فلما كانت الليلة ٦٩٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت لحسين الخليع: إن محبوبي لما رأى ما ذكرتُ لك من ملاعبتي مع جارية سيران، خرج مغضبًا مني، فأنا يا شيخ منذ ثلاث سنين لم أزل أعتذر إليه وأتلطف به وأستعطفه، فلا ينظر إليَّ بطرف، ولا يكتب إليَّ بحرف، ولا يكلِّم لي رسولًا، ولا يسمع مني قليلًا. قلت لها: يا هذه، أمِنَ العرب هو أم مِنَ العجم؟ قالت: ويحك، هو من جملة ملوك البصرة. فقلت لها: أشيخ هو أم شاب؟ فنظرتْ إليَّ شزرًا وقالت: إنك أحمق، هو مثل القمر ليلة البدر، أجرد أمرد، لا يعيبه شيء غير انحرافه عني. فقلت لها: ما اسمه؟ قالت: ما تصنع به؟ قلت: أجتهد في لقائه لتحصيل الوصال بينكما. قالت: على شرط أن تحمل إليه رقعة. قلت: لا أكره ذلك. فقالت: اسمه ضمرة بن المغيرة، ويكنَّى بأبي السخاء، وقصره بالمريد. ثم صاحت على مَن في الدار: هاتوا الدواة والقرطاس. وشمرت عن ساعدين كأنهما طوقان من فضة، وكتبت بعد التسمية: «سيدي، ترك الدعاء في صدر رقعتي يُنبِئ عن تقصيري، واعلم أن دعائي لو كان مستجابًا ما فارقتَني؛ لأني كثيرًا ما دعوتُ ألَّا تفارقني وقد فارقتَني، ولولا أن الجهد تجاوز بي جد التقصير لَكان ما تكلَّفَتْه خادمتك من كتابة هذه الرقعة معينًا لها مع يأسها منك؛ لعلمها أنك تترك الجواب، وأقصى مرادها سيدي نظرةٌ إليك وقتَ اجتيازك في الشارع إلى الدهليز تُحْيِي بها نفسًا ميتة، وأجلُّ من ذلك عندها أن تخطَّ بخط يدك — بسطها الله بكل فضيلة — رقعةً، وتجعلها عوضًا عن تلك الخلوات التي كانت بيننا في الليالي الخاليات، التي أنت ذاكر لها سيدي، ألستُ لك محبة مدنفة؟ فإنْ أجبتَ إلى المسألة كنتُ لك شاكرةً، ولله حامدة والسلام.»
فتناولتُ الكتاب وخرجت، وأصبحت غدوت إلى باب محمد بن سليمان، فوجدت مجلسًا محتفلًا بالملوك، ورأيت غلامًا قد زان المجلس، وفاق على مَن فيه جمالًا وبهجةً قد رفعه الأمير فوقه، فسألت عنه فإذا هو ضمرة بن المغيرة، فقلت في نفسي: بالحقيقة حلَّ بالمسكينة ما حلَّ بها. ثم قمت وقصدت المريد، ووقفت على باب داره، فإذا هو قد ورد في موكب، فوثبتُ إليه وبالغت في الدعاء وناولتُه الرقعة، فلما قرأها وفهم معناها قال لي: يا شيخ، قد استبدلنا بها، فهل لك أن تنظر إلى البديل؟ قلت: نعم. فصاح على فتاة، وإذا هي جارية تُخجِل القمرين، ناهدة الثديين، تمشي مشية مستعجل من غير وجل، فناوَلَها الرقعة وقال: أجيبي عنها. فلما قرأتها اصفرَّ لونها حيث عرفَتْ ما فيها وقالت: يا شيخ، استغفر الله ممَّا جئتَ فيه. فخرجت يا أمير المؤمنين، وأنا أجر رجلي حتى أتيتُها واستأذنت عليها ودخلت، فقالت: ما وراءك؟ قلت: البأس واليأس. قالت: ما عليك منه، فأين الله والقدرة. ثم أمرت لي بخمسمائة دينار وخرجتُ، ثم جزتُ على ذلك المكان بعد أيام، فوجدتُ غلمانًا وفرسانًا فدخلتُ، وإذا هم أصحاب ضمرة يسألونها الرجوعَ إليه، وهي تقول: لا والله لا نظرت له في وجه. فسجدتُ شكرًا لله يا أمير المؤمنين شماتةً بضمرة، وتقرَّبْتُ من الجارية فأبرزتْ لي رقعة، فإذا فيها بعد التسمية: «سيدتي، لولا إبقائي عليكِ — أدام الله حياتك — لَوضعتُ شطرًا مما حصل منك، وبسطت عذري في ظلامتك إياي؛ إذ كنتِ الجانيةَ على نفسك ونفسي المظهرة لسوء العهد وقلة الوفاء والمؤثرة علينا غيرنا، فخالفتِ هواي والله المستعان على ما كان من اختيارك والسلام.» وأوقفتني على ما حمله إليها من الهدايا والتحف، وإذا هو بمقدار ثلاثين ألف دينار، ثم رأيتها بعد ذلك وقد تزوَّجَ بها ضمرة، فقال الرشيد: لولا أن ضمرة سبقني إليها لَكان لي معها شأن من الشئون.
إسحاق الموصلي وإبليس
وحُكِي أيضًا أيها الملك أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: بينما أنا ذات ليلة في منزلي، وكان زمن الشتاء، وقد انتشرت السحب وتراكمت الأمطار تقطر كأفواه القرب، وامتنع الغادي والمقبل من المسير في الطرقات لما فيها من الأمطار والوحل، وأنا ضيِّق الصدر، حيث لم يأتِني أحدٌ من إخواني، ولم أقدر أن أسير إليهم من شدة الوحل والطين. فقلت لغلامي: أحضر لي ما أتشاغل به. فأحضر لي طعامًا وشرابًا، فتنغصت إذ لم يكن معي مَن يؤانسني. ولم أزل أتطلع من الطاقات وأراقب الطرقات حتى أقبل الليل، فتذكرت جارية لبعض أولاد المهدي كنت أهواها، وكانت عارفة بالغناء وتحريك آلات الملاهي، فقلت في نفسي: لو كانت الليلة عندنا لتمَّ سروري وقصرتْ ليلتي مما أنا فيه من الفكر والقلق. وإذ بداقٍّ يدقُّ الباب وهو يقول: أيدخل محبوب على الباب واقف؟ فقلت في نفسي: لعل غرس التمنِّي قد أثمر. فقمتُ إلى الباب فإذا بصاحبتي وعليها مرط أخضر قد اتَّشَحَتْ به، وعلى رأسها وقاية من الديباج تقيها من المطر، وقد غرقت في الطين إلى ركبتَيْها وابتلَّ ما عليها من الميازيب، وهي في قالب عجيب. فقلت لها: يا سيدتي، ما الذي أتى بك في مثل هذه الأوحال؟ فقالت: قاصدك جاءني ووصف ما عندك من الصبابة والشوق، فلم يسعني إلا الإجابة والإسراع نحوك. فتعجَّبْتُ من ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.