فلما كانت الليلة ٦٤٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجمرقان لما هجم على الكفار بقومه وخيوله وجماله في الليل والناس نيام، قام المشركون مدهوشين، فخطفوا سلاحهم ووقعوا في بعضهم ضربًا حتى قُتِل أكثرهم، وقد نظروا إلى بعضهم فلم يجدوا قتيلًا من المسلمين، بل وجدوهم راكبين متسلِّحين، فعلموا أنها حيلة عُمِلت عليهم، فصاح القورجان على بقية قومه وقال: يا بني الزواني، الذي أردنا أن نفعله بهم فعلوه بنا، وقد غلب مكرهم على مكرنا. فأرادوا أن يحملوا، وإذا بغبار قد ثار حتى سدَّ الأقطار، فضربته الرياح فعَلَا وتسردق، وفى الجو تعلَّق، وبان من تحت الغبار لمعان الخود وبريق الزرد، وما معهم إلا كل بطل أمجد، قد تقلَّدَ بسيف مهند، وقد اعتقل برمح أملد، فلما نظر الكفار الغبار توقفوا عن القتال، وأرسلت كل طائفة ساعيًا، فساروا تحت الغبار، ثم نظروا وعادوا فأخبروا أنهم مسلمون، وكان الجيش القادم الذي أرسله غريب غول الجبل، وكان هو سائرًا قدام جيشه فوصل إلى عسكر المسلمين الأبرار، فعندها حمل الجمرقان وقومه وقد هجموا على الكفار كأنهم شعلة نار، وأعملوا فيهم السيف البتَّار، والرمح الرديني الخطَّار، واسودَّ النهار وعميت الأبصار من كثرة الغبار، وثبت الشجاع الكرار، وهرب الجبان الفرار، وطلب البراري والقفار، وصار الدماء على الأرض كالتيار.
ولم يزالوا في حرب وقتال حتى فرغ النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، ثم انفصل المسلمون من الكفار، ونزلوا في الخيام وأكلوا الطعام، وباتوا حتى ولَّى الظلام وأقبل النهار بالابتسام، ثم صلَّى المسلمون صلاة الصبح وركبوا للحرب، وكان القورجان قد قال لقومه لما انفصلوا من الحرب، وقد وجدوا أكثرهم مجروحًا، وقد فني منهم الثلثان بالسيف والسنان، فقال: يا قوم، غدًا أبرز أنا لحومة الميدان، ومقام الحرب والطعان، وآخذ الشجعان في المجال. فلما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، ركب الطائفتان وأكثروا الصياح، وشهروا السلاح ومدُّوا سمر الرماح، واصطفوا للحرب والكفاح، وكان أول مَن فتح باب الحرب القورجان بن الجلند بن كركر وقال: لا يأتِني اليومَ كسلان ولا عاجز. كل هذا والجمرقان وسعدان الغول تحت الأعلام، فبرز مقدم بني عامر وبارَزَ القورجان في حومة الميدان، فحمل الاثنان كأنهما كبشان يتناطحان مدةً من الزمان، بعد ذلك هجم القورجان على المقدم ومسكه من جلباب ذراعه وجذبه، فاقتلعه من سرجه، وقد خبطه في الأرض وأشغله بنفسه، فكتَّفَه الكفار وساروا به إلى الخيام. ثم إن القورجان جال وصال وطلب النزال، فبرز له ثاني مقدم حتى أسر سبعة مقدمين قبل الظهر. ثم صاح الجمرقان صيحة دوى لها الميدان، وسمعها العسكران، وهجم على القورجان بقلب وجدان، وأنشد هذه الأبيات:
فلما سمع القورجان كلام الجمرقان، شخر ونخر وسبَّ الشمس والقمر، وحمل على الجمرقان وهو ينشد هذه الأبيات:
فلما سمع الجمرقان كلامه، حمل عليه بقلب قوي وتضاربا بالسيوف حتى ضجَّتْ منهم الصفوف، وتطاعنا بالرماح وكثر بينهما الصياح، ولم يزالَا في حرب وقتال حتى فات العصر وقد ولَّى النهار، ثم هجم الجمرقان على القورجان، وضربه بالعمود على صدره فألقاه على الأرض مثل جذع النخلة، فكتَّفَه المسلمون وسحبوه بحبل مثل الجمال، فلما نظرت الكفار إلى سيدهم أسيرًا، أخذتهم حمية الجاهلية، فحملوا على المسلمين يريدون خلاص مولاهم، فقابلتهم أبطال المسلمين وتركتهم على الأرض مطروحين، وولَّى بقيتهم هاربين، وللنجاة طالبين، والسيف في قفاهم له طنين، فلم يزالوا خلفهم حتى شتَّتوهم في الجبال والقفار، ثم رجعوا عنهم إلى الغنيمة وكانت شيئًا كثيرًا، من خيل وخيام وغيرهما، وقد غنموا غنيمة يا لها من غنيمة! ثم توجهوا وعرض الجمرقان الإسلام على القورجان، وهدَّده وخوَّفه فلم يُسلِم، فقطعوا رقبته وحملوا رأسه على رمح، ثم رحلوا قاصدين مدينة عمان.
وأما ما كان من أمر الكفار، فإنهم أخبروا الملك بقتل ولده وهلاك العسكر، فلما سمع الجلند هذا الخبر، ضرب بتاجه الأرض ولطم على وجهه حتى طلع الدم من منخريه، ووقع على الأرض مغشيًّا عليه، فرشوا على وجهه ماءَ الورد، فأفاق وصاح على وزيره وقال له: اكتب الكتب إلى جميع النواب، ومُرْهم ألَّا يتركوا ضارب سيف ولا طاعنًا برمح ولا حاملَ قوس إلا ويأتون بهم جميعًا. فكتب الكتب وأرسلها مع السعاة، فتجهَّزَ النوَّاب، وسار في عسكر جرَّار قدره مائة ألف وثمانون ألفًا، فهيَّئُوا الخيام والجِمال وجياد الخيل، وأرادوا أن يرحلوا، وإذ بالجمرقان وسعدان الغول قد أقبلَا في سبعين ألف فارس كأنهم ليوث عوابس، وكل منهم في الحديد غاطس؛ فلما نظر الجلند إلى المسلمين قد أقبلوا فَرِح وقال: وحقِّ الشمس ذات الأنوار، ما أُبْقِي من الأعداء ديَّارًا ولا مَن يرد الأخبار، وأخرب العراق وآخذ ثأر ولدي الفارس المغوار، ولا تبرد لي نار. ثم التفت إلى عجيب وقال له: يا كلب العراق، هذه جلبتك لنا، فأنا وحق معبودي إن لم أنتصف من عدوي لأقتلنَّكَ أشرَّ قتلة. فلما سمع عجيب هذا الكلام اغتمَّ غمًّا شديدًا وصار يلوم نفسه، ثم صبر حتى نزل المسلمون ونصبوا خيامهم وأظلم الليل، وكان منعزلًا عن الخيام مع مَن بقي من عشيرته، فقال لهم: يا بني عمي، اعلموا أنه لما أقبل المسلمون، فزعت منهم أنا والجلند غاية الفزع، وقد علمتُ أنه لم يقدر أن يحميني من أخي ولا من غيره، والرأي عندي أن ترحلوا بنا إذا نامت العيون، ونقصد الملك يعرب بن قحطان؛ لأنه أكثر جندًا وأقوى سلطانًا. فلما سمع قومه هذا الكلام قالوا: هذا هو الصواب. فأمرهم أن يوقدوا النار على أبواب الخيام، ويرحلوا في حندس الظلام، ففعلوا ما أمرهم به وساروا، فما أصبحوا حتى قطعوا بلادًا بعيدة.
ثم أصبح الجلند ومائتان وستون ألفَ مدرَّع غاطسين في الحديد والزرد النضيد، ودقوا كئوس الحرب واصطفوا للطعن والضرب، وركب الجمرقان وسعدان في أربعين ألف فارس أبطال شداد، تحت كل علم ألف فارس شداد جياد، مقدمون في الطراد، فاصطفَّ العسكران وطلبَا الضرب والطعان، وسحبا السيوف وأسنة المران، لشرب كأس المنون، وكان أول من فتح باب الحرب سعدان، وهو كأنه جبل صوان أو من مَرَدة الجان، فبرز له بطل من الكفار فقتله ورماه في الميدان، وصاح على أولاده وغلمانه وقال: أشعلوا النار واشووا هذا القتيل. ففعلوا ما أمرهم به وقدَّموه له مشويًّا، فأكله ونهش عظمه، والكفار واقفون ينظرون من بعيد، فقالوا: يا للشمس ذات الأنوار! وفزعوا من قتال سعدان، فصاح الجلند في قومه وقال: اقتلوا هذا القرمان. فنزل له مقدم من الكفار فقتله سعدان، ولم يزل يقتل فارسًا بعد فارس حتى قتل ثلاثين فارسًا، فعندها توقَّفَ الكفار اللئام عن قتال سعدان وقالوا: مَن يقاتل الجان والغيلان؟ فصاح الجلند وقال: تحمل عليه مائة فارس وتأتيني به أسيرًا أو قتيلًا. فبرز مائة فارس وحملوا على سعدان وقصدوه بالسيوف والسنان، فتلقَّاهم بقلب أقوى من الصوان، وهو يوحِّد الملك الديَّان، الذي لا يشغله شأن عن شأن، وقال: الله أكبر. وضرب فيهم بالسيف حتى ألقى رءوسهم، فما جال فيهم غير جولة واحدة، فقتل منهم أربعة وسبعين وهرب الباقي، فصاح الجلند على عشرة مقدمين تحت كل مقدم ألف بطل وقال: ارموا جواده بالنبل حتى يقع من تحته فاقبضوه باليد. فحمل على سعدان عشرة آلاف فارس، فتلقَّاهم بقلب قوي، فنظر الجمرقان والمسلمون إلى الكفار وقد حملوا على سعدان، فكبَّروا وحملوا عليهم، فما وصلوا إلى سعدان حتى قتلوا جواده وأخذوه أسيرًا، ولم يزالوا حاملين على الكفار حتى أظلم النهار، وعميت الأبصار، ورنَّ السيف البتَّار، وثبت كل فارس مغوار، ولحق الجبان والانبهار، وبقي المسلمون في الكفار كالشامة البيضاء في الثور الأسود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.