الإقليمين في قطر واحد لا يتفقان في جميع الكلمات.
فمن التاريخ الثابت أنَّ أبناء الجنوب لم ينقطعوا عن الشمال، ولم تزال لهم آثار مكتوبة فيها إلى الآن، وقد وجدت بعض هذه الآثار بالخط الجنوبي واللغة الشمالية؛ مما يدل على تشابه الكلام والنطق مع بقاء الكتابة بخط الجنوب.
وحدثت في تاريخ الجنوب حوادث متعاقبة نقلت زعامة الشمال إلى الشماليين، وجعلت أهل الجنوب تبعًا لهم كلما وفدوا على الشمال، وذاك بعد قيام الدولة النبطية التي ازدهرت في القرن الرابع للميلاد، وتغلغل روادها وتجارها في الغرب، كما ظهر من بعض نقوشهم في بحر إيجة وفي إيطاليا الجنوبية.
وقد كان من أسباب ضعف الجنوب وقيام دولة النبط في الشمال اضطراب بلاد اليمن بعد حروب الإسكندر، واجتياجه لدولة فارس التي كان لها الإشراف على حكومة اليمن وتجارة الهند والشرق عامة في الأقطار العربية، وبعد انهيار سد مأرب وانتشار القراصنة في خليج العجم وبحر العرب والبحر الأحمر، فغلبت طريق القوافل التي تمر بالحجاز على جميع الطرق الأخرى، وتقاربت الصلة بين النبط والحجازيين، وأخذ الحجازيون بالخطة الوسطى التي تلتقي عندها سبل الجنوب والشمال والشرق والغرب في كل بقعة عربية لم تكن للفرس حماية عليها، واشتعلت الحروب بين اللخميين على خليج العجم، والغساسنة في بادية الشام، فانحصر الأمان أو كاد على طريق الحجاز.
واحتاج النعمان بن المنذر — صاحب الحيرة — إلى زعماء مضر لحماية تجارته داخل الجزيرة إلى مكة، فكان من أسباب يوم نخلة أنه أراد رجلًا يجيز قوافله على أهل نجد، فتنازعها البراض وعروة الرحال سيد هوازن، وقال له هذا: إنه يجيزها على أهل الشيح والقيصوم في أهل نجد وتهامة، ثم نشبت الحرب، فاحتكم الجميع أخيرًا إلى سيد من سادات مكة عبد الله بن جدعان.
وانقضت عدة قرون على اتصال النبط والحجاز، وعمل الحجازيون على تعظيم شأن الحجاز بين النبطيين، فوضعوا في الكعبة تماثيل أرباب يعبدها النبطيون، يعد منها الرواة: هبل واللات ومناة التي قيل: إنها من «المنية»، بمعنى «القدر المقدور» معبود النبطيين، وقولهم: حانت منيته وحان قدره معنًى واحد عند عبَّاد مناة.
ولا شك أنَّ قصة «عمرو بن لحي» الذي اتفقت الأخبار على أنه نقل الأصنام من بلاد النبط إلى الكعبة، إنما هي وسيلة من وسائله لتعظيم شأن الكعبة عند أهل الشمال، وإيناسهم بها كلما رحلوا إلى الحجاز، وتقريب ما بينهم وبين شعائر البيت الحرام، وهم جميعًا حريصون على تحريم هذه الشقة، وحماية روادها من كل قبيل.
وأخطر من ذلك كله أثرًا في إعظام شأن الكعبة أنها المفخرة القومية، والحرم الإلهي الذي بقي للعرب بعد سيادة الروم على غسان، وتقلب الحبشة والفرس على اليمن، وشعور اللخميين — سادة الحيرة — أنفسهم بمناعة الكعبة، ومناعة الطريق في أيدي مضر ومن يواليها، وهوان سلطان هؤلاء اللخميين حتى آل بهم الأمر إلى الدثور، ثم جاءت وقعة ذي قار التي انتصر فيها العرب على الفرس بعد زوال دولة اللخميين وقضاء الفرس عليها، فهزَّت الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، ونمت على نخوة قومية عربية تمكنت من نفوس القبائل جميعًا، فاشرأبَّت أعناقها زمنًا إلى كل ملاذ تقصُر عنه أيدي فارس والروم.
هؤلاء القوم الذين يفخرون بأنسابهم فيما بينهم، ويفخرون بجنسهم بين سائر الأجناس قد حلت اللغة عندهم محل العرش والدولة، ومحل البذخ والحضارة، ومحل العلم والصناعة، حتى أصبح الفخر بها علامة من العلامات التي يتميزون بها في عرف علماء الأجناس البشرية، فإذا وُجِدَ الفخر باللغة فتلك علامة العربي بين العناصر عامة من أقاربه الساميين إلى الغرباء عنه من الآريين والطورانيين والحاميين.
ثم تتجلى فيهم دون سائر الأمم تلك الظاهرة الفريدة في تواريخ الأديان والثقافات، وهي العلو بالبلاغة حتى تكون البلاغة في قسطاس كل مخاطب بالقرآن الكريم تحديًا نبويًّا، وتحديًا ربانيًّا، من معجزات الإله التي لا تتسامى إليها قدرة البلغاء في أمة اللسن والبيان.
وهذه ظاهرة متجلية للنظر القريب والبعيد لا تحتاج من المستشرقين إلى بحث عن مجهول أو معلوم، فما يجيء الكتاب بهذه المعجزة لأمة خلت من مأثورات البلاغة في شعرها وجوامع كلماتها، وما هو بجائز عقلًا أن يتحداها القرآن وهي لا تعرف من كلامها شيئًا يتجه إليه ذلك التحدي، وتدور عليه الموازنة في عرف الخبراء بالكلم البليغ، فالقياس المستقيم أنَّ القرآن نزل في قوم لهم بلاغة موروثة يتناقلونها، ولا يجهلون أعلامها.
وأما القول بأنَّ بلاغة الجاهلية لم تكن حقيقة واقعة، وإنما اصطنعها الرواة اصطناعًا بعد الإسلام سندًا للقرآن، ودفعًا للشبهات عنه بين المؤمنين به؛ فليس من القياس المستقيم في مقياس غير مقياس أولئك المستشرقين، وما كان الجاهلي الكافر ليقبل آية القرآن، ولا يشك في فصاحة القرآن، ثم يأتي المسلم المؤمن، فلا تثبت له فصاحة القرآن إلا بكلام يخلقه خلقًا لينسب إلى أولئك الجاهليين، ولقد حدث نقيض ذلك في كثير من الشواهد على صحة اللغة وسلامتها، فكان القرآن مرجع المصححين فيما يختلفون عليه، ويبتغون له سندًا لا مراء فيه.
ومهما يبلغ من ضعف الذاكرة بالبادية — وليست هي بالضعيفة — فلن يبلغ من نسيانها أن ينقطع الجد عن أخبار أبيه وأخبار بنيه، وأن ينسى لغة سمعها في حياته، أو سمعها أبوه قبل مولده، فما كان جيلان أو ثلاثة أجيال بالامتحان العسير لذاكرة قوم لا معول لهم على غير الذاكرة ورواية الأخلاف عن الأسلاف، وإنه ليمتنع أو يستحيل أن ينشأ الإسلام في جيل يجهل اللغة التي تنسب إلى شعراء المعلقات، وأقدمهم لم يسبق جيل الإسلام بأكثر من مائة وخمسين سنة. وفي هذه السنين خاصة توحد حساب التاريخ، وتولاه قلامس العرب، وخالفوا فيه تقويم اليهود في حساب النسيء، فكان جنادة بن عوف ناسئًا عند ظهور الإسلام، وسبقه أبوه عوف بن أمية، وسبقه أبوه أمية بن قلع، وسبقه أبوه قلع بن عباد، وسبقهم آخرون إلى عهد القلمس من بني كنانة، فهم في تاريخ معلوم متسلسل قبل الإسلام بأربعة أجيال.
ومن فهاهة المستشرقين هؤلاء أنهم لا يختارون من تاريخ العرب مطعنًا يصيبونه غير اللغة والأنساب، وكلهم يتحذلقون على العلم في شكوكهم الموكلة بالتاريخ العربي أو الإسلامي من أقدم عهوده، ثم يأتي العلم فيثبت بالكشوف المحسوسة صدق الخرافة المزعومة، وكذب العلماء الزاعمين، حتى لقد أصبح التخريف حقًّا لهؤلاء المحققين، الذين لا يعرفون من التحقيق إلا اتهام كل رواية عربية أو إسلامية بالتخريف.
ونحن نقف بهذه التواريخ عند حدها، ولا نجاوز بها مداها، فحسب الناظر في التاريخ أن يفهم منَّا أنَّ إخبار العرب عن لغتهم وعن أوائلهم لا تدحض جملةً واحدةً، وقد تخالطها المبالغة، وتتناقض حولها الغرائب؛ بل ربما كان من دواعي إدحاضها أن تبرأ من كل مبالغة وغرابة، فأما الكذب الذي يعاب على العلم ويلحقه بالخرافة فهو هذا التحقيق الذي هو أهون وأضر من التخريف.
•••
إنَّ الحوادث الكبرى تستدعي المقارنة بين فهمنا لها بمقاييس العلم، ومقاييس الفلسفة، ومقاييس العقيدة، وتوحي إلينا في جميع الأحوال أنَّ مقاييس العقيدة أخلصها إلى أعماقها، وأقدرها على التفسير كلما استجاشت العقيدة في الأمم قوة الحياة وقوة الضمير.
والإسلام قد استصفى تاريخ العرب قبل دعوته، فجمعه كله في الوحدة القومية، وأقام هذه الوحدة على ركنيها اللذين لا قوام لها بغيرهما على تساند واتفاق؛ وهما: ركن اللغة، وركن الحرية الدينية، وكلاهما كان تمهيدًا صالحًا لظهور الدعوة الإسلامية.
إلا أنَّ معجزة الإسلام في جميع مقدماته ونتائجه أنَّ هذه النتائج لم تكن قط منقادة مسخرة لتلك المقدمات، فإنَّ هذه العصَبيَّة اللغوية الدينية قد آلت في يد الإسلام إلى دعوة إنسانية عالمية، لا تنكر شيئًا كما تنكر العَصَبيَّة الجاهلية، ولا تعرف ربًّا غير رب العالمين، ولا قسطاسًا غير قسطاس العمل الصالح، يتفاضل به القرشي والحبشي والعربي والأعجمي وعترة النبي، ومن ليست بينه وبين النبي لحمة غير لحمة الإيمان …
ونعود فنقول: إنَّ شأن اليهودية في توضيح هذه الحقائق أعظم من كل شأن لها في الجزيرة العربية، فمما لا نزاع فيه أنَّ أناسًا من اليهود قدموا إلى الجزيرة بلغة غير اللغة الحجازية، فاحتفظوا بلغة الدين للدين، ولم يمضِ عليهم زمن طويل حتى عمَّ التفاهم بينهم وبين سائر العرب بلسان الحجاز وتهامة ونجد، ومن جاورهم من الأنباط وعرب الحيرة وبادية الشام. وهذه حقيقة تاريخية واقعية مسقطة لكل دعوى يتحذلق بها أدعياء العلم من محترفي التبشير والاستشراق.
المسيحية في الجزيرة
أمَّا المسيحية فقد كان لها مدخل إلى الجزيرة العربية غير هذا المدخل، فلم تصل إلى داخل الجزيرة عشيرة كبيرة أو صغيرة من المهاجرين، ولم يأتها قوم بلسان غير اللسان العربي كما حدث في هجرة اليهود، ولكنها شاعت بين قبائل من العرب في جيرة الدول التي سيطرت على أطراف الجزيرة، وهي بيزنطية وفارس والحبشة، وكان لمذهب العاهل القائم بالأمر في دولة بيزنطية أثر كبير في توجيه النحل والمذاهب في بلاده وبلاد أعدائه.
وقد حدث في مدى قرن واحد أنَّ العواهل كانوا يحرمون المسيحية على رعاياهم، ثم دانوا بها على مذهب، وجاء من بعدهم فدان بها على مذهب يعاديه ويرميه بالكفر والزندقة، فمن شاء أقام مع العاهل في بلاده طائعًا له، أو مداريًا لأمره، وإلا ففي بلاد أعدائه من الفرس متسع له يعلن فيه مذهبه، وينطلق في تسفيه العاهل وشيعته غير ملوم ولا ممنوع.
وأفلت إلى الجزيرة العربية آحاد من كل نحلة مسيحية غضب عليها عاهل القسطنطينية، فهاجرت إليها فئات متفرقة من أتباع آريوس وأوريجين ونسطور ولوسيان الأنطاكي، وجماعة المشبهين، وجماعة القائلين بالطبيعة الواحدة، والقائلين بالطبيعتين.
وكان نسطور بطرقًا للقسطنطينية ينشر مذهبه ببأس الدولة، ثم عُزل وتعقبه خصومه بالنفي إلى أرض النوبة، ومحور مذهبه أنه يفصل بين الناسوت واللاهوت في السيد المسيح، ويرفض القول بتأليه العذراء عليها صلوات الله. وكان الأنطاكي يناقض تفسير الكتب الدينية بأسلوب المجازات والرموز، ويلتزم اللفظ والنص في فهم معانيها ومسائلها الغيبية. وكان آريوس يقول: إنَّ الكلمة هي واسطة الخلق، ويقول أوريجين: إنها مخلوق محدث له الشرف على سائر المخلوقات، وإنَّ هذه الكلمة تجسمت في السيد المسيح، فظهرت على مثال الإنسان، وآخرون يقولون: إنَّ جسد السيد المسيح تشبيه بالجسد، وليس بالجسد المادي الذي يحكي جسد الإنسان، وإنه في لاهوته أجلُّ وأرفع من أن يتعذب أو يتضرع، وصيحته عند الصلب لم تكن «ربي! ربي!» بل كانت: قوتي! قوتي! كما ورد في بعض النصوص.
•••
ويعترف جورج سيل، مترجم القرآن، بما كانت عليه حال المسيحيين في الحجاز من السوء والضلالة، فيقول في مقدمته للترجمة: «من المحقق أنَّ ما ألَمَّ بالكنيسة الشرقية من الاضطهاد واختلال الأحوال في صدر المائة الثالثة للميلاد، قد اضطر كثيرين من نصاراها أن يلجئوا إلى بلاد العرب طلبًا للحرية، وكان معظمهم يعاقبة؛ فلذا كان معظم نصارى العرب من هذه الفرقة. وأهم القبائل التي تنصرت حمير وغسان وربيعة وتغلب وبهراء وتنوخ وبعض طيئ وقضاعة وأهل نجران والحيرة …
ولما كانت النصرانية بهذه المثابة من الامتداد في بلاد العرب، لزم عن ذلك ولا بد أنه كان للنصارى أساقفة في مواضع جمَّةٍ منها لتنتظم بهم سياسة الكنائس، وقد تقدم ذكر أسقف ظفار، وقال بعضهم: كانت نجران مقام أسقف، وكان لليعاقبة أسقفان يدعى أحدهما أسقف العرب بإطلاق اللفظ، وكان مقامه باكولة، وهي الكوفة عند ابن العبري، أو بلدة أخرى بالقرب من بغداد عند أبي الفداء، وثانيهما يدعى أسقف العرب التغلبيين، ومقامه بالحيرة. أما النساطرة فلم يكن لهم على هذين الكرسيين سوى أسقف واحد تحت رئاسة بطريركهم.»
إلى أن يقول: «أما الكنيسة الشرقية فإنها أصبحت بعد انفضاض المجمع النيقاوي مرتبكة بمناقشات لا تكاد تنقضي، وانتقض حبلها بمماحكات الآريوسيين والنساطرة واليعقوبية وغيرهم من أهل البدع. على أنَّ الذي ثبت بعد البحث أنَّ كلًّا من بدعتي النساطرة واليعقوبية كانت بأن تُدْعَى اختلافًا في التعبير عن المعتقد أولى من أن تُدْعَى اختلافًا في المعتقد نفسه، وبأن تُدْعَى حجة يتعنت بها كل من المتناظرين على الآخر أولى من أن تدعى سببًا موجبًا لالتئام مجامع عديدة يتردد إليها جماعة القسان والأساقفة، ويتماحكون ليعلي كل واحد منهم كلمته، ويحيل القضايا إلى هواه.
ثم إنَّ نافذي الكلمة منهم وأصحاب المكانة في قصر الملك كان كل واحد منهم يختص نفرًا من قواد الجيش، أو من أصحاب الخطط يكون له عليهم الولاء ويتقوى بهم، وبذلك صارت المناصب تنال بالرشى، والنصفة تباع وتشترى جهارًا. أما الكنيسة الغربية فقد كان فيها من تهالك دماسوس وأرسكينوس في المشاحة على منصب الأسقفية — أي أسقفية روته — ما أفضى إلى احتدام نار الفتنة وسفك الدماء بين حزبيهما …
وكان أكثر ما تنشأ هذه المناقشات عن القياصرة أنفسهم، ولا سيما القيصر قسطنطينوس، فإنه إذ لم يقدر أن يميز بين صحيح الدين المسيحي وخرافات العجائز ربك الدين بكثير من المسائل الخلافية … هذا ما كان عليه حال النصرانية في غير بلاد العرب. أما في بلاد هذه الأمة، التي هي موضوع بحثنا، فلم تكن خيرًا من ذلك؛ فكان في نصارى العرب قوم يعتقدون أنَّ النفس تموت مع الجسد وتنشر معه في اليوم الآخر، وقيل: إنَّ أوريجانوس هو الذي دَسَّ فيهم هذا المذهب.
وكم وكم من بدعة انتشرت في جزيرة العرب حتى لا نقول نشأت فيها! فمن ذلك بدعة كان أصحابها يقولون بألوهية العذراء مريم، ويعبدونها كأنما هي الله، ويقربون لها أقراصًا مضفورة من الرقاق يقال لها: كليرس، وبها سُمِّي أصحاب هذه البدعة كليريين، وفضلًا عن ذلك فقد اجتمع أيضًا في جزيرة العرب عددٌ وافرٌ من الفرق المختلفة الأسماء لجئوا إليها هربًا من اضطهاد القياصرة …»
•••
فالحالة التي تمثلت بها النصرانية في جزيرة العرب لم تكن حالة هداية يحيط بها مذهب واحد صالح لتعليم من يتعلمه، بل كانت شيعًا سياسية ومذاهب متنازعة، يتوقف العلم بالصالح منها على هُدى الناظرين فيها، وعلى ما عندهم من البصر الثاقب والبداهة المنزهة، التي يعود إليها الفضل فيما تقبله وتأباه، ولا فضل عليها لمن يعلمها نحلة من تلك النحل تقدح في سائرها، وترمي الذين لا يتبعونها بالكفر والضلال.
والقرآن الكريم يصف هذه الحالة بين أهل الكتاب جميعًا كما جاء في سورة المائدة عن طوائفِ اليهود والنَّصارى.
قال عزَّ من قائل: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: ١٢–١٤].
•••
هذه حالة النصرانية في الحجاز كما عهدها النبي — عليه السلام — قبل مبعثه، وهي بهذه المثابة من مقدمات رد الفعل لا من مقدمات التمهيد والتحضير، سواء كل ذلك في أمر النبي، أو أمر الحكماء من طلاب الهداية الذين عُرِفوا باسم المتحنفين أو المتحنثين.
وينبغي الاحتراس من قول القائلين: إنَّ أحدًا من أولئك المتحنفين أو الحنفاء تنصر أو تهود على مذهب مفصل مستوعب لعقائد النصرانية أو اليهودية، فكل ما يصحُّ من أخبار الحنفاء أنهم كانوا يعرفون أنَّ الإيمانَ بالإله الواحد أهدى وأحكم من الإيمان بالنُّصب والأوثان، ونحسب ابن هشام قد صدق الرواية حقًّا، حين قال عن أشهر هؤلاء المتحنفين زيد بن عمرو بن نفيل أنه «وقف، ولم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال أعبد رب إبراهيم … وكان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك، ولكني لا أعلم».
ومثل ابن نفيل ورقة بن نوفل الذي قصدت إليه السيدة خديجة لتسأله عن جبريل الذي نطق النبي — عليه السلام — باسمه أمامها، فإنه كان يطيل القراءة في كتب اليهود والنصارى، ويعلم أنَّ عبادة الأصنام ضلالة، فيلتمس الهداية في غيرها، ولا يُستوفى العلم ولا الإيمان بأي الديانتين، وغاية الأمر في نصرانيته كما قال ابن هشام أنه «كان نصرانيًّا تتبع الكتب، وعلم من علم الناس» … وقد ذكر عنه مع ثلاثة من أصحابه، أحدهم ابن نفيل، أنهم كانوا قد انصرفوا من عند صنم يعظمونه في يوم عيد، فقال بعضهم لبعض: «تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع يا قوم؟! التمسوا لأنفسكم؛ فإنكم والله ما أنتم على شيء.»
قال ابن هشام: فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم.
ونحن نعلم من القرآن الكريم أنَّ المشركين كانوا يقولون: إنهم لم يعبدوا الأرباب والأوثان إلا ليقربوهم إلى الله زلفى، وسنرى في الكلام على الكعبة أنَّ الحقبة التي سبقت بعثة النبي شهدت طوائف من المجتهدين في العبادة، منهم طائفة الحمس التي اختصت الحرم وحده بالتقديس، وتنسَّكت بضروب من العبادة لم يتبعها أحدٌ من قبلهم في الجاهلية.
فقد كانت الحقبة إذن حقبة حائرة بين العبادات، ولم تكن عبادة منها لتستأثر بضمير صاحبها أو تغنيه عن النظر في غيرها. وقد كانت هذه الحيرة في جانب من جوانبها على الأقل أثرًا من أثار الجامعة القومية، أو أثرًا من آثار الشوق إلى ديانة جامعة غير ديانة الأصنام المتفرقة، لكل قبيلة من القبائل صنم تنفرد به أو تميزه بين زمرة الأصنام المشتركة.
فقد كانت القبائل تعبد أصنامها، ولم تكن بها حاجة إلى الاشتراك في عبادة واحدة تشملها، فلما وجدت هذه الحاجة لمسوا النقص في كل عبادة من عباداتهم، وذهب أصحاب النظر منهم يبحثون عن الدين الصالح، ويستلهمون من كلمة «بيت الله» قبسًا يقربهم من الله، ومن ديانة ربِّ البيت وبانيه إبراهيم — عليه السلام — وقديمًا نسب الحجازيون أنفسهم إلى إسماعيل بن إبراهيم، ونسبهم إليه أصحاب التوراة وعلماء الأنساب.
وإنَّ أصدق وصف للحالة الدينية في عصر البَعْثة الدينية أنها حالة نقص في كل نحلة وكل عقيدة؛ فلم نعلمْ من أخبار الوثنية قط أنها كانت تستوعب المؤمن بها، وتمنعه أن يأخذ ببعض الشعائر من هنا، وأن يتقبل بعض الآراء من هناك، ولم تكن الحدود بين النحل والعادات الدينية متحجرة مستقرة على قرار لا يأذن بالتبديل والزيادة والتحوير، ولم يكن المتدين منهم جميعًا يتنبه إلا الابتداع في أمر الدين، إلا أن يسومَه الخروج على قومه، والزراية بشرعة الآباء والأسلاف، فيومئذ تنقلب المسألة من تصرف في الشعائر والآراء إلى النخوة العصبية، والغيرة على الأحساب والأنساب، وتصطدم البدعة الجديدة إذن بالعصبية القومية كلها في إبان اليقظة والطموح. وهذه الصدمة لم تفاجئ أبناء الجاهلية قط من نحلة يحكونها، أو يستجيبون لها بحكم المسايرة والمجاراة، وإنما فاجأتهم من دعوة الإسلام وحده، فتمردوا عليه ذهابًا مع العصبية وتراث الحسب والنسب، ولم يتمردوا عليه ذيادًا عن ملَّة شاملة تستأثر منهم بالضمائر والأفكار.
فالوحدة القومية مهدت للإسلام إلى حدٍّ محدود، ويسَّرت له الأمر بالتوقع والانتظار، ثم وقفت دون الغاية حين اصطدمت القومية بالدعوة الجديدة، ووجب أن تثوب الدعوة الجديدة إلى قوة أكبر من قوة القومية التي اعتز بها المشركون وخلطوها بما ألفوه من السيادة والمصلحة في التراث القديم.
فبالوحدة القومية تمهدت طريق الإسلام، وبقوة الإسلام برزت من الوحدة القومية شريعة الإنسان وعبادة ربِّ العالمين.
ولم نذكر — فيما تقدم — عاملًا من أشهر عوامل هذه الوحدة القومية، وهو يوم ذي قار الذي انتصر فيه العرب على الفرس، وارتجت له الجزيرة العربية بالفخر والأمل في مطلع العصر الإسلامي، وعند ولادة النبي — عليه السلام.
لم نذكره لنضعه كما وضعه أناس في مقدمة العوامل الكبرى، ولا ننساه هنا لنحسبه منها ولا نقدمه عليها، فلو لم يكن يوم ذي قار لكانت الوحدة العربية، وكانت توابعها التي لحقت بها في أوانها. ولعل وثبة ذي قار جاءت بعد الوحدة القومية ولم تسبقها، ولعلها كانت الجولة الثانية بعد الجولة الأولى على تخوم الدولة الفارسية، فلما تنازع أمراء الحيرة وشواهين الدولة غلبت الدولة على الإمارة، وقضى الأكاسرة والشواهين على المناذرة والنعامين، ولما التقت سطوة فارسية ونخوة عربية في الجولة التالية ظفرت القبائل حيث أخفق الأمراء.
كانت ذو قار وليدة النخوة العربية، ولم تكن أمها التي ولدتها، وإنما كانت أم الأمهات في هذه النهضة وحدة اللسان ووحدة الجنان.