فلما كانت الليلة ٦٤٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عسكر المسلمين لما حضر لهم الملك غريب، فرحوا فرحًا شديدًا، وقبَّلوا الأرض بين يديه وداروا حوله، فرحَّبَ بهم وفرح بسلامتهم، ووصلوا الخيام ونصبوا له السرادقات والأعلام، وجلس الملك غريب على سرير ملكه وأرباب دولته من حوله، فحكوا له جميع ما جرى لسعدان. وأما الكفار فإنهم اجتمعوا يفتشون على عجيب فلم يجدوه بينهم ولا في خيامهم، فأخبروا الجلند بن كركر بهروبه، فقامت عليه القيامة وعضَّ على أصبعه وقال: وحقِّ الشمس ذات الأنوار، إنه كلب غدَّار، هرب مع قومه الأشرار في البراري والقفار، ولكن ما بقي يدفع هذه الأعداء إلا القتال الشديد، فشدُّوا عزمكم وقوُّوا قلوبكم، واحذروا من المسلمين. وأما الملك غريب فإنه قال لقومه: شدُّوا عزمكم وقوُّوا قلوبكم، واستعينوا بربكم، واسألوه أن ينصركم على عدوكم. فقالوا: يا ملك، سوف تنظر ما نفعل في حومة الميدان، ومقام الحرب والطعان. وباتت الطائفتان حتى أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، وأشرقت الشمس على رءوس الربى والبطاح، فصلَّى غريب ركعتين على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم كتب مكتوبًا وأرسله مع أخيه سهيم إلى الكفار، فلما وصل إليهم قالوا له: ما تريد؟ قال لهم: أريد الحاكم عليكم. فقالوا: قف حتى نشاوره عليك. فوقف ثم شاوروا عليه الجلند وأخبروه بحاله، فقال: عليَّ به. فأحضروه بين يديه، فقال له: مَن أرسلك؟ قال: الملك غريب الذي حكَّمَه الله على العرب والعجم، فخذ كتابه وردَّ جوابه.
فأخذ الجلند الكتاب ففكَّه وقرأه فوجد: «بسم الله الرحمن الرحيم، الرب القديم الواحد العظيم، الذي هو بكل شيء عليم، رب نوح وصالح وهود وإبراهيم، ورب كل شيء، والسلام على مَن اتَّبَع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى، واتَّبَع طريقَ الهدى، واختار الآخرة على الأولى. أما بعد؛ يا جلند، فإنه لا يُعبَد إلا الله الواحد القهَّار، خالق الليل والنهار، والفلك الدوَّار، وأرسل الأنبياء الأبرار وأجرى الأنهار، ورفع السماء وبسط الأرض، وأنبت الأشجار ورزق الطير في الأوكار، ورزق الوحوش في القفار، فهو الله العزير الغفار، الحليم الستار، الذي لا تدركه الأبصار، مكوِّر الليل على النهار، الذي أرسل وأنزل الكتب. واعلم يا جلند أنه لا دين إلا دين إبراهيم الخليل، فاسلم تسلم من السيف البتَّار، وفي الآخرة من عذاب النار، وإنْ أبيتَ الإسلامَ فأبشِرْ بالدمار، وخراب الديار وقَطْع الآثار، وأرسل إليَّ الكلبَ عجيبًا لآخذ ثأر أبي وأمي.»
فلما قرأ الجلند الكتاب قال لسهيم: قل لمولاك إن عجيبًا هرب هو وقومه، وما ندري أين ذهب، وأما الجلند فلا يرجع عن دينه، وغدًا يكون الحرب بيننا، والشمس تنصرنا. فرجع سهيم لأخيه وأعلمه بما قد جرى، فباتوا حتى أصبح الصباح، ثم أخذ المسلمون آلة السلاح، وركبوا الخيل القراح، وأعلنوا بذِكْر المَلِك الفتَّاح، خالق الأجساد والأرواح، وأعلنوا بالتكبير، ودقوا طبول الحرب حتى ارتجَّتِ الأرض، وتكلم كل فارس جحجاح وبطل وقاح، وقصدوا الحرب حتى ارتجَّتِ الأرض، فأول مَن فتح باب الحرب الجمرقان، وساق جواده في حومة الميدان، ولعب بالسيف والنشاب حتى حيَّرَ أولي الألباب، ثم صاح: هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يأتِني اليومَ كسلان ولا عاجز؟ أنا قاتل القورجان بن الجلند، فمَن يبرز لأخذ الثأر؟ فلما سمع الجلند ذِكْرَ ولده، صاح على قومه وقال: يا أولاد الزواني، ائتوني بهذا الفارس الذي قتل ولدي حتى آكل لحمه وأشرب دمه. فحمل عليه مائة بطل، فقتل أكثرهم وهزم أميرهم، فلما نظر الجلند ما فعل الجمرقان، صاح على قومه وقال: احملوا عليه حملة واحدة. فهزوا العلم المدهش وانطبقت الأمم على الأمم، وحمل غريب بقومه والجمرقان، وتصادم الفريقان كأنهم بحران يلتقيان، فأعمل السيف اليماني والرمح حتى مزَّقَ الصدور والأبدان، ورأى الصفَّان مَلَكَ الموت بالعيان، وطلع الغبار إلى العنان، وصُمَّتِ الآذان وخرس اللسان، وأحاط الموت من كل مكان، وثبت الشجاع وولَّى الجبان. ولم يزالوا في حرب وقتال، حتى ولَّى النهار ودقوا طبول الانفصال، وافترقوا من بعضهم ورجعت كل طائفة إلى خيامها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.