فلما كانت الليلة ٦٣٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما ركب هو وقومه وركب عجيب هو وقومه، حملت الأمم على الأمم، وحكم قاضي الحرب وفي حكمه ظلم وختم على فمه ولم يتكلم، وجرى الدم وانسجم، ونقش على الأرض طرازًا محكمًا، وشابت الأمم واشتد الحرب واحتدم، وزلَّتِ القدم، وثبت الشجاع واقتحم، وولَّى الجبان وانهزم، ولم يزالوا في حرب وقتال، حتى ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، فدقوا كئوس الانفصال وانفرق بعضهم عن بعض، ورجعت كل طائفة إلى خيامها وباتوا. فلما أصبح الصباح، دقوا كئوس الحرب والكفاح، وقد لبسوا آلة الحرب وتقلَّدوا بالسيوف الملاح، واعتقلوا سمر الرماح، وركبوا الجرد القداح، ونادوا: اليوم لا براح. واصطف العساكر مثل البحر الزاخر، فكان أول مَن فتح باب الحرب سهيم، فساق جواده بين الصفين، ولعب بالسيفين والرمحين، وقلب أبوابًا في الحرب حتى حيَّرَ أولي الألباب، ثم نادى: هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يأتِني كسلان ولا عاجز؟ فبرز له فارس من الكفار، كأنه شعلة من نار، فما أمهله سهيم في الثبات قدامه حتى طعنه فألقاه؛ فبرز له الثاني فقتله، والثالث فمزَّقه، والرابع فأهلكه، ولم يزل كلُّ مَن برز له قتله إلى نصف النهار، حتى قتل مائتَيْ بطل، فعند ذلك صاح عجيب في قومه وأمرهم بالحملة، فحمل الأبطال على الأبطال، وعظم النزال، وكثر القيل والقال، ورنَّتِ السيوف الصقال، وفتكت الرجال بالرجال، وصاروا في أنحس حال، وجرى الدم وسال، وصارت الجماجم للخيل نعال، ولم يزالوا في ضرب شديد حتى ولَّى النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، وانفصلوا من بعضهم، ومضوا إلى خيامهم، وباتوا إلى الصباح. ثم ركب الطائفتان وطلبوا الحرب والكفاح، وانتظر المسلمون غريبًا يركب تحت الأعلام على جري عادته فما ركب، فذهب عبد سهيم إلى سرادق أخيه فلم يجده، فسأل الفراشين فقالوا: ما لنا به علم. فاغتمَّ غمًّا شديدًا، وخرج وأعلم العسكر، فامتنعوا من الحرب وقالوا: إنْ غاب غريب يُهلِكنا عدوُّه.
وكان لغياب غريب أمر عجيب نذكره على الترتيب؛ وهو أنه لما رجع عجيب من حرب أخيه غريب، دعا رجلًا من أعوانه يقال له سيَّار، وقال له: يا سيَّار، ما ادَّخَرْتُك إلا لمثل هذا اليوم، وقد أمرتك أن تدخل عسكر غريب، وتصل إلى سرادق الملك، وتجيء بغريب وتريني شطارتك. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم إن سيَّارًا سار حتى تمكَّنَ من سرادق غريب، وقد أظلم الليل وانصرف كل إنسان إلى مرقده، هذا كله وسيَّار واقف بسبب الخدمة، فعطش غريب فطلب الماء من سيَّار، فقدَّمَ له كوز ماء وشغله بالبنج، فما فرغ غريب من الشرب حتى سبقت رأسه رجليه، فلَفَّه في ردائه وحمله وسار به حتى دخل خيام عجيب، ثم وقف بين يديه ورماه قدامه، فقال له: ما هذا يا سيَّار؟ قال له: هذا أخوك غريب. ففرح عجيب وقال له: باركت فيك الأصنام حلَّه ونبِّهْه. فنشقه بالخل فأفاق، وفتح عينيه فوجد نفسه مربوطًا، وهو في خيمة غير خيمته، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فصاح عليه أخوه وقال له: أتجرؤ عليَّ يا كلب وتطلب قتلي وتطالبني بثأر أبيك وأمك؟ فأنا اليوم أُلحِقك بهما وأريح الدنيا منك. فقال له غريب: يا كلب الكفَّار، سوف تنظر مَن تدور عليه الدوائر، ويقهره الملك القاهر، العالم بما في السرائر، الذي يتركك في جهنم معذَّبًا جائرًا، فارحم نفسك وقل معي: لا إله إلا الله، إبراهيم خليل الله. فلما سمع عجيب كلام غريب، شخر وسبَّ إلهه الحجر، وأمر بإحضار السيَّاف ونطع الدم، فنهض الوزير وقبَّلَ الأرض، وكان مسلمًا في الباطن كافرًا في الظاهر وقال: يا ملك، أمهل لا تعجل حتى نعرف الغالب من المغلوب، فإنْ كنَّا غالبين فنحن متمكِّنون من قتله، وإنْ كنَّا مغلوبين يكون إبقاؤه في أيدينا قوةً لنا. فقال الأمراء: صدق الوزير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.