فلما كانت الليلة ٥٤٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما رجع من غيبته، ودخل مدينة بغداد دار السلام، وجاء إلى حارته، ودخل داره، ومعه من صنف حجر الماس شيء كثير، ومعه مال ومتاع، وبضائع لها صورة، وقد اجتمع بأهله وأقاربه، ثم تصدق ووهب وأعطى، وهادى جميع أهله وأصحابه، وصار يأكل طيبًا، ويشرب طيبًا، ويلبس لباسًا مليحًا، ويعاشر ويرافق، ونسي جميع ما كان قاساه، ولم يزل في هني عيش، وصفاء خاطر، وانشراح صدر، وهو في لعب وطرب، وصار كل مَن سمع بقدومه يجيء إليه، ويسأله عن حال السفر، وأحوال البلاد، فيخبره ويحكي له ما لقيه وما قاساه، فيتعجَّب من شدة ما قاساه، ويهنِّيه بالسلامة، وهذا آخِر ما جرى له، وما اتفق له في السفرة الثانية.
ثم قال لهم: وفي غد إن شاء الله تعالى أحكي لكم حال السفرة الثالثة. فلما فرغ السندباد البحري من حكايته للسندباد البري، تعجبوا من ذلك، وتعشوا عنده، وأمر للسندباد بمائة مثقال ذهبًا، فأخذها وتوجَّه إلى حال سبيله، وهو يتعجَّب مما قاساه السندباد البحري، وشكره ودعا له في بيته. ولما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، قام السندباد الحمال، وصلى الصبح وجاء إلى بيت السندباد البحري كما أمره، ودخل إليه فصبَّح عليه، فرحَّبَ به وجلس معه حتى أتاه باقي أصحابه وجماعته، وقد أكلوا وشربوا، واستلذوا وطربوا وانشرحوا، فابتدأ السندباد البحري بالكلام وقال: السفرة الثالثة؛ اعلموا يا إخواني، واسمعوا مني حكايتها، فإنها أعجب من الحكايات المتقدِّمة قبل تاريخه، والله أعلم بغيبه وأحكم، إني فيما مضى وتقدَّمَ لما جئتُ من السفرة الثانية، وإني في غاية البسط والانشراح فرحان بالسلامة، وقد كسبت مالًا كثيرًا، كما حكيتُ لكم أمسِ تاريخَه، وقد عوَّض الله عليَّ جميعَ ما راح مني، أقمتُ بمدينة بغداد مدة من الزمان، وأنا في غاية الحظ والصفاء، والبسط والانشراح، فاشتاقت نفسي إلى السفر والفرجة، وتشوقت إلى المتجر والكسب والفوائد، والنفسُ أمَّارة بالسوء، فهممتُ واشتريتُ شيئًا كثيرًا من البضائع المناسبة لسفر البحر، وقد حزمتها إلى السفر، وسافرت بها من مدينة بغداد إلى مدينة البصرة، وجئتُ إلى ساحل البحر، فرأيتُ مركبًا عظيمة، وفيه تجار وركَّاب كثيرة، أهل خير وناس ملاح طيبون، أهل دين ومعروف وصلاح، فنزلت معهم في تلك المركب، وسافرنا على بركة الله تعالى بعونه وتوفيقه، وقد استبشرنا بالخير والسلامة، ولم نزل سائرين من بحر إلى بحر، ومن جزيرة إلى جزيرة، ومن مدينة إلى مدينة، وفي كل مكان مررنا عليه نتفرج ونبيع ونشتري ونحن في غاية الفرح والسرور، إلى أن كنَّا يومًا من الأيام سائرين في وسط البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، فإذا بالريس وهو على جانب المركب ينظر على نواحي البحر، ثم إنه لطم وجهه وطوى قلوع المركب، ورمى مراسيه، ونتف لحيته، ومزَّق ثيابه، وصاح صياحًا عظيمًا، فقلنا له: يا ريس، ما الخبر؟ فقال: اعلموا يا ركَّاب السلامة أن الريح غلب علينا، وقد عسف بنا في وسط البحر، ورمتنا المقادير لسوء بختنا إلى جبل القرود، وما وصل إلى هذا المكان أحد وسلم منه قطُّ، وقد أحسَّ قلبي بهلاكنا أجمعين.
فما استتم قول الريس حتى جاءنا القرود، وقد احتاطوا بالمركب من كل جانب، وهم شيء كثير مثل الجراد المنتشر في المركب، وعلى البر؛ فخفنا إنْ قتلنا منها أحدًا وضربناه، أو طردناه، أن يقتلونا لفرط كثرتهم، والكثرة تغلب الشجاعة، وبقينا خائفين منهم أن ينهبوا رزقنا ومتاعنا، وهم أقبح الوحوش، وعليهم شعور مثل اللبد الأسود، ورؤيتهم تفزع، ولا يفهم أحد لهم كلامًا ولا خبرًا، وهم مستوحشون من الناس، صفر العيون، سود الوجوه، صغار الخلقة، طول كل واحد منهم أربعة أشبار، وقد طلعوا على حبال المرساة، وقطعوها بأسنانهم، وقطعوا جميع حبال المركب من كل جانب، فمالت المركب من الريح، ورست على جبلهم، وصارت المركب في برهم، وقد قبضوا على جميع التجار والركاب، وطلعوا إلى الجزيرة، وأخذوا المركب بجميع ما كان فيها، وراحوا بها إلى حال سبيلهم، وقد تركونا في الجزيرة، وخفيت عنَّا المركب ولا نعلم أين راحوا بها؟
فبينما نحن في تلك الجزيرة نأكل من أثمارها وبقولها وفواكهها، ونشرب من الأنهار التي فيها، إذ لاح لنا بيت عامر في وسط تلك الجزيرة، فقصدناه ومشينا إليه، فإذا هو قصر مشيد الأركان، عالي الأسوار، له باب بدرفتين مفتوح، وهو من خشب الأبنوس، فدخلنا بابَ ذلك القصر فوجدنا له حضيرًا واسعًا مثل الحوش الواسع الكبير، وفي دائره أبواب كثيرة عالية في صدره ومصطبة عالية كبيرة، وفيها أواني طبيخ معلقة على الكوانين، وحواليها عظام كثيرة، ولم نَرَ فيها أحدًا، فتعجَّبْنا من ذلك غاية العجب، وقد جلسنا في حضير ذلك القصر قليلًا، ثم بعد ذلك نمنا، ولم نزل نائمين من ضحوة النهار إلى غروب الشمس، وإذا بالأرض قد ارتجت من تحتنا، وسمعنا دويًّا من الجو، وقد نزل علينا من أعلى القصر شخص عظيم الخلقة في صفة إنسان، وهو أسود اللون طويل القامة كأنه نخلة عظيمة، وله عينان كأنهما شعلتان من نار، وله أنياب مثل أنياب الخنازير، وله فم عظيم الخلقة مثل فم البئر، وله مشافر مثل الجمل مرخية على صدره، وله أذنان مثل الجرسين مرخيتان على أكتافه، وأظافر يديه مثل مخالب السبع؛ فلما نظرناه على هذه الحالة غبنا عن وجودنا، وقوي خوفنا، واشتدَّ فزعنا، وصرنا مثل الموتى من شدة الخوف والجزع والفزع. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.