فلما كانت الليلة ٦٨١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن معمر القيسي قال: فنهضتُ عند ابتداء الأبيات أقصد جهة الصوت، فما انتهى إلى آخِر الأبيات إلا وأنا عنده، فرأيت غلامًا لم ينبت عِذَاره، وقد خرق الدمع من وجنتَيْه خرقين، فقلت له: نَعِمْتَ غلامًا. فقال: وأنت، فمَن الرجل؟ قلت: عبد الله بن معمر القيسي. قال: أفلك حاجة؟ قلت له: كنتُ جالسًا في الروضة، فما راعني هذه الليلة إلا صوتك، فبنفسي أفديك ما الذي تجده؟ قال: اجلس. فجلست، قال: أنا عُتْبة بن الجبان بن المنذر بن الجموح الأنصاري، عدوت إلى مسجد الأحزاب فبقيتُ راكعًا وساجدًا، ثم اعتزلتُ أتعبَّد، وإذا بنسوة يتهادين كالأقمار، وفي وسطهن جاريةٌ بديعةُ الجمال كاملة الملاحة، فوقفتْ عليَّ وقالت: يا عُتْبة، ما تقول في وصلِ مَن يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبَتْ، فلم أسمع لها خبرًا ولا وقعتُ لها على أثر، وها أنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان. ثم صرخ وانكبَّ على الأرض مغشيًّا عليه. ثم أفاق كأنما صُبِغت ديباجةُ خدَّيْه بورس، وأنشأ يقول هذه الأبيات:
فقلت له: يا عتبة يا ابن أخي، تُبْ إلى ربك واستغفر من ذنبك، فإن بين يديك هول الموقف. فقال: هيهات ما أنا سائل حتى يئوب القارظان. ولم أزل معه حتى طلع الفجر، فقلت له: قُمْ بنا إلى المسجد. فجلسنا فيه حتى صلَّيْنا الظهر، وإذا بالنسوة قد أقبلْنَ، وأما الجارية فليست فيهن، فقلن: يا عتبة، ما ظنك بطالبة وصلك؟ قال: وما بالها؟ قلن: أخذها أبوها وارتحل إلى السماوة. فسألتهن عن اسم الجارية فقلنَ: ريَّا بنت الغطريف السليمي. فرفع رأسه وأنشد هذين البيتين:
فقلت له: يا عتبة، إني وردت بمال جزيل أريد به ستر أهل المروة، والله لَأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضى، فقم بنا إلى مجلس الأنصار. فقمنا حتى أشرفنا على مَلَئِهم، فسلَّمْتُ عليهم فأحسنوا الردَّ، ثم قلت: أيها الملأ، ما تقولون في عُتْبة وأبيه؟ فقالوا: من سادات العرب. قلت: اعلموا أنه رُمِي بداهية الهوى، فأريد منكم المساعدة إلى السماوة. قالوا: سمعًا وطاعة. فركبنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على مكان بني سليم، فعلم الغطريف بمكاننا، فخرج مبادِرًا واستقبلنا وقال: حييتم يا كرام. فقلنا له: وأنت حييتَ، إنَّا لك أضياف. فقال: نزلتم بأكرم منزل رحب. فنزل ثم نادى: يا معشر العبيد، انزلوا. فنزلت العبيد، وفرشت الأنطاع والنمارق، وذبحت النعم والغنم. فقلنا: نحن لا نذوق طعامك حتى تقضي حاجتنا. قال: وما حاجتكم؟ قلنا: نخطب ابنتك الكريمة لعُتْبة بن الجبان بن المنذر، العالي الفخر، الطيب العنصر. فقال: يا إخواني، إن التي تخطبونها أمرها لنفسها، وأنا أدخل وأخبرها. ثم نهض مغضبًا ودخل إلى ريَّا، فقالت: يا أبت، ما لي أرى الغضب بائنًا عليك؟ فقال: ورد عليَّ قوم من الأنصار يخطبونك مني؟ فقالت: سادات كرام، استغفَرَ لهم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، فلمَن الخطبة فيهم؟ فقال لها: لفتًى يُعرَف بعُتْبة بن الجبان. قالت: سمعتُ عُتْبة هذا، إنه يَفِي بما وعد ويدرك ما طلب. فقال: أقسمتُ لا أزوِّجنك به أبدًا، فقد نَمَا إليَّ بعضُ حديثك معه. قالت: ما كان ذلك، ولكن أقسمت أن الأنصار لا يردُّون مردًّا قبيحًا، فأحسِنْ لهم الردَّ. قال: بأي شيء؟ قالت: أغلِظْ عليهم المهر، فإنهم يرجعون. قال: ما أحسن ما قلت! ثم خرج مبادرًا فقال: إن فتاة الحي قد أجابَتْ، ولكن تريد لها مهرَ مثلِها، فمَن القائم به؟ قال عبد الله: فقلت: أنا. قال: أريد لها ألف أسورة من الذهب الأحمر، وخمسة آلاف درهم من ضرب هجر، ومائة ثوب من الأبراد والحبر، وخمسة أكرشة من العنبر. قال: قلتُ لك ذلك، فهل أجبتَ؟ قال: أجبتُ.
فأنفذ عبد الله نفرًا من الأنصار إلى المدينة المنورة، فأتوا بجميع ما ضمنه، وذُبِحت النعم والغنم، واجتمع الناس لأكل الطعام. قال: فأقمنا على هذا الحال أربعين يومًا، ثم قال: خذوا فتاتكم. فحملناها على هودج وجهَّزَها بثلاثين راحلة من التحف، ثم ودَّعَنا وانصرف، وسرنا حتى بقي بيننا وبين المدينة المنورة مرحلة. ثم خرجت علينا خيل تريد الغارة، وأحسب أنها من بني سليم، فحمل عليها عُتْبة بن الجبان، فقتل عدة رجال وانحرف وبه طعنة ثم سقط إلى الأرض، وأتتنا النصرة من سكان تلك الأرض، فطردوا عنَّا الخيل وقد قضى عُتْبة نحبه. وقلنا: وا عتبتاه! فسمعت الجارية ذلك، فألقت نفسها من فوق البعير، وانكبَّتْ عليه وجعلت تصيح بحرقة وتقول هذه الأبيات:
ثم شهقت شهقة واحدة وانقضى نحبها، فحفرنا لهما قبرًا واحدًا، وواريناهما في التراب، ورجعتُ إلى ديار قومي وأقمتُ سبع سنين، ثم عدت إلى الحجاز ودخلت المدينة المنورة للزيارة، فقلتُ: والله لَأعودن إلى قبر عُتْبة. فأتيتُ إليه فإذا هو عليه شجرة عالية، عليها عصائب حمر وصفر وخضر. فقلتُ لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ فقالوا: شجرة العروسين. فأقمتُ عند القبر يومًا وليلةً وانصرفْتُ، وكان آخِر العهد به رحمه الله تعالى.
حكاية طلاق هند بنت النعمان
وحُكِي أيضًا أن هند بنت النعمان كانت أحسن نساء زمانها، فوصف للحجاج حُسْنها وجمالها، فخطبها وبذل لها مالًا كثيرًا وتزوَّجَ بها، وشرط لها عليه بعد الصداق مائتَيْ ألف درهم، فلما دخل بها مكث معها مدة طويلة، ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر وجهها في المرآة وتقول:
فلما سمع الحجاج ذلك انصرف راجعًا ولم يدخل عليها، ولم تكن علمت به، فأراد الحجاج طلاقها، فبعث إليها عبد الله بن طاهر يطلِّقها، فدخل عبد الله بن طاهر عليها، فقال لها: يقول لك الحجاج أبو محمد، كان تأخَّرَ لك عليه من الصداق مائتَا ألف درهم، وهي هذه حضرت معي، ووكَّلَني في الطلاق. فقالت: اعلم يا ابن طاهر أننا كنَّا معًا، والله ما فرحتُ به يومًا قطُّ، وإن تفرَّقْنا والله لا أندم عليه أبدًا، وهذه المائتا ألف درهم لك بشارة بخلاصي من كلب ثقيف. ثم بعد ذلك بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان خبرها، ووُصِف له حُسْنها وجمالها، وقَدُّها واعتدالها، وعذوبة ألفاظها، وتغزل ألحاظها، فأرسل إليها يخطبها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.