والدا النبي
تلك هي الأسرة العامة التي شملت الأجداد والأعمام، وللنبي صلوات الله عليه، مع هذه الأسرة العامة، أسرة خاصة من أبويه الشريفين: عبد الله وآمنة.
ولم يعقب لنا التاريخ كثيرًا من أنباء هذين الأبوين الشريفين، ولكنه أعقب لنا ما فيه الكفاية لبيان أثرهما النفساني في وجدان ولدهما العظيم.
ندرت في أبوات العظماء أبوة كأبوة عبد الله بن عبد المطلب، ونكاد نقول: إنها مرت بغير نظير فيما وعيناه من تواريخ الأنبياء والهداة من كل قبيل.
فتًى لم يكد ينجو من الموت ذبيحًا حتى مات بعيدًا عن زوجه التي فارقها عروسًا، وعن ولده الذي لم ترَه عيناه.
لكأنما وجد هذا الفتى في الدنيا ليعقب ذرية تريدها العناية الإلهية، ثم يتركها في كلاءة تلك العناية لقدر لا تغني فيه عناية الآباء.
وفي تاريخ الأنبياء أب عاش حتى شهد بعثة ابنه فأنكرها، وتواطأ مع قومه على خذلانها، فبقيت ذكراه خيبة أمل وحيرة لمن يجل الدعوة ويجل إبراهيم.
فأما هذه الأبوة فالرحمة فيها تملأ مكان الخيبة، والبر بالذكرى يملأ مكان الحيرة، ويتطلع وراءه إلى الأسى على الفقيد، والعزاء للوليد الوحيد.
وحياة لا تشبع سجل الحوادث والخطوب، ولكن النفس تشبعها بما يعوضها عن حوادثها وخطوبها حبًّا سابغًا، وجمالًا يفتن فيه الحس والخيال.
وهذا الذي صنعته بديهة الحياة الصادقة، فلم تدع سيرة عبد الله حتى أودعتها من الخواطر والأماني ما تزدحم به أعمار طوال، فما تمناه له المحزونون على صباه وتقواه يفيض في جوانب سيرته حتى تمتلئ به مائة حياة.
قيل في بعض ما قيل من هذه الخواطر والأماني: «إنه لما انصرف مع أبيه بعد أن فداه بنحر مائة من الإبل لرؤيا رآها، مرَّ على امرأة كاهنة متهودة قد قرأت في الكتب يقال لها: فاطمة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه — وكان أحسن رجل في قريش: لك مثل الإبل التي نحرت عنك، وأبذل لك نفسي؛ لمَا رأتْ في وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبي الكريم ﷺ، فأجابها بقوله:
ثم خرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو يومئذ سيد زهرة نسبًا وشرفًا، فزوجه ابنته آمنة وهي يومئذ أفضل امرأة من قريش نسبًا وموضعًا، فحملت برسول الله ﷺ، ثم خرج من عندها فمر بالمرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس؟ فقالت: فارقك النور الذي كان معك، فليس لي بذلك اليوم حاجة؛ إنما أردت أن يكون النور فيَّ، فأبى الله إلا أن يجعله حيث شاء.»
وفي أسانيد ابن هشام: أنَّ عبد الله «إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها فأبطأت عليه لما رأت به من أثر الطين، فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به، ثم خرج عائدًا إلى آمنة، فمر بامرأته الأولى فدعته فلم يجبها، وعمد إلى آمنة فحملت بمحمد ﷺ، ثم مر بامرأته تلك فقالت له: مررت بي وبين عينيك غرة بيضاء فدعوتك فأبيت».
قال إسحاق بن يسار صاحب الخبر: «فزعموا أنَّ امرأته تلك كانت تُحدِّث أنه مرَّ بها وبين عينيه غرة مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن تكون لي، فأبى عليَّ، ودخل على آمنة فحملت برسول الله …»
وجاء في غير خبر أنَّ فتيات مكة ذهبت بهن الحسرة لزواج عبد الله من آمنة، وكانت كل فتاة منهن تتمناه زوجًا لها؛ لجماله وتحدُّث الناس بفدائه.
وفي كل هذه الأخبار قسط من الصحة لا نهمله، ولا نسوي بين رواية السير له وبين خلوها منه، فإن مجيئه في السير يثبت لنا معنًى صادق الدلالة وإن يكن غير معناه المقصود، يثبت لنا لونًا من شعور الناس بصاحب السيرة، ولونًا من تعبيرهم عن ذلك الشعور، ومن كان هذا المعنى لغوًا عنده فخيرٌ له أن يتجنَّب السير والتواريخ.
وأما حكم الواقع على حدوث الخبر، فحسبنا فيه حكم القرآن الكريم الذي يبطل علم الكهان بالغيب، كما ينكره على أعوانهم من الجان، وفي سورة سبأ عن سليمان بن داود — عليهما السلام: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: ١٤].
والقرآن الكريم يقول في غير موضع إنه لا يعلم الغيب إلا الله، ويقول بلسان النبي: ولا أعلم الغيب؛ فلا كاهن يعلم من أمر الدنيا سرًّا من أسرار الغيب؛ فضلًا عن أمر النبوة والرسالة، والكاهنة التي تريد أن تحمل بنبي لا يخطر لها أن تحمل به سفاحًا، فيقول لها عبد الله:
وأما أن تكون زوجة ثم لا ترى من زوجها تلك الغرة قبل ذهابها، ثم تأبى معاشرته بعد ذهابها، فليس مما يجوز تصديقه من شئون الزواج.
فالقصة كلها وما شابهها من القصص رغوة وزبد، وزبدتها جمال عبد الله، وأسى النفوس لما فات ذلك الجمال في عنفوان صباه.
ولا نكران لما كان عليه عبد الله من الوسامة والوضاءة وغضارة الشباب، سواء حفظت لنا السيرة قصة من تلك القصص أو جاءتنا غفلًا منها، فقد حفظت لنا رؤية العيان أنه كان وإخوته يطوفون بالكعبة مع أبيهم فيأخذون الأبصار، ولم يصف الواصفون بني هاشم بدمامة أو معابة في الخلق والصورة، حتى فيما وصفهم به الشانئون وطلاب العيوب …
•••
وفيما وصل إلينا من سيرته قصة غير تلك القصص لا قبل للمبالغة وحدها بأن تخلقها؛ لأنها تحتاج إلى افتنان في وصفها، وتحتاج — مع الافتنان — إلى مصلحة مفروضة تدعو إلى اختلاقها، أو علة من العلل المعروفة تفسر لنا ذلك الاختلاق.
وتلك هي قصة النذر التي أوردناها في الكلام على الكعبة، وهي تقوم بديوان جامع من القصص للتعريف بخلائق عبد الله.
وليس يكفي في معيار النقد التاريخي أن يكون اختراع القصة ممكنًا ليقال: إنها مخترعة؛ فإن اتهام كل خبر بالاختراع لأنه يجوز أن يخترع يُسقِط أخبار التاريخ كله في الزمن القديم وفي الزمن الحديث، وإنما يظن الاختراع بالخبر لمسوغ يدعو إلى الشك فيه، ولمصلحة توجب اختراعه، وتضطرنا اضطرارًا إلى نفيه على ثقة أو على ترجيح.
وهذه القصة بعينها ينبغي قبل نفيها أن نعرف مصلحة المسلم أو الجاهلي في اختراعها وإلصاقها بعبد المطلب وعبد الله، فقد قيل: إنها اخترعت لتصوير عبد الله أبي النبي في صورة الذبيح إسماعيل، وقيل: إنها لم تظهر في الجاهلية قبل البعثة الإسلامية.
فهل من مصلحة مسلم أن يختلق القصة ليقول: إنَّ جد النبي أوشك أن يذبح أباه قربانًا للأصنام؟
وهل من مصلحة جاهلي أن يبدع الافتنان في القصة، وفي وسيلة الخلاص من الفداء؛ لينكر على سدنة الكعبة قدرتهم على استخبار أربابها، ويرجع بالفضل في الوسيلة والاستخبار إلى كاهنة خيبرية تفتي لهم في شئون عباداتهم وأبنائهم، حيث يعجزون عن الفتيا وهم مفتقرون إليها؟
ولم هذا التخصيص بعبد المطلب وعبد الله؟ ومن الذي كان عنده من قدرة الافتنان في القصص مثل هذه القدرة، ثم خفي أمره، ولم تأتِ منه أفنونة مثلها في زمانها؟
وهناك مسوغ آخر للظن يبدر إلى الذهن إذا كانت هذه القصة قد حدثت لأحد قبل عصر عبد المطلب ثم نقلت إليه، كما حدث كثيرًا في القصص المتكررة التي تروى عن أناس متفرقين، ولكن هذه القصة بذاتها لم ترد بها الرواية في بلاد العرب أو غيرها عن أحد غير عبد الله، وليست هي مما يوضع في بلاد لم تعهد السهام وضرب القداح، والفداء بالإبل، والتقرب إلى كعبةٍ تَجمعُ الأصنام من هبل إلى نائلة إلى إساف. فلماذا اخترعت في بلاد العرب وخص عبد الله باختراعها عليه؟
إن لم تكن هناك شبهة من هذه الشبهات ومسوغ من هذه المسوغات فقبول القصة أولى من رفضها، وتأليفها على هذا الافتنان لغير قصد معلوم أصعب من وقوعها، وقد تساق في معرض ترجيحها وتداولها إلى منتصف القرن الأول للهجرة رواية للطبري يقول فيها بعد سند متصل: «إنَّ ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة، فأمرها بذبح مائة من الإبل، وذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب، وسألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشيء بل توقف، فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال: إنهما لم يصيبا الفتيا. ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير، ونهاها عن ذبح ولدها، ولم يأمرها بذبح الإبل، وأخذ الناس بقول مروان.»
والحق بين رفض القصة وقبولها أنه لا موجب لرفضها، وليس في قبولها ما يخالف مألوفًا من مألوفات زمانها، وقد كان نذر عبد المطلب طلبًا عزيزًا من الإله يبذل له فديته، وكان الوفاء من فضائله المأثورة، وكان مع الوفاء بالنذر إيمان بسوء العقبى، وحذرٌ من أن يصيب الجزاء أبناءه جميعًا، فليس في هذا الوفاء خليقة تختلق؛ لأنها فوق طاقة الإنسان.
ومن ارتضى قصة النذر هذه فنصيب عبد الله عنده أعظم من نصيب أبيه؛ لأنه سلم حياته فدية لإخوته، ولم ينكص عن طاعة أب وطاعة رب، ومن يفعل ذلك ينبئ عن إيمان قوي بالواجب، وإقدام على الموت في ريعان الشباب، وقد كان له أن يتمحل المعاذير فلا تعوزه الحيلة، فكأيٍّ من رجل لا ينكر الدين ولا يمرق منه إذا سامه الدين ما يعز عليه، لم تتعذر عليه الحجة للتحلل من فرائضه، والاجتراء على أوامره ونواهيه.
على أنَّ الملاحظة التي تستوقف النظر من أمر هذه الأسرة القوية المباركة: أنَّ أخبارها المتناثرة التي ترسل إرسالًا في المناسبات المتفرقة أدل عليها من الأخبار التي تنتظم في مناسبة واحدة، وتحتمل مظنة الوضع والتأليف. ومهما تتناثر الأخبار عن أحوالها في الجاهلية تخلص بنا إلى خصلة ملحوظة في جميع هذه الأخبار، وهي «النظام» الذي تتوخاه في معاملاتها وعلاقات أفرادها على البديهة بغير تدبير مقصود.
فمن هنا كلمة ومن هناك خبر، ومن جوانب شتى أحاديث وروايات، وكلها ينطبع بهذا الطابع بغير شذوذ حتى حين ينتظر الشذوذ ولا يستغرب، فأبو لهب نفسه — وهو الخارج على إجماع الأسرة — يأبى في مجلس قريش أن يسام أخوه الكبير — أبو طالب — ما لم يتعوده من الطاعة والتوقير، ويحضر مجلس الأسرة فلا يزيد على كلمة يقولها حين يسمع من أخيه أنه ينصر محمدًا، ولا يستمع فيه لملامة بعيد أو قريب، ثم ينصرف من المجلس وهو كظيم.
أما في سائر مجامع الأسرة فالطاعة والتوقير سنة لا يخالفها صغار الأسرة في مجالس كبارها، فإذا جلس عميدها جلسوا وراءه وصمتوا في حضرته، لا يبدءون بالكلام إلا أن يدعوهم إليه. ومن هنا عجبهم أن يقبل الغلام اليتيم إلى مجلس جده فيقصد إليه ويجلس إلى جواره، وهم مع علمهم بإشفاق الجد عليه وتدليله إياه يستدعونه إليهم ليجلس معهم، حتى يأمرهم الجد فيسكتوا عنه وهم لا يقلون إشفاقًا عليه.
ومن نظام الأسرة أنَّ عبد الله خرج بعد زواجه مع أول قافلة حان موعدها، ولم يتخلف عامه ذاك إلى عام قابل، وهو لمَّا يفرغ من عرسه الذي كان خليقًا أن يطيله تلهف أبيه وآله على حياته بعد اليأس منه في قصة النذر المشهور، فخرج مع القافلة ولمَّا ينقضِ على زفافه أسبوعان على أرجح الأقوال.
ولا شيء أشبه بالواقع المنظور في قصة زواج عبد الله بعد الوفاء بنذره واستبقاء حياته؛ فإن أباه — لا جرم — قد امتلأت نفسه زمنًا بشبح الموت يطيف بولده الحبيب إليه، فليس أقرب إلى خاطره من تعويض ذلك الشعور الجاثم على صدره بالاطمئنان على بقاء فتاه، والغبطة بدوامه ودوام ذريته من بعده، ولا سيما الدوام بعد النذر الذي كان مبعثه تعبير الشانئين بقلة الذرية، وابتئاس الأب خوفًا من انقطاع العقب مع ولد وحيد.
واختار الأب زوجة عبد الله من بني زهرة أحلاف بني هاشم والمطلب في كل خلاف: زوَّجه آمنة بنت وهب أعرق بني زهرة نسبًا، وأكرمها محتدًا، ومدره العشيرة كلها في مجامع قريش، وينتهي نسبه لأبيه وأمه إلى عبد مناف، وقد فخر رسول الله بانتسابه إلى هذه الأمومة فقال: «أنا ابن العواتك من سليم.»
روى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة بعد إسناد متصل: «أنَّ عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود، قال: فقال لي رجل من أهل الديور — يعني أهل الكتاب — يا عبد المطلب، أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قال: نعم، إذا لم يكن عورة، قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر فقال: أشهد أنَّ في إحدى يديك ملكًا، وفي الأخرى نبوة، وأنَّا نجد ذلك في بني زهرة؛ فكيف ذلك؟ قلت: لا أدري! قال: هل لك من شاغة؟ قلت: وما الشاغة؟ قال: الزوجة! قلت: أما اليوم فلا، قال: فإذا رجعت فتزوج فيهم. فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن مناف بن زهرة، فولدت حمزة وصفية، ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب، فولدت رسول الله، فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة: فلج — أي فاز — وغلب عبد الله على أبيه.»
وهذا مثل من الأخبار التي لا تثبت على النظر وتُبنى على حقيقة ثابتة، وهي اتصال النسب بين آل عبد المطلب وآل وهب، واتصال البيتين في الحياة الزوجية لما كان من الاتصال بينهما في الحياة العامة، ولم يأت هذا الاتصال القديم بنبوءة من ناسك في اليمن تنكشف من النظر في منخرين.
انتقل عبد الله بعروسه من حي وهب إلى حي عبد المطلب بعد أيام العرس، فلم يطل فيه البقاء إلا ريثما أذن مؤذن القافلة بالرحيل.
ولم يعد من رحلته تلك إلى داره؛ فإنها كانت الرحلة الأخيرة لكل راحل أو قاعد في هذه الحياة؛ رحلة من ظاهر الأرض إلى جوف الضريح.
وولد النبي — عليه السلام — بعد موت أبيه على أشهر الروايات، فأرضعته أمه وأرضعته معها ثويبة جارية عمه أبي لهب، ثم عهد به إلى حليمة بنت ذؤيب تستتم رضاعه في بادية قومها بني سعد على سُنَّة العلية من أشراف مكة، يبتغون النشأة السليمة واللغة الصحيحة بعيدًا من أخلاط مكة وأهوائها. ولم يكن الطفل اليتيم على يسار؛ لأن أباه مات في مقتبل الشباب، ولكن أسرة أبيه وأسرة أمه تكفلتا بنشأته كما ينشأ أبناء السراة من قريش، فأخذته المرضعة بعد تردد، ثم أعادته إلى مكة قبل أن يبلغ الثالثة؛ لأنها سمعت من ابنها أنَّ أخاه القرشي قد صرع وهو معه، وأنَّ رجلين أخذاه فإذا هما يشقان بطنه ولا يزالان يسوطانه، فلما ذهبت إليه حيث تركه ابنها وجدته قائمًا ممتقع الوجه، فبادرت به إلى مكة مخافةً عليه، وطلبت إليها أمُّه أن تعود به إلى البادية؛ تخشى على الطفل من هواء البلد، ولا تخشى عليه من ذلك الخطر الذي خشيته المرضع الرءوم، بعدما سمعته من ابنها ورأته من امتقاع لون الوليد القرشي، وقيامه منفردًا في الخلاء.
فلما عادت به إلى البادية أتم رضاعه فيها، ولبث معها إلى الخامسة أو قبلها بقليل، وتكلم وجرى لسانه بالعربية الفصحى وهو بين بني سعد. فذاك فخره بعد النبوة إذ يعجب الصحابة من فصاحته، فلا يرى عليه السلام عجبًا في فصاحة عربي نشأ في بني سعد، وتربى في الذؤابة من قريش.
•••
ولم يكد الصبي يطمئن إلى جوار أمه بعد عودته من البادية حتى فقدها وهما في زيارة لقبر أبيه بالمدينة.
وما كان قد بقى في الدنيا للفتاة الأيم غير هذا الصبي وذكرى أبيه الراحل في غربتين: غربة الموت وغربة المكان.
فخرجت به ضيفًا تزور الفقيد الراحل في مثواه وتحسبه مشوقًا تحت طباق الأرض إلى رؤية الوليد الذي لم تبصره عيناه تحت شمس النهار.
وكذلك تزير الوليد اليتيم أباه.
فلما قضت حق الزيارة ولبثت في جيرة أخوال عبد الله شهرًا أو بعض شهر، قفلت بوليدها راجعة إلى مكة، فماتت ودفنت في الطريق.
وكل ما وعته السيرة من مرضها أنها وعكت من لفحة السموم، فلم تطل بها الوعكة غير أيام.
•••
ومن اليسير أن نعلم وقع هذه الفاجعة في نفس الصبي اليتيم يتجدد له مصابه في أبيه، فلا يكاد يبرح ضريحه حتى يقف على ضريح أمه مهجورًا في عرض الطريق.
إلا أنَّ هذه الفاجعة بما تدل عليه أهم في دراستنا هذه مما خلفته في نفس الصبي الصغير.
مصابه في أبيه ومصابه في أمه، ولم يزل صبيًّا صغيرًا حين أطبق عليهما مصابه في جده الذي ضمه إليه بعد فقد أبويه.
لو نفس صغيرة تتابعت عليها هذه الضربات في صباها لسحقتها واستنزفت كل ما حوته من عطف وأمل، فلا تعيش — إن عاشت بضرباتها — إلا كما يعيش الأشباح في ظلمات الحياة.
فإذا وجبت لنا وقفة عند هذه الضربات التي تلقاها الصبي، فأول ما نقف لديه وأولاه بالوقوف الطويل أنها دلالة على القوة في مكمنها، وعلى الروح العظيم الذي تجلي بعد ذلك في تاريخ بني الإنسان كفؤًا لأعظم الأعباء، وأفدح الخطوب.
وتلي ذلك وقفتنا أمام العطف الذي أفادته تلك النفس القوية من ضربات تسحق ما دونها، وتنزف منها كل عطف وأمل.
وقد خرج الصبي من تلك الضربات القاصمة بالعاطفة الزاخرة التي تشمل العالمين: عالم الحياة وما بعد الحياة، مذ كان أحب الناس إليه في عالم آخر لا تبديه له هذه الحياة، وجاءت بعثته إلى الناس كافة باسم الله الرحمن الرحيم.
ولعله أول فتح أطل عليه من فتوح عالم الغيب؛ فاستمد منه بعد ذلك قوته التي دان لها هذا العالم المشهود.
دنياه بعد ذلك أوسع من دنيا الناس، وأعم من دنيا الأحياء، وحاجز الموت عنده برزخ تتصل به الدنيا والآخرة، ويعيش فيه الحي والميت، ولا ينتقل فيه الخلق في دنياهم ليهلكوا آخر الدهر، بل ليعيشوا آخر الدهر خالدين.
وقليل في جنب هذا فائدة العطف الذي عهدناه من صباه إلى ختام حياته يحيط به كل إنسان، وكل حي، وكل شيء، وإنما يترجم عنه عطفه على حاضنته، وعلى مرضعته، وعلى كل باقٍ من بقايا أمه وأبيه، ولم يزل يترجم عنه عطفه الذي لم يُحرَمه أحدٌ قط من صاحب أو صديق.
•••
ولا ندع الكلام على الأسرة النبوية وفي الخاطر سؤال توحي إلينا أن نسأله، وأن نجيب عنه ما استُطِيع الجواب.
لقد مات عبد الله وآمنة ولما يجاوزا الخامسة والعشرين، ولا يكون الموت في هذه السن إلا علامة على الضعف والهزال إن لم يكن من مرض يستنفد الأجل في عنفوان الشباب.
فهل كان محمد — عليه السلام — سليل أبوين ضعيفين هزيلين؟
إن لم تكن غرابة الالتقاء بين الأبوين على هذا الضعف كافية لدفع هذا الظن، فلا حاجة إلى دافع له غير حياة الوليد بما استوفته من قوة الروح وقوة الجثمان.
وقد سأل أناس من كتاب الغرب هذا السؤال، وخيل إليهم أنهم وجدوا جوابه في قصة الصرع المزعوم قبل الفطام، وفيما كان يعروه من برحاء الوحي التي وصفها الأقربون منه، وأيسرها أنه كان عليه السلام يرعد ويضطرب ويتقاطر منه في اليوم الشاتي عرق كحب الجُمان.
وعجيب أن يصاب الإنسان بصرع لا يعروه غير مرة واحدة في سن الرضاع، ثم لا يعاوده مرة أخرى إلى قرابة الأربعين.
وأعجب منه أنه يصاب به بعد الأربعين في حال واحدة؛ حين يتلقى الوحي، ثم لا يصاب به مرة في غير تلك الحال.
ولكنه ليس بالعجيب أن تجيش بنية اللحم والدم من أعماقها في غاشية كغاشية الوحي كائنًا ما كان قوام البدن الذي تغشاه.
ولا نعلم أنَّ أحدًا من الأنبياء وُصِف لنا كما وصف محمد — عليه السلام — في كل لمحة من لمحاته، وفي كل حركة من حركاته، وفي يقظته ورقاده، وفي حديثه وصمته، وفي جلوسه ومسيره، وفي ركوبه وارتجاله، فلم تكُن له صفة قط في كل أولئك غير صفة البنية السوية، والخلق القويم.
والنطق أبين عن حالات الصرع من سائر الصفات، وما وصف منطق النبي بشيء ينم على اضطراب في عصب أو في عضل، أو ينبئ عن عرض من الأعراض غير سليم أو قويم: كان ضليع الفم، يتكلم بكلام بيِّنٍ فصل مفسر، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها — أي صحب كلامه بما يوافقه من حركتها — وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ليس بصخاب ولا يرتفع له صوت في غير دعاء.
وهذه صفات كلامه من أكثر من عشرين مصدرًا جمعها أبو عيسى الترمذي، صاحب الشمائل المحمدية، ولم يأتِ بين ثناياها مساغُ اشتباهٍ في عرض من أعراض خلل الصرع والاضطراب؛ بل هي كلها توكيد للمنطق السليم والخلق القويم.
•••
الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وقد جعلت رسالة محمد حيث ينبغي أن تكون — خلقًا وخُلُقًا — من ميراث الزمن وميراث الأجداد والآباء، فكل خُلُق وُصف به فهو الصالح لأداء رسالته والنهوض بأمانته. إن تكن ضريبة من ضرائب العظمة الكبرى — ولا بد لها من ضريبة — فتلك هي النقص في نسله؛ ليستوفى التمام من أمر هذه الذرية الباقية إلى يومنا، وبعد يومنا، جامعة واعية لكل تابع من تابعيه، وكل مولود له في عالم الضمير من بنيه وغير بنيه.
وإنه لعلى خُلُق عظيم.
وإنه لعلى خَلْق قويم.