فلما كانت الليلة ٦٩٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جميلًا قال: فبتُّ ليلةً لم أبت عمري مثلها؛ فكل ذلك وأنا متفكر في أمر هذا الشاب إلى أن جنَّ الليل ونامت العيون، فلم أشعر إلا بصوت خفي لم أسمع ألطف منه، ولا أرق حاشية، فرفعت الفاصل المضروب بيننا، وإذا أنا بصبية لم أَرَ أحسن منها وجهًا وهي في جانبه، وهما يبكيان ويتشاكيان ألمَ الهوى والصبابة والجوى وشدة اشتياقهما إلى التلاقي، فقلت: يا لله العجب من هذا الشخص الثاني! وحين دخلتُ هذا البيت لم أَرَ فيه غير هذا الفتى وما عنده أحد، ثم قلتُ في نفسي: لا شك أن هذه من بنات الجن تهوى هذا الغلام، وقد تفرَّدَ بها في هذا المكان وتفردت به. ثم أمعنت النظر فيها فإذا هي أنسية عربية، إذا أسفرت عن وجهها تخجل الشمس المضيئة، وقد أضاء الخباء من نور وجهها، فلما تحققتُ أنها محبوبته تذكَّرْتُ غيرةَ المحب، فأرخيت الستر وغطيتُ وجهي ونمت. فلما أصبحت لبست ثيابي وتوضأت لصلاتي، وصليت ما كان عليَّ من الفرض، ثم قلت له: يا أخا العرب، هل لك أن ترشدني إلى الطريق، وقد تفضَّلْتَ عليَّ؟ فنظر إليَّ وقال: على رسلك يا وجه العرب، إن الضيافة ثلاثة أيام، وما كنت بالذي يدعك إلا بعد ثلاثة أيام.
قال جميل: فأقمت عنده ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الرابع جلسنا للحديث، فحادثته وسألته عن اسمه ونسبه فقال: أمَّا نسبي فأنا من بني عذرة، وأما اسمي أنا فلان بن فلان، وعمي فلان. فإذا هو ابن عمي يا أمير المؤمنين، وهو من أشرف بيتٍ من بني عذرة، فقلت: يا ابن العم، ما حملك على ما أراه منك من الانفراد في هذه البرية؟ وكيف تركتَ نعمتك ونعمة آبائك؟ وكيف تركت عبيدك وإماءك، وانفردتَ بنفسك في هذا المكان؟ فلما سمع يا أمير المؤمنين كلامي اغرورقَتْ عيناه بالدموع والبكاء، ثم قال: يا ابن العم، إني كنت محبًّا لابنة عمي مفتونًا بها، هائمًا بحبها، مجنونًا في هواها لا أطيق الفراق عنها، فزاد عشقي لها فخطبتها من عمي، فأَبَى وزوَّجها لرجل من بني عذرة ودخل بها، وأخذها إلى المحلة التي هو فيها من العام الأول، فلما بعدَتْ عني واحتجبت عن النظر إليها، حملتني لوعات الهوى وشدة الشوق والجوى على ترك أهلي ومفارقة عشيرتي وخلَّاني وجميع نعمتي، وانفردت بهذا البيت في هذه البرية، وألفت وحدتي. فقلت: وأين بيوتهم؟ قال: هي قريب في ذروة هذا الجبل، وهي كلَّ ليلة عند نوم العيون وهدوء الليل تنسلُّ من الحي سرًّا، بحيث لا يشعر بها أحد، فأقضي منها بالحديث وطرًا، وتقضي هي كذلك، وها أنا مقيم على ذلك الحال أتسلى بها ساعة من الليل ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، أو يأتيني الأمر على رغم الحاسدين، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. ثم قال جميل: فلما أخبرني الغلام يا أمير المؤمنين، غمَّني أمره، وصرت من ذلك حيرانًا لما أصابني من الغيرة، فقلت له: يا ابن العم، وهل لك أن أدلك على حيلة أشير بها عليك، وفيها إن شاء الله عين الصلاح وسبيل الرشد والنجاح، وبها يزيل الله عنك الذي تخشاه؟ فقال الغلام: قل لي يا ابن العم. فقلت له: إذا كان الليل وجاءت الجارية، فاطرحها على ناقتي، فإنها سريعة الرواح، واركب أنت جوادك وأنا أركب بعض هذه النياق، وأسير بكما الليلة جميعها، فما يصبح الصباح إلا وقد قطعتُ بكما براري وقفارًا، أو تكون قد بلغتَ مرادك وظفرتَ بمحبوبة قلبك، وأرض الله واسعة فضاها، وأنا والله مساعدك ما حييت بروحي ومالي وسيفي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.