فلما كانت الليلة ٦٨٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين هارون الرشيد لما اتكأ على مخدة من الديباج قال: هلمَّ بحديثك يا جميل. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني كنتُ مفتونًا بفتاة محبًّا لها، وكنتُ أتردَّد إليها إذ هي سؤلي وبغيتي من الدنيا، ثم إن أهلها رحلوا لقلة المرعى، فأقمتُ مدةً لم أَرَها، ثم إن الشوق أقلقني وجذبني إليها، فحدَّثتني نفسي بالمسير إليها، فلما كان ذات ليلة من الليالي هزَّني الشوق إليها، فقمت وشددت رحلي على ناقتي وتعمَّمْتُ بعمامتي، ولبست أطماري، وتقلَّدْتُ بسيفي، واعتقلتُ رمحي، وركبت ناقتي، وخرجت طالبًا لها، وكنت أُسرِع في المسير، فسرتُ ذات ليلة وكانت ليلةً مظلمةً مدلهمة، وأنا مع ذلك أكابد هبوط الأودية وصعود الجبال، فأسمع زئيرَ الآساد وعيَّ الذئاب وأصواتَ الوحوش من كل جانب، وقد ذهل عقلي وطاش لبي، ولساني لا يفتر عن ذِكْر الله تعالى. فبينما أنا أسير على هذا الحال إذ غلبني النوم، فأخذت بي الناقة على غير الطريق التي كنتُ فيها، وغلب عليَّ النوم، وإذا أنا بشيء لطمني في رأسي، فانتبهت فَزِعًا مرعوبًا، وإذا بأشجار وأنهار، وأطيار على تلك الأغصان تغرِّد بلغاتها وألحانها، وأشجار تلك المرج مشتبك بعضها ببعض؛ فنزلت عن ناقتي وأخذت بزمامها في يدي، ولم أزل أتلطف في الخلاص إلى أن خرجت بها من تلك الأشجار إلى أرض فلاة، فأصلحتُ كورها واستويت راكبًا على ظهرها، ولا أدري إلى أين أذهب، ولا إلى أي مكان تسوقني الأقدار، فمددتُ نظري في تلك البرية، فلاحت لي نار في صدرها، فوكزتُ ناقتي وصرت متوجِّهًا إليها حتى وصلتُ إلى تلك النار، فقرَّبْتُ منها وتأملت وإذا بخباء مضروب، ورمح مركوز، ودابة قائمة، وخيل واقفة، وإبل سائمة؛ فقلتُ في نفسي: يوشك أن يكون لهذا الخباء شأن عظيم، فإني لا أرى في تلك البرية سواه.
ثم تقدَّمتُ إلى جهة الخباء، وقلت: السلام عليكم يا أهل الخباء ورحمة الله وبركاته. فخرج إليَّ من الخباء غلامٌ من أبناء التسع عشرة سنة، فكأنه البدر إذا أشرق والشجاعة بين عينيه، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أخا العرب، إني أظنك ضالًّا عن الطريق؟ فقلت: الأمر كذلك، أرشدني يرحمك الله. فقال: يا أخا العرب، إن بلدنا هذه مسبعة، وهذه الليلة مظلمة موحشة شديدة الظلمة والبرد، ولا آمن عليك من الوحش أن يفترسك، فانزل عندي على الرحب والسعة، فإذا كان الغد أرشدتُك إلى الطريق. فنزلتُ عن ناقتي وعقلتها بفضل زمامها، ونزعتُ ما كان عليَّ من الثياب، وتخفَّفْتُ وجلستُ ساعةً، وإذا بالشاب قد عمد إلى شاة فذبحها، وإلى نارٍ فأضرمها وأجَّجَها، ثم دخل الخباء وأخرج إبزارًا ناعمة وملحًا طيبًا، وأقبل يقطع من ذلك اللحم قطعًا، ويشويها على النار ويعطيني، ويتنهَّد ساعةً ويبكي أخرى، ثم شهق شهقة عظيمة وبكى بكاءً شديدًا، وأنشد يقول هذه الأبيات:
قال جميل: فعلمت عند ذلك يا أمير المؤمنين أن الغلام عاشق ولهان، ولا يعرف الهوى إلا مَن ذاق طعم الهوى. فقلت في نفسي: هل أسأله؟ ثم راجعت نفسي وقلت: كيف أتهجم عليه في السؤال وأنا في منزله؟ فردعت نفسي وأكلت من ذلك اللحم كفايتي. فلما فرغنا من الأكل قام الشاب ودخل الخباء، وأخرج طشتًا وإبريقًا حسنًا، ومنديلًا من الحرير وأطرافه مزركشة بالذهب الأحمر، وقمقمًا ممتلئًا من ماء الورد المُمسَّك، فتعجبتُ من ظرفه ورِقَّة حاشيته، وقلت في نفسي: لم أعرف الظرف في البادية. ثم غسلنا أيدينا وتحدَّثنا ساعة، ثم قام ودخل الخباء، وفصل بيني وبينه بفاصل من الديباج الأحمر وقال: ادخل يا وجه العرب وخذ مضجعك، فقد لحقك في هذه الليلة تعب، وفي سفرتك هذه نصب مفرط. فدخلت وإذا أنا بفراش من الديباج الأخضر، فعند ذلك نزعت ما عليَّ من الثياب، وبتُّ ليلة لم أبت في عمري مثلها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.