فلما كانت الليلة ٦٥١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الماردين لما خطفا غريبًا وسهيمًا جاءَا بهما إلى مرعش ملك الجن، ولما وضعاهما قدام مرعش وجداه جالسًا على كرسي مملكته، وهو كالجبل العظيم وعلى جثته أربع رءوس: رأس سبع، ورأس فيل، ورأس نمر، ورأس فهد. فقدَّمَا غريبًا وسهيمًا قدام مرعش وقالَا: يا ملك، هذان اللذان وجدناهما في وادي العيون. فنظر إليها بعين الغضب وقد شخر ونخر وطار من أنفه الشرر، وقد خاف منه كلُّ مَن حضر. وقال: يا كلاب الإنس، قتلتما ولدي وأوقدتما النار في كبدي. فقال غريب: ومَن هو ولدك الذي قتلناه؟ ومَن هو الذي نظر ولدك؟ فقال: أَمَا كنتما أنتما في وادي العيون، ونظرتما ولدي في صفة طير ورميتماه بعود نشاب فمات؟ فقال غريب: أنا لا أدري مَن قتله وحقِّ الرب العظيم الواحد القديم، الذي هو بكل شيء عليم، وحقِّ الخليل إبراهيم ما رأينا طيرًا، ولا قتلنا وحشًا ولا طيرًا. فلما سمع مرعش كلام غريب حين حلف بالله وعظمته ونبيه الخليل إبراهيم، علم أنه مسلم، وكان مرعش يعبد النار دون الملك الجبَّار، فصاح على قومه وقال: ائتوني بربتي. فأتوه بتنور من ذهب، فوضعوه بين يديه وأشعلوه بالنار ورموا عليه العقاقير، فطلع له لهيب أخضر ولهيب أزرق ولهيب أصفر، فسجد له الملك والحاضرون. كلُّ هذا وغريب وسهيم يوحِّدان الله تعالى ويكبِّرانه، ويشهدان أن الله على كل شيء قدير. فرفع الملك رأسه، فرأى غريبًا وسهيمًا واقفين لا يسجدان، فقال: يا كلبان، ما لكما لا تسجدان؟ فقال غريب: ويلكم يا ملاعين، إن السجود لا يكون إلا للملك المعبود، مبرز الموجود من العدم إلى الوجود، ومنبع الماء من الحجر الجلمود، الذي حنَّنَ الولد على المولود، ولا يُوصَف بقيام ولا قعود، ربِّ نوح وصالح وإبراهيم الخليل، وهو الذي خلق الجنة والنار، وخلق الأشجار والأثمار؛ فهو الله الواحد القهار.
فلما سمع مرعش هذا الكلام انقلبت عيناه في أم رأسه، وصاح على قومه وقال: كتِّفوا هذين الكلبين وقرِّبوهما لربتي. فكتَّفوا سهيمًا وغريبًا وأرادوا أن يرموهما في النار، وإذا بشرافة من شراريف القصر وقعت على التنور فانكسر وانطفأت النار، وصارت رمادًا طائرًا في الهواء، فقال غريب: الله أكبر، فتح ونصر وخذل مَن كفر، الله أكبر على مَن يعبد النار دون الملك الجبَّار. فعندها قال الملك: إنك ساحر وسحرت ربتي حتى جرى لها هذا الحال. فقال غريب: يا مجنون، لو كان للنار سر وبرهان، كانت منعت عن نفسها ما ضرَّها. فلما سمع مرعش هذا الكلام هدر وزمجر وسب النار، وقال: وحقِّ ديني ما أقتلكم إلا فيها. وأمر بحبسهما ودعا بمائة مارد وأمرهم أن يحملوا الحطب كثيرًا وأن يطلقوا فيه النار، ففعلوا والتهبت نار عظيمة، ولم تزل مشتعلة إلى الصباح. ثم ركب مرعش على فيل في تخت من ذهب مرصَّع بالجواهر، وصارت حوله قبائل الجن وهم أصناف مختلفة، ثم أحضروا غريبًا وسهيمًا، فلما رأيَا لهيب النار استغاثَا بالواحد القهَّار، خالق الليل والنهار، العظيم الشأن الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، ولم يزالا يتوسلان وإذا بسحابة طلعت من الغرب إلى الشرق، وأمطرت مثل البحر الزاخر فأطفأت النار؛ فخاف الملك والجند ودخلوا في قصرها، ثم التفت الملك إلى الوزير وأرباب الدولة وقال لهم: ما تقولون في هذين الرجلين؟ فقالوا: يا ملك، لولا أنهما على الحق ما جرى للنار هذه الفعال، ونحن نقول إنهما على الحق صادقان. قال الملك: قد بان لي الحق والطريقة الواضحة، فعبادة النار باطلة، فلو كانت ربةً لمنعَتْ عن نفسها المطر الذي أطفأها، والحجر الذي كسر تنورها وقد صارت رمادًا، فأنا آمنتُ بالذي خلق النار والنور والظل والحرور، وأنتم ما تقولون؟ فقالوا: يا ملك، ونحن كذلك تابعون سامعون طائعون. ثم دعا بغريب فأحضره بين يديه، فقام له واعتنقه وقبَّلَه بين عينَيْه وقبَّلَ سهيمًا مثل ذلك، ثم إن الأجناد تزاحموا على غريب وسهيم يقبِّلون أيديهما ورأسهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.