فلما كانت الليلة ٦٨٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأصمعي قال لأمير المؤمنين: لقد سمعتُ كثيرًا ولم يعجبني سوى ثلاثة أبيات أنشدهن ثلاث بنات. فقال: حدِّثني بحديثهن. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني أقمتُ سنة في البصرة، فاشتدَّ عليَّ الحر، فطلبت مقيلًا أقيل فيه فلم أجد، فبينما أنا ألتفت يمينًا وشمالًا، وإذا بساباط مكنوس مرشوش وفيه دكة من خشب، وعليها شباك مفتوح يفوح منه رائحة المسك، فدخلت الساباط وجلست على الدكة وأردت الاضطجاع، فسمعت كلامًا عذبًا من جارية وهي تقول: يا أخواتي، إننا جلسنا يومنا هذا على وجه المؤانسة، فتعالَيْن نطرح ثلاثمائة دينار، وكل واحدة منَّا تقول بيتًا من الشعر، فكلُّ مَن قالت البيت الأعذب الأملح كانت الثلاثمائة دينار لها. فقلن: حبًّا وكرامة. فقالت الكبرى بيتًا وهو هذا:
فقالت الوسطى بيتًا وهو هذا:
فقالت الصغرى بيتًا وهو هذا:
فقلت: إن كان لهذا المثال جمال فقد تمَّ الأمر على كل حال. فنزلتُ من على الدكة وأردتُ الانصراف، وإذا بالباب قد فُتِح وخرجت منه جارية وهي تقول: اجلس يا شيخ. فطلعت على الدكة ثانيًا، وجلست، فدفعت لي ورقة، فنظرت فيها خطًّا في نهاية الحُسْن، مستقيم الأَلِفات، مجوَّف الهاءات، مدوَّر الواوات، مضمونها: نُعلِم الشيخ — أطال الله بقاءه — أننا ثلاث بنات أخوات، جلسن على وجه المؤانسة، وطرحنا ثلاثمائة دينار، وشرطنا أن كلَّ مَن قالت البيت الأعذب الأملح كان لها الثلاثمائة دينار، وقد جعلناك الحَكَمَ في ذلك، فاحكم بما ترى والسلام. فقلتُ للجارية: عليَّ بدواة وقرطاس، فغابت قليلًا وخرجت إليَّ بدواة مفضَّضة وأقلام مذهبة، فكتبتُ هذه الأبيات:
قال الأصمعي: ثم دفعت الورقة إلى الجارية، فلما صعدت عادت إلى القصر، وإذا برقص وصفق وقيامة قائمة، فقلتُ: ما بقي لي إقامة. فنزلت من فوق الدكة وأردت الانصراف، وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي. فقلت: ومَنْ أعلمكِ أني الأصمعي؟ فقالت: يا شيخ، إنْ خفي علينا اسمك، فما خفي علينا نظمك. فجلست وإذا بالباب قد فُتِح، وخرجت منه الجارية الأولى وفي يدها طبق من فاكهة وطبق من حلوى، فتفكَّهْتُ وتحلَّيْتُ، وشكرت صنيعها وأردت الانصراف، وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي. فرفعت بصري إليها، فنظرت كفًّا أحمر في كم أصفر، فخلته البدر يشرق من تحت الغمام، ورمت صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقالت: هذا لي، وهو مني إليك هدية في نظير حكومتك. فقال له أمير المؤمنين: لِمَ حكمتَ للصغرى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إن الكبرى قالت: عجبتُ له أن زار في النوم مضجعي، وهو محجوب معلَّق على شرط قد يقع، وقد لا يقع؛ وأما الوسطى فقد مرَّ بها طيف خيال في النوم، فسلَّمَتْ عليه؛ وأما بيت الصغرى، فإنها ذكرت فيه أنها ضاجعته مضاجعةً حقيقية، وشمَّتْ منه أنفاسًا أطيب من المسك، وفدته بنفسها وأهلها، ولا يُفدَى بالنفس إلا مَن هو أعزُّ منها. فقال الخليفة: أحسنتَ يا أصمعي. ودفع إليه ثلاثمائة دينار مثلها في نظير حكايته.
حكاية إبراهيم الموصلي وإبليس
وحُكِي أيضًا أن أبا إسحاق إبراهيم الموصلي قال: استأذنتُ الرشيد في أن يهب لي يومًا من الأيام للانفراد بأهل بيتي وإخواني، فأَذِن لي في يوم السبت، فأتيتُ منزلي وأخذتُ في إصلاح طعامي وشرابي وما أحتاج إليه، وأمرت البوابين أن يغلقوا الأبواب، وألَّا يأذنوا لأحد في الدخول عليَّ، فبينما أنا في مجلسي والحريم قد حففن بي، وإذا بشيخ ذي هيبة وجمال، وعليه ثياب بيض وقميص ناعم، وعلى رأسه طليسان وفي يده عكاز قبضته من فضة، وروائح الطيب تفوح منه حتى ملأَتِ الدار والرواق، فدخلني غيظ عظيم بدخوله عليَّ وهممتُ بطرد البوابين، فسلَّمَ عليَّ بأحسن سلام، فرددتُ عليه وأمرتُه بالجلوس، فجلس وأخذ يحدِّثني بحديث العرب وأشعارها حتى ذهب ما بي من الغضب، وظننتُ أن غلماني تحروا مسرتي بإدخال مثله عليَّ لأدبه وظرافته، فقلت له: هل لك في الطعام؟ فقال: لا حاجة لي فيه. فقلت له: وفي الشراب. قال: ذلك إليك. فشربتُ رطلًا وسقيته مثله، ثم قال: يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنينا شيئًا، فنسمع من صنعتك ما قد فقتَ به العام والخاص؟ فغاظني قوله، ثم سهلت الأمر على نفسي، فأخذت العود وضربت وغنيت. فقال: أحسنتَ يا أبا إسحاق. ثم قال إبراهيم: فازددتُ غيظًا وقلت: ما قنع بما فعله من دخوله بغير إذن واقتراحه عليَّ حتى سمَّاني باسمي مع جهل مخاطبتي. ثم قال: هل لك أن تزيد ونكافِئك؟ فتحمَّلْتُ المشقة وأخذت العود فغنيتُ وتحفَّظْتُ فيما غنَّيت، وقمت به قيامًا ما لقوله: ونكافِئك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.