فلما كانت الليلة ٦٤٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما خلع على أهل الكوفة وأوصاهم بالرعية، ركب في بعض الأيام إلى الصيد والقنص، وخرج في مائة فارس وسار إلى أن وصل إلى وادٍ ذي أشجار وأثمار، كثير الأنهار والأطيار، ومرتع للظبي والغزلان، ترتاح إليه النفوس وتنعش روائحه من فترة العكوس، فأقاموا فيه ذلك اليوم، وكان يومًا مزهرًا، وباتوا فيه إلى الصباح، فصلَّى غريب ركعتين بعد الوضوء وحمد الله تعالى وشكره، وإذا بصراخ وهرج لهما طنين في ذلك المرج، فقال غريب لسهيم: اكشف لنا الأخبار. فمرق من وقته وسار حتى رأى أموالًا منهوبة، وخيلًا مجنوبة، وحريمًا مسبيَّة وأولادًا وصياحًا، فسأل بعض الرعاة وقال لهم: أي شيء الخبر؟ قالوا: هذا حريم مرداس سيد بني قحطان وأمواله وأموال الحي الذي معه؛ فإن الجمرقان بالأمس قتل مرداسًا ونهب أمواله وسبى عياله، وأخذ أموال الحي جميعه؛ والجمرقان من دأبه شنُّ الغارات وقطع الطرقات، وهو جبَّار عنيد ما تقدر عليه العربان ولا الملوك؛ لأنه شر مكان.
فلما سمع سهيم بقتل أبيه وسبي الحريم ونهب الأموال، عاد إلى أخيه غريب وأعلمه بذلك، فازداد نارًا على نار وهاجت به الحمية لكشف العار وأخذ الثأر، فركب في قومه طالبين الفرصة، وسار إلى أن وصل إلى القوم فصاح على الرجال: الله أكبر على مَن طغى وبغى وكفر. وقتل منهم في حملة واحدة واحدًا وعشرين بطلًا، ثم وقف في حومة الميدان بقلب غير جبان وقال: أين الجمرقان؟ يبرز لي حتى أذيقه كأس الهوان وأخلي منه الأوطان. فما فرغ غريب من كلامه حتى برز الجمرقان كأنه جلة من الجلل، أو قطعة من جبل بالحديد مسربل، وكان عملاقًا طويلًا جدًّا، فصدم غريبًا صدمة جبَّار عنيد من غير كلام ولا سلام، فحمل عليه غريب ولاقاه كالأسد الضاري، وكان مع الجمرقان عمود من الحديد الصيني ثقيل رزين، لو ضرب به جبلًا لهدمه، فحمله في يده وضرب به غريبًا على رأسه، فزاغ عنه غريب، فنزلت في الأرض فغاصت فيها نصف ذراع، ثم إن غريبًا تناوَلَ الدبوس وضرب الجمرقان على مقبض كفِّه، فهرس أصابعه فوقع العمود من يده، فانحنى غريب من بحر سرجه وخطفه أسرع من البرق الخاطف، وضرب به الجمرقان على صف أضلاعه، فوقع على الأرض كالنخلة السحوق، فأخذه سهيم وأدار كتافه وسحبه بحبل، واندفعت فرسان غريب على فرسان الجمرقان، فقتلوا خمسين وولَّى الباقي هاربين، ولم يزالوا في هزيمتهم حتى وصلوا حيهم وأعلنوا بالصياح، فركب كلُّ مَن في الحصن ولاقوهم وسألوهم عن الخبر، فأعلموهم بما كان، فلما سمعوا بأسر سيدهم تسابقوا إلى خلاصه وساروا قاصدين الوادي.
وكان الملك غريب لما أسر الجمرقان وهربت أبطاله، نزل عن جواده وأمر بإحضار الجمرقان، فلما حضر خضع له وقال: أنا في جيرتك يا فارس الزمان. فقال له غريب: يا كلب العرب، هل تقطع الطريق على عباد الله تعالى ولا تخاف من رب العالمين؟ فقال له الجمرقان: يا سيدي، وما رب العالمين؟ قال غريب: يا كلب، وما تعبد من المصائب؟ قال له: يا سيدي، أعبد إلهًا من عجوة بالسمن والعسل، وفي بعض الأوقات آكله وأعمل غيره. فضحك غريب حتى استلقى على قفاه وقال: يا تعيس، ما يُعبَد إلا الله تعالى الذي خلقك وخلق كل شيء، ورزق كل حي، ولا يخفى عليه شيء، وهو على كل شيء قدير. فقال الجمرقان: وأين هذا الإله العظيم حتى أعبده؟ قال له غريب: يا هذا، اعلم أن ذلك الإله اسمه الله، وهو الذي خلق السموات والأرض، وأنبت الأشجار وأجرى الأنهار، وخلق الوحوش والأطيار، والجنة والنار، واحتجب عن الأبصار، يَرَى ولا يُرَى، وهو بالمنظر الأعلى، وهو الذي خلقنا ورزقنا سبحانه لا إله إلا هو. فلما سمع الجمرقان كلام غريب انفتحت مسامع قلبه واقشعرَّ جلده وقال: يا مولاي، فما أقول حتى أصير منكم ويرضى عليَّ هذا الرب العظيم؟ قال له: قل لا إله إلا الله إبراهيم الخليل رسول الله. فنطق الجمرقان بالشهادة، فكُتِب من أهل السعادة، فقال له: هل ذقتَ حلاوةَ الإسلام؟ قال: نعم. قال غريب: حلُّوا قيوده. فحلوها، فقبَّلَ الأرض قدام غريب وقبَّلَ رجل غريب، فبينما هم كذلك وإذا بغبار قد ثار حتى سد الأقطار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.