فلما كانت الليلة ٦٥٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عسكر المسلمين لما حملوا على الكفار مزَّقوهم بالصارم البتَّار، وتشتتوا في البراري والقفار، ولم يزالوا خلف الكفَّار بالسيف حتى انتشروا في السهل والأوعار، ثم رجعوا إلى مدينة عمان، ودخل الملك غريب قصر الجلند، وجلس على كرسي مملكته، ودار أصحابه حوله ميمنة وميسرة، فدعا بالجلند فأسرعوا إليه وأحضروه بين يدي الملك غريب، فعرض عليه الإسلام فأبى، فأمر بصلبه على باب المدينة، ثم رموه بالنبال إلى أن صار مثل القنفذ، ثم إن غريبًا خلع على الجمرقان وقال له: أنت صاحب البلد وحاكمها وصاحب ربطها وحلها، فإنك فتحتها بسيفك ورجالك. فقبَّلَ الجمرقان رِجل الملك غريب وشكره ودعا له بدوام النصر والعز والنعم. ثم إن غريبًا فتح خزائن الجلند ونظر إلى ما فيها من الأموال، وبعد ذلك فرَّقَ على المقدمين والرجال أصحاب الرايات والقتال، وفرَّقَ على البنات والصبيان، وصار يفرِّق من الأموال مدة عشرة أيام، ثم إنه بعد ذلك كان نائمًا في بعض الليالي، فرأى في منامه رؤيا هائلة، فانتبه فَزِعًا مرعوبًا، ثم نبَّهَ أخاه سهيمًا وقال له: إني رأيت في منامي أني في وادٍ، وذلك الوادي في مكان متَّسِع، وقد انقضَّ علينا من الطير جارحتان لم أرَ في عمري أكبر منهما، ولهما سيقان مثل الرماح، وقد هجمَا علينا ففزعنا منهما، فهذا الذي رأيته. فلما سمع سهيم هذا الكلام قال: يا ملك، هذا عدو كبير فاحترس على نفسك منه. فلم يَنَمْ غريب بقية الليلة.
فلما أصبح الصباح طلب جواده وركبه، فقال له سهيم: إلى أين تذهب يا أخي؟ فقال: أصبحت ضيِّق الصدر، فقصدي أن أسير عشرة أيام حتى ينشرح صدري. فقال له سهيم: خذ معك ألف بطل. فقال غريب: لا أسير إلا أنا وأنت لا غير. فعند ذلك ركب غريب وسهيم وقصدَا الأودية والمروج، ولم يزالَا سائرين من وادٍ إلى وادٍ، ومن مرج إلى مرج، حتى عبرَا على وادٍ كثير الأشجار والأثمار والأنهار فائح الأزهار، أطياره تغرِّد بالألحان على الأغصان، والهزار يرجع بطيب الألحان، والقمري قد ملأ بصوته المكان، والبلبل بحسه يوقظ الوسنان، والشحرور كأنه إنسان، والفاخت والمطوق تجاوبهما الدرة بأفصح لسان، والأشجار في أثمارها من كل مأكول وفاكهة زوجين، فأعجبهما ذلك الوادي فأكلَا من أثماره وشربَا من أنهاره، وقعدا تحت ظل أشجاره، فغلب عليهما النعاس فناما وسبحان مَن لا ينام. فبينما هما نائمان، وإذا بماردين شديدين قد انقضَّا عليهما وحطَّ كل واحد منهما أحدهما على كاهله، وارتفعَا إلى أعلى الجو حتى صارَا فوق الغمام، فانتبه سهيم وغريب فوجدَا أنفسهما بين السماء والأرض، ونظرَا إلى مَن حملاهما وإذا هما ماردان، رأس أحدهما رأس كلب، ورأس الآخر رأس قرد، وهو كالنخلة السحوق، ولهما شعر مثل أذناب الخيل، ومخالب مثل مخالب السباع؛ فلما نظر غريب وسهيم إلى ذلك الحال قالَا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان السبب في ذلك أن ملكًا من ملوك الجن اسمه مرعش، وكان له ولد اسمه صاعق يحب جارية من الجن اسمها نجمة، وكان صاعق ونجمة مجتمعَيْن في ذلك الوادي وهما في صفة طيرين، وكان غريب وسهيم نظرا إلى صاعق ونجمة فظنَّاهما طائرين، فرمياهما بنشاب فلم يُصَبْ إلا صاعق، فسال دمه، فحزنت نجمة على صاعق وخطفته وطارت خوفًا أن يصيبها ما أصاب صاعقًا، ولم تزل طائرة به حتى رمته على باب قصر أبيه، فحمله البوابون حتى رموه قدام أبيه، فلما نظر مرعش إلى ولده ورأى النبلة في ضلعه قال: وا ولداه! مَن فعل بك هذه الفعال حتى أخرب دياره وأعجل دماره؟ ولو كان أكبر ملوك الجان. فعند ذلك فتح عينَيْه وقال: يا أبتي، ما قتلني إلا رجل من الإنس بوادي العيون. فما فرغ من كلامه حتى طلعت روحه، فلطم أبوه حتى طلع الدم من فيه، وصاح على ماردين وقال لهما: سيرَا إلى وادي العيون وائتياني بكل مَن فيه. فسافر الماردان حتى وصلا إلى وادي العيون، فرأيا غريبًا وسهيمًا نائمين فخطفاهما وسارَا بهما حتى وصلَا بهما إلى مرعش، فلما انتبه سهيم وغريب من نومهما وجدَا أنفسهما بين السماء والأرض، فقالَا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.