فلما كانت الليلة ٦٤٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك غريبًا لما انقضى الحرب وافترقوا من بعضهم، ورجعت كل طائفة إلى خيامها، جلس على سرير مُلْكه ومحل سلطانه واصطفَّ أصحابه حوله، فقال لقومه: أنا جزعت من القهر، وبهروب هذا الكلب عجيب، ولا أعرف أين مضى؟ وإن لم ألحقه وآخذ ثأري أموت من القهر. فتقدَّمَ أخاه سهيم الليل وقبَّلَ الأرض وقال: يا ملك، أنا أمضي إلى عسكر الكفَّار، وأكشف خبر الكلب الغدَّار عجيب. فقال غريب: سِرْ وتحقَّقْ خبرَ هذا الخنزير. فتزيَّا سهيم بزيِّ الكفار، ولبس لبسهم فصار كأنه منهم، ثم قصد خيام الأعداء فوجدهم نيامًا، وهم سكارى من الحرب والقتال، ولم يَبْقَ من القوم بلا نوم سوى الحرَّاس، فعبر سهيم وهجم على السرادق، فوجد الملك نائمًا وما عنده أحد، فتقدَّمَ وشمه البنج الطيَّار، فكان كأنه ميت، وخرج فأحضر بغلًا ولفَّ الملك في ملاءة الفرش وحطَّه فوق البغل، وحط فوقه الحصير وسار حتى وصل إلى سرادق غريب ودخل على الملك؛ فأنكره الحاضرون وقالوا له: مَن أنت؟ فضحك سهيم وكشف وجهه فعرفوه، فقال له غريب: ما حِملُكَ يا سهيم؟ فقال له: يا ملك، هذا الجلند بن كركر. ثم حلَّه فعرفه غريب وقال: يا سهيم، نبِّهْه. فأعطاه الخل والكندز، فرمى البنج من أنفه وفتح عينيه، فوجد نفسه بين المسلمين فقال: أي شيء هذا المنام القبيح؟ ثم إنه أطبق عينَيْه ونام، فلكزه سهيم وقال له: افتح عينيك يا ملعون. ففتح عينيه وقال: أين أنا؟ فقال سهيم: أنت في حضرة الملك غريب بن كندمر ملك العراق. فلما سمع الجلند هذا الكلام قال: يا ملك أنا في جيرتك، واعلم أن ما لي ذنب، والذي أخرجنا نقاتِل هو أخوك، ورمى بيننا وبينك وهرب. فقال غريب: وهل تعلم طريقه؟ فقال: لا، وحقِّ الشمس ذات الأنوار ما أعلم أين سار. فأمر غريب بتقييده والمحافظة عليه، وتوجَّهَ كلُّ مقدم إلى خيمته ورجع الجمرقان وقومه وقال: يا بني عمي، قصدي أن أعمل في هذه الليلة عملة أبيِّض بها وجهي عند الملك غريب؟ فقالوا له: افعل ما تشاء، فنحن لأمرك سامعون مُطِيعون. فقال: احملوا سلاحكم وأنا معكم وخففوا خطوكم ولا تخلُّوا النمل يدري بكم، وتفرَّقوا حول خيام الكفار، فإذا سمعتم تكبيري فكبِّروا وصيحوا قائلين: الله أكبر. وتأخَّروا واقصدوا باب المدينة، ونطلب النصر من الله تعالى.
فاستعدَّ القوم بالسلاح الكامل، وصبروا إلى نصف الليل وتفرَّقوا حول الكفار وصبروا ساعة، وإذا بالجمرقان ضرب بسيفه على ترسه وقال: الله أكبر. فدوى الوادي، وفعل قومه مثله وصاحوا: الله أكبر. حتى دوى لهم الوادي والجبال، والرمال والتلال وسائر الأطلال، فانتبه الكفار وقد اندهشوا ووقعوا في بعضهم، وقد دار السيف بينهم، وتأخَّرَ المسلمون وطلبوا أبواب المدينة، وقتلوا البوَّابين ودخلوا المدينة وملكوها بما فيها من مال وحريم.
هذا ما جرى للجمرقان، وأما الملك غريب فإنه سمع الصياح بالتكبير، فركب وركب العسكر عن آخرهم وتقدَّمَ سهيم حتى قرب من الوقعة، فنظر بني عامر والجمرقان قد شنُّوا الغارة على الكفار وأسقوهم كأس المنون، فرجع وأخبر أخاه بما كان، فدعا للجمرقان، ولم تزل الكفار نازلين في بعضهم بالصارم البتَّار، باذلين جهدهم حتى طلع النهار، وأضاء بنوره على الأقطار، فعند ذلك صاح غريب على قومه وقال: احملوا يا كرام وأرضوا الملك العلَّام. فحملت الأبرار على الفجَّار، ولعب السيف البتَّار، وجال الرمح الخطار في صدر كل منافق كفَّار، وأرادوا أن يدخلوا مدينتهم، فخرج لهم الجمرقان وبنو عمه وصادروهم بين جبلين محيطين، وقتلوا منهم خلقًا ما لهم عدد، وتشتَّتَ الباقي في البراري والقفار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.