فلما كانت الليلة ٦٨٣
حكاية خزيمة بن بشر وعِكْرمة الفياض
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في أيام أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك رجل يقال له: خزيمة بن بشر من بني أسد، كان له مروءة ظاهرة ونعمة وافرة وفضل وبر بالإخوان، فلم يزل على ذلك الحال حتى أقعده الدهر فاحتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضَّل عليهم ويواسيهم، فواسوه حينًا ثم مَلُّوا به؛ فلما لاح له تغيُّرهم عليه ذهب إلى امرأته، وكانت ابنة عمه، فقال لها: يا ابنة عمي، قد رأيت من إخواني تغيُّرًا وقد عزمت على أن ألزم بيتي إلى أن يأتيني الموت. فأغلَقَ بابه عليه وأقام يتقوَّت بما عنده حتى نفد وصار حائرًا، وكان يعرفه عكرمة الفياض الربعي متولي الجزيرة، فبينما هو في مجلسه إذ ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة الفياض: ما حاله؟ فقالوا له: قد صار إلى أمر لا يُوصَف، وإنه أغلق بابه ولزم بيته. فقال عكرمة الفياض: إنما حصل له ذلك لشدة كرمه، وكيف لم يجد خزيمة بن بشر مواسيًا ولا موافيًا؟ فقالوا: إنه لم يجد شيئًا من ذلك. فلما جاء الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته وخرج سرًّا من أهله وركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة، فأخذ الكيس من غلامه ثم أبعده عنه وتقدَّم إلى الباب فدفعه بنفسه، فخرج إليه خزيمة، فناوله الكيس وقال له: أصلح بهذا شأنك. فأخذه فرآه ثقيلًا، فوضعه عن يده ومسك بلجام الدابة وقال له: مَن أنت؟ جعلت نفسي فداك. فقال له عكرمة: يا هذا، ما جئتُك في مثل هذا الوقت وأريد أن تعرفني؟ قال: فما أقيلك حتى تعرفني مَن أنت؟ فقال: أنا جابر عثرات الكرام. قال: فزدني. قال: لا. ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى ابنة عمه فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج القريب والخير، فإن كان هذا دراهم فإنها كثيرة، قومي فاسرجي. قالت: لا سبيل إلى السراج. فبات يلمسها بيده فيجد خشونة الدنانير فلا يصدِّق أنها دنانير.
وأما عكرمة فإنه رجع إلى منزله، فوجد امرأته قد تفقدته وسألت عنه فأُخبِرت بركوبه، فأنكرت ذلك عليه وارتابت منه وقالت له: إن والي الجزيرة لا يخرج بعد مدة من الليل منفردًا عن غلمانه في سرٍّ من أهله إلا إلى زوجة أو سرية. فقال لها: علم الله أني ما خرجت في واحدة منهما. فقالت: أخبرني فيمَ خرجت؟ قال لها: ما خرجت من هذا الوقت إلا لأجل ألَّا يعلم به أحد. قالت: لا بد من إخباري. قال: هل تكتمينه إذا قلتُ لك؟ قالت: نعم. فأخبرها بالقصة على وجهها وما كان من أمره، ثم قال لها: أتحبين أن أحلف لك أيضًا. قالت: لا، لا، فإن قلبي قد سكن وركن إلى ما ذكرت.
وأما خزيمة فإنه لما أصبح صالَحَ الغرماء وأصلح حاله، ثم تجهَّزَ يريد سليمان بن عبد الملك، وكان نازلًا يومئذٍ بفلسطين؛ فلما وقف ببابه واستأذن حجَّابه، دخل الحاجب فأخبره بمكانه، وكان مشهورًا بالمروءة، وكان سليمان به عارفًا فأذن له في الدخول، فلما دخل سلَّمَ عليه سلام الخلافة، فقال له سليمان بن عبد الملك: يا خزيمة، ما أبطأك عنَّا؟ قال: سوء الحال. قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي يا أمير المؤمنين. قال: فيمَ نهضتَ الآن؟ قال له: اعلم يا أمير المؤمنين أني كنت في بيتي بعد مدة من الليل، وإذا برجل طرق الباب، وكان من أمره كذا وكذا، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها. فقال سليمان: هل تعرف الرجل؟ فقال خزيمة: لا أعرفه يا أمير المؤمنين، وذلك أنه كان متكبِّرًا وما سمعت من لفظه إلا قوله: أنا جابر عثرات الكرام. فتلهَّب وتلهَّف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لَكافأناه على مروءته. ثم عقد لخزيمة بن بشر لواءً، وجعله عاملًا على الجزيرة عوضًا عن عكرمة الفيَّاض. فخرج خزيمة قاصدًا الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة ولاقاه وخرج أهل الجزيرة في ملاقاته، فسلَّمَا على بعضهما ثم ساروا جميعًا إلى أن دخل البلد، فنزل خزيمة دار الإمارة وأمر أن يُؤخَذ من عكرمة كفيلًا وأن يُحاسَب، فحُوسِب فوجد عليه أموالًا كثيرة فطالَبَه بأدائها. قال: ما لي إلى شيء من سبيل؟ قال: لا بد منها. قال: ليست عندي فاصنع ما أنت صانع. فأمر به إلى الحبس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.