فلما كانت الليلة ٦٨٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خزيمة أمر بحبس عكرمة الفياض. أرسل إليه يطالبه بما عليه، فأرسل يقول له: إني لستُ ممَّن يصون ماله بعرضه، فاصنع ما شئتَ. فأمر أن يُكبَّل بالحديد ويُسجَن، فأقام شهرًا أو أكثر حتى أضناه ذلك وأضرَّ به حبسه، ثم بلغ ابنة عمه خبره واغتمت لذلك غاية الغم، ودعت مولاة لها كانت ذات عقل وافر ومعرفة وقالت لها: امضي في هذه الساعة إلى باب الأمير خزيمة بن بشر وقولي: إن عندي نصيحة. فإذا طلبها منك أحد فقولي: لا أقولها إلا للأمير. فإذا دخلتِ عليه فاسأليه الخلوة، فإذا اختليتِ به فقولي له: ما هذا الفعل الذي فعلتَه، ما كان جزاء جابر عثرات الكرام منك إلا أن كافأته بالحبس الشديد والضيق في الحديد. ففعلت الجارية ما أُمِرت به، فلما سمع خزيمة كلامها نادى بأعلى صوته: وا سوأتاه! وإنه لهو؟ قالت: نعم. فأمر من وقته بدابته فأُسرِجت ودعا بوجوه البلد، فجمعهم إليه وأتى بهم إلى باب الحبس وفتحه، ودخل خزيمة ومَن معه، فرأوه قاعدًا متغيِّر الحال وقد أضناه الضرب والألم. فلما نظر إليه عكرمة، أخجله ذلك فنكس رأسه، فأقبل خزيمة وانكبَّ على رأسه فقبَّلَها. فرفع عكرمة إليه رأسه وقال: ما أعقب هذا منك؟ قال: كريم أفعالك وسوء مكافأتي. قال: يغفر الله لنا ولك. ثم أمر خزيمة السجَّان أن يفك القيود عنه، وأمر أن تُوضَع القيود في رجلَيْه. فقال عكرمة: ماذا تريد؟ قال: أريد أن ينالني مثل ما نالك. فقال عكرمة: أقسم عليك بالله ألَّا تفعل. ثم خرجا جميعًا حتى وصلا إلى دار خزيمة، فودَّعَه عكرمة وأراد الانصراف، فمنعه خزيمة من ذلك. فقال عكرمة: ما تريد؟ قال: أريد أن أغيِّر حالك، فإن حيائي من ابنة عمك أشد من حيائي منك.
ثم أمر بإخلاء الحمام، فأُخلِي ودخلا جميعًا، فقام خزيمة وتولَّى خدمته بنفسه، ثم خرجا فخلع عليه خلعة نفيسة وأركبه وحمَّلَ معه مالًا كثيرًا، ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه، فاعتذر إليها، ثم سأل بعد ذلك أن يسير معه إلى سليمان بن عبد الملك، وكان يومئذٍ مُقِيمًا بالرمل، فأجابه إلى ذلك وسارَا جميعًا حتى قدِمَا على سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب وأعلمه بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال: هل والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا؟ ما هذا إلا لحادث عظيم. فأذن له في الدخول، فلما دخل قال له قبل أن يسلِّم عليه: ما وراءك يا خزيمة؟ قال له: الخير يا أمير المؤمنين. قال له: فما الذي أقدمك؟ قال: ظفرت بجابر عثرات الكرام، فأحببتُ أن أسرك به لما رأيتُ من تلهُّفِك على معرفته وشوقك إلى رؤيته. قال: ومَن هو؟ قال: عكرمة الفياض. فأذِنَ له بالتقرُّب، فتقرَّب وسلَّم عليه بالخلافة، فرحَّب به وأدناه من مجلسه وقال له: يا عكرمة، ما كان خيرك له إلا وبالًا عليك. ثم قال سليمان: اكتب حوائجك كلها جميعًا وما تحتاج إليه في رقعة. ففعل ذلك، فأمر بقضائها من ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار خلاف الحوائج التي كتبها، وعشرين تختًا من الثياب زيادة على ما كتبه، ثم دعاه بقناة وعقد له لواءً على الجزيرة وأرمانية وأزربيجان، وقال له: أمر خزيمة إليك أن شئتَ أبقيتَه، وإن شئتَ عزلتَه. قال: بل أرده إلى محله يا أمير المؤمنين. ثم انصرفا من عنده جميعًا، ولم يزالا عاملَيْن لسليمان بن عبد الملك مدةَ خلافته.
حكاية يونس الكاتب والوليد بن سهل
وحُكِي أيضًا أنه كان في مدة خلافة هشام بن عبد الملك رجلٌ يُسمَّى يونس الكاتب وكان مشهورًا، فخرج مسافرًا إلى الشام ومعه جارية في غاية الحُسْن والجمال، وكان عليها جميع ما تحتاج إليه، وكان قدر ثمنها مائة ألف درهم، فلما قرب من الشام نزلت القافلة على غدير ماء، ونزل هو بناحية من نواحيه، وأصاب من طعامٍ كان معه، وأخرج ركوة كان فيها نبيذ. فبينما هو كذلك إذا بفتًى حسن الوجه والهيبة على فرس أشقر، ومعه خادمان، فسلَّم عليه وقال له: أتقبل ضيفًا؟ قال: نعم. فنزل عنده وقال له: اسقنا من شرابك فأسقاه. فقال: إن شئتَ أن تغني لنا صوتًا. فغنَّى مُنشِدًا هذا البيت:
فطرب طربًا شديدًا، وأسقاه مرارًا حتى مال به السكر، ثم قال: قل لجاريتك أن تغنِّي. فغنَّتْ مُنشِدةً هذا البيت:
فطرب طربًا شديدًا وأسقاه مرارًا. ولم يزل مقيمًا عنده إلى أن صلَّيَا العشاء ثم قال له: ما أقدمك على هذا البلد؟ قال: ما أقضي به ديني وأُصلِح به حالي. فقال له: أتبيعني هذه الجارية بثلاثين ألف درهم؟ قلت: ما أحوجني إلى فضل الله والمزيد منه. قال: أيقنعك فيها أربعون ألفًا؟ قال: فيها قضاء ديني وأبقى صفر اليدين. قال: قد أخذناها بخمسين ألفًا من الدراهم، ولك بعد ذلك كسوة ونفقة طريقك، وأشركك في حالي ما بقيتُ. فقال: قد بعتُكها. قال: أفتثق بي أن أوصل إليك ثمنها في غدٍ وأحملها معي، أو تكون عندك إلى أن أحمل ذلك إليك غدًا؟ فحمله السكر والحياء مع الخشية منه على أن قال له: نعم، قد وثقتُ بك، فخذها قد بارَكَ الله لك فيها. فقال لأحد غلاميه: احملها على دابتك وارتدِفْ وراءها وامضِ بها. ثم ركب فرسه وودَّعَه وانصرف. فما هو إلا أن غاب عن البائع ساعةً، فتفكَّر البائع في نفسه وعرف أنه أخطأ في بيعها وقال في نفسه: ماذا صنعتُ حتى أسلِّم جاريتي إلى رجلٍ لا أعرفه ولا أدري مَن هو، وهَبْ أني عرفته فمن أين الوصول إليه؟ ثم جلس متفكرًا إلى أن صلَّى الصبح ودخل أصحابه دمشق وجلس هو حائرًا لا يدري ما يفعل، واستمرَّ جالسًا حتى أحرقته الشمس وكره المقام، فهمَّ بالدخول في دمشق ثم قال في نفسه: إنْ دخلتُ لم آمن أن الرسول يأتي فلا يجدني فأكون قد جنيتُ على نفسي جناية ثانية، فجلس في ظل جدار كان هناك.
فلما ولى النهار وإذا بأحد الخادمين اللذين كانا مع الغلام قد أقبل عليه، فلما رآه حصل له سرور عظيم، وقال في نفسه: ما أعرف أني سررتُ بشيء أعظم من سروري هذا الوقت بالنظر إلى الخادم. فلما جاءه الخادم قال له: يا سيدي، قد أبطأنا عليك. فلم يذكر له شيئًا من الوله الذي كان به. ثم قال له الخادم: هل تعرف الرجل الذي أخذ الجارية؟ فقال له: لا. قال: هو الوليد بن سهل ولي العهد. فسكت عند ذلك ثم قال: قم فاركب. وكان معه دابة، فأركبه إياها وسارا إلى أن وصلا إلى دار فدخلاها، فلما رأته الجارية وثبَتْ إليه وسلَّمَتْ عليه، فقال لها: ما كان من أمرك مع مَن اشتراكِ؟ قالت: أنزَلَني في هذه الحجرة، وأمر لي بما أحتاج إليه. فجلس عندها ساعةً، وإذا بخادمِ صاحبِ الدار قد جاء إليه ثم قال له: قم. فقام معه ودخل به على سيده، فوجده ضيفه بالأمس، ورآه جالسًا على سريره. فقال لي: مَن أنت؟ فقال له: يونس الكاتب. قال: مرحبًا بك، قد كنتُ والله أتشوَّق إلى رؤيتك، فإني كنت أسمع بخبرك، فكيف كان مبيتك في ليلتك؟ فقال له: بخير أعَزَّك الله تعالى. ثم قال: لعلك ندمتَ على ما كان منك البارحة، وقلتَ في نفسك: إني دفعت جاريتي إلى رجل لا أعرفه ولا أعرف اسمه ولا من أي البلاد هو؟ فقال له: معاذ الله أيها الأمير أن أندم عليها، ولو أهديتُها إلى الأمير لَكانت أقل ما يُهدَى إليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.