فلما كانت الليلة ٦٤١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عجيبًا أرسل يحضر العسكر فقصدوا الكوفة وحضروا، وأما غريب فإنه صار متأسفًا على هروب عجيب، وأرسل خلفه ألف بطل وفرَّقَهم في جميع الطرق، فساروا يومًا وليلة فلم يجدوا له خبرًا، ثم رجعوا وأخبروا غريبًا، فطلب أخاه سهيمًا فما وجده، فخاف عليه من نوائب الزمان واغتمَّ غمًّا شديدًا. فبينما هو كذلك وإذا بسهيم داخل عليه، وقبَّلَ الأرض بين يديه، فقام غريب لما نظر إليه وقال: أين كنتَ يا سهيم؟ فقال له: يا ملك، قد وصلتُ إلى الكوفة فوجدتُ الكلبَ عجيبًا وصل إلى محل عزِّه، وأمر الحكماء أن يداووه مما به، فداووه فتعافى وكتب الكتب وأرسَلَها لنوَّابه فأتوه بالعساكر. فأمر غريب عسكره بالرحيل، فهدوا الخيام وصاروا قاصدين الكوفة، فلما وصلوا إليها وجدوا لها عساكر مثل البحر الزاخر، ليس لها أول من آخِر، فنزل غريب بعسكره مقابل عسكر الكفار، ونصبوا الخيام وأقاموا الأعلام، ودخل على الطائفتين الظلام، فأوقدوا النيران وتحارس الفريقان حتى طلع النهار، فقام الملك غريب توضَّأَ وصلَّى ركعتين على ملة أبينا الخليل إبراهيم عليه السلام، وأمر بدقِّ طبول الحرب فدقت، والأعلام خفقت، والفرسان لدروعها لبست، ولخيولها ركبت، ولأنفسها أشهرت، ولميدان الحرب طلبت، فأول مَن فتح باب الحرب الملك الدامغ عم الملك غريب، وقد ساق جواده بين الصفين، واشتهر بين الفريقين، ولعب بالرمحين والسيفين، حتى حيَّرَ الفرسان، وتعجَّبَ منه الفريقان، فصاح: هل من مبارز؟ لا يأتِني كسلان ولا عاجز؟ أنا الملك الدامغ أخو الملك كندمر. فبرز له بطل من فوارس الكفار، كأنه شعلة نار، وحمل على الدامغ من غير كلام، فلاقاه الدامغ وطعنه في صدره، فخرج السنان من كتفه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار.
وبرز له الثاني فقتله، والثالث فقتله، ولم يزل كذلك حتى قتل منهم ستةً وسبعين رجلًا أبطالًا، فعند ذلك توقفت الرجال والأبطال عن المبارزة، فصاح الكافر عجيب على قومه وقال: ويلكم يا قوم، إن برزتم له جميعًا واحدًا بعد واحد، فإنه لا يُبقِي منكم أحدًا قائمًا ولا قاعدًا، فاحملوا عليه حملة واحدة حتى تتركوا الأرض منهم خالية ورءوسهم تحت حوافر الخيل مجندلة. فعند ذلك هزوا العلم المدهش، وانطبقت الأمم على الأمم، وسال الدم على الأرض وانسجم، وحكم قاضي الحرب وفي حكمه ما ظلم، وثبت الشجاع في مقام الحرب راسخ القدم، وولَّى الجبان وانهزم، وما صدق أن ينقضي النهار ويُقبِل الليل بجندس الظلام، ولم يزالوا في حرب وقتال وضرب نصال، حتى ولَّى النهار وأظلم الليل بالاعتكار؛ فعند ذلك دقَّ الكفار طبل الانفصال، فما رضي غريب بل هجم على المشركين وتبعه المؤمنون الموحِّدون، فكم قطعوا رءوسًا ورقابًا، وكم مزَّقوا أيادي وأصلابًا، وكم هشَّموا ركبًا وأعصابًا، وكم أهلكوا كهولًا وشبابًا، فما أصبح الصباح إلا وقد عزم الكفار على الهروب والرواح، وقد انهزموا عند انشقاق الفجر الوضاح، وتبعهم المسلمون إلى وقت الظهر وقد أسروا منهم ما يزيد عن عشرين ألفًا، وقد أتَوْا بهم مكتَّفين، ونزل غريب على باب الكوفة وأمر مناديًا أن ينادي في المدينة المذكورة بالأمان والاطمئنان، لمَن يترك عبادة الأصنام ويوحِّد الملك العلَّام، خالق الآنام والضياء والظلام. فعند ذلك نادوا في شوارع المدينة كما قال بالأمن، وأسلَمَ كلُّ مَن كان فيها كبارًا وصغارًا، وخرجوا كلهم جددوا إسلامهم قدام الملك غريب، وقد فرح بهم غاية الفرح واتسع صدره وانشرح.
ثم سأل عن مرداس وبنته مهدية، فأخبروه أنه كان نازلًا خلف الجبل الأحمر، فعند ذلك أرسل إلى أخيه سهيم فحضر عنده فقال له: اكشف لي عن خبر أبيك. فركب جواده وما تأخَّر، وقد اعتقل رمحه الأسمر وما قصَّر، وسار متوجِّهًا إلى الجبل الأحمر، وفتَّشَ فما رأى له خبرًا ولا لقومه أثرًا، ورأى مكانهم شيخًا من العرب كبير السن، حطيمًا من كثرة السنين، فسأله سهيم عن حال الرجال وأين مضوا؟ فقال له: يا ولدي، إن مرداسًا لما سمع بنزول غريب على الكوفة خاف خوفًا عظيمًا، وأخذ بنته وقومه وجميع جواريه وعبيده، وسار في تلك البراري والقفار، ولا أدري أين توجه. فلما سمع سهيم كلام الشيخ رجع إلى أخيه وأعلَمَه بذلك، فاغتمَّ غمًّا شديدًا، وجلس على سرير ملك أبيه، وفتح خزائنه وفرَّقَ الأموال على جميع الأبطال، وأقام في الكوفة وأرسل الجواسيس تكشف أمر عجيب، وأمَرَ بإحضار أرباب الدولة، فأتوه طائعين، وكذلك أهل المدينة، وخلع عليهم الخلع السنية وأوصاهم بالرعية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.