فلما كانت الليلة ٦٩٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين معاوية لما سمع كلام الأعرابي قال: تعدَّى ابن الحكم في حدود الدين وظلَمَ واجترى على حريم المسلمين. ثم قال: يا أعرابي، لقد أتيتَني بحديثٍ لم أسمع بمثله قطُّ. ثم دعا بدواة وقرطاس وكتب إلى مروان بن الحكم: قد بلغني أنك تعدَّيْتَ على رعيتك في حدود الدين، وينبغي لمَن يكون واليًا أن يكفَّ بصره عن شهواته، ويزجر نفسه عن لذاتها. ثم كتب بعد ذلك كلامًا طويلًا اختصرته، من جملته هذه الأبيات:
ثم طوى الكتاب وطبعه بخاتمه، واستدعى الكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما في المهمات لأمانتهما؛ فأخذا الكتاب وسارا حتى قدِمَا المدينة فدخلا على مروان بن الحكم وسلَّمَا عليه، وسلَّمَا إليه الكتاب، وأعلماه بصورة الحال. فصار مروان يقرؤه ويبكي، ثم قام إلى سعاد وأخبرها، ولم يسعه مخالفة معاوية، فطلَّقَها بمحضر من الكميت ونصر بن ذبيان، وجهَّزَهما وصبحتهما سعاد. ثم كتب مروان كتابًا إلى معاوية يقول فيه:
وختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، فسارا حتى وصلا إلى معاوية وسلَّمَا إليه الكتاب، فقرأه وقال: لقد أحسن في الطاعة وأطنب في ذِكْر الجارية. ثم أمر بإحضارها، فلما رآها رأى صورةً حسنةً لم يَرَ مثلها في الحُسْن والجمال، والقَدِّ والاعتدال، فخاطبها فوجدها فصيحةَ اللسان، حسنة البيان، فقال: عليَّ بالأعرابي. فأتوا به وهو في حالة مزعجة من تغيُّر الزمان عليه، فقال: يا أعرابي، هل لك عنها من سلوة وأعوِّضك عنها جواري نهدًا وأبكارًا، كأنهن أقمار، ومع كل جارية ألف دينار، وأجعل لك في بيت المال في كل سنة ما يكفيك ويغنيك؟ فلما سمع الأعرابي كلام معاوية شهق شهقة، فظنَّ معاوية أنه قد مات، فلما قال له معاوية: ما بالك؟ قال: بشر بال وسوء حال، استجرتُ بعدلك من جور ابن الحكم، فبمَن أستجير من جورك؟ وأنشد هذه الأبيات:
ثم قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتَني ما خوَّلته من الخلافة، ما أخذته دون سعاد. وأنشد هذا البيت:
فقال معاوية: إنك مُقِرٌّ بأنك طلَّقْتَها، ومروان مُقِرٌّ بأنه طلَّقَها، ونحن نخيِّرها، إنِ اختارتْ سواكَ زوَّجناها إياه، وإنِ اختارتْك حوَّلناها إليك. قال: افعل. فقال معاوية: ما تقولين يا سعاد، مَن أحب إليك؛ أمير المؤمنين في شرفه وعزه وقصوره وسلطانه وأمواله وما أبصرتِه عنده، أم مروان بن الحكم وعسفه وجوده، أم هذا الأعرابي وجوعه وفقره؟ فأنشدت هذين البيتين:
ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان ولا لغدرات الأيام، وإن له صحبةً قديمة لا تُنسَى، ومحبةً لا تبلى، وأنا أحقُّ مَن صبر معه في الضرَّاء كما تنعَّمْتُ معه في السراء. فتعجَّبَ معاوية من عقلها ومودتها وموافاتها، وأمر لها بعشرة آلاف درهم، ودفعها للأعرابي وأخذ زوجته وانصرف.
حكاية عاشقين من البصرة
وحُكِي أيضًا أيها الملك السعيد، أن هارون الرشيد أرق ليلةً، فوجَّهَ إلى الأصمعي، وإلى حسين الخليع، فأحضرهما وقال: حدِّثاني، وابدأ أنت يا حسين. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت في بعض السنين منحدرًا إلى البصرة، ممتدحًا محمد بن سليمان الربيعي بقصيدة، فقبِلَها وأمرني بالمقام، فخرجت ذات يوم إلى المريد، وجعلت المهالية طريقي، فأصابني حر شديد، فدنوت من باب كبير لأستسقي، وإذا أنا بجاريةٍ كأنها قضيب ينثني، وَسْناءِ العينين، زجاءِ الحاجبين، أسيلةِ الخدين، عليها قميص جلناري ورداء صنعاني، قد غلبت شدة بياض يديها حمرة قميصها، يتلألأ من تحت القميص ثديان كرمانتين، وبطن كطي القباطي بعكن كالقراطيس الناصعة المعقودة بالمسك محشوَّة، وهي يا أمير المؤمنين متقلِّدة بخرزٍ من الذهب الأحمر، وهو بين نهديها وعلى صحن جبينها طرة كالسبج، ولها حاجبان مقرونان، وعينان نجلاوان، وخدان أسيلان، وأنف أقنى، تحته ثغر كاللؤلؤ وأسنان كالدر، وقد غلب عليها الطيب، وهي والهة حيرانة ذاهبة في الدهليز تروح وتجيء، تخطر على أكباد مُحِبيها في مشيتها، وقد أخرست سيقانها أصوات خلاخيلها، فهي كما قال فيها الشاعر:
فهبتها يا أمير المؤمنين، ثم دنوتُ منها لأسلم عليها، فإذا الدار والدهليز والشارع قد عبق بالمسك، فسلَّمْتُ عليها فردَّتْ عليَّ بلسان خاشع وقلب حزين بلهيب الوَجْد محترق، فقلت لها: يا سيدتي، إني شيخ غريب وأصابني عطش، أفتأمرين لي بشربة ماء تُؤجَرين عليها؟ قالت: إليك عني يا شيخ، فإني مشغولة عن الماء والزاد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.