فلما كانت الليلة ٦٩٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما أتت وطرقت باب إسحاق، خرج لها وقال: يا سيدتي، ما الذي أتى بك في هذه الأوحال؟ قالت له: قاصدك جاءني ووصف ما عندك من الصبابة والشوق، فلم يسعني إلا الإجابة والإسراع نحوك. فتعجَّبْتُ من ذلك وكرهتُ أني أقول لها لم أرسل إليك أحدًا، فقلتُ: الحمد لله على جمع الشمل بعدَ ما قاسيتُ من ألم الصبر، ولو كنتِ أبطأتِ عليَّ ساعةً كنتُ أحقُّ بالسعي إليك؛ لأني أشتاق إليك، كثير الصبابة نحوك. ثم قلت لغلامي: هات الماء. فأقبل بمسخنة فيها ماء حار حتى تصلح حالها، ثم أمرته أن يصب الماء على رجليها وتوليت غسلهما بنفسي، ثم دعوت ببدلة من أفخر الملبوس، فألبستها إياها بعد أن نزعت ما كان عليها وجلسنا، ثم استدعيت بالطعام فأبَتْ، فقلت: هل لك في الشراب؟ قالت: نعم. فتناولتُ أقداحًا ثم قالت: مَن يغنِّ؟ فقلت: أنا يا سيدتي. فقالت: لا أحب. فقلت: بعض جواريَّ. قالت: لا أريد. قلت: غنِّ بنفسك. قالت: ولا أنا. قلت لها: فمَن يغنِّ لك؟ قالت: اخرج التمس مَن يغني لي. فخرجتُ طاعةً لها إلا أني يائس ومتيقِّن ألَّا أجد أحدًا في مثل هذا الوقت، فلم أزل ماشيًا حتى بلغتُ الشارع، وإذا أنا بأعمى يخبط الأرض بعصاه وهو يقول: لا جزى الله مَن كنتُ عندهم خيرًا، إن غنيت لم يسمعوا، وإن سكتُّ استخفُّوا بي. فقلت له: أمغنٍّ أنت؟ قال: نعم. قلت له: فهل لك أن تتم ليلتك عندنا وتؤنسنا؟ قال: إن شئتَ خذ بيدي. فأخذت بيده وسرت إلى الدار وقلت لها: يا سيدتي، قد أتيتُ بمغنٍّ أعمى نلتذُّ به ولا يرانا. فقالت: عليَّ به. فأدخلته وعزمت عليه بالطعام، فأكل أكلًا لطيفًا وغسل يديه، وقدَّمْتُ إليه الشراب فشرب ثلاثة أقداح ثم قال: مَن تكن؟ قلتُ: إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: لقد كنتُ أسمع بك، والآن فرحتُ بمنادمتك. فقلت: يا سيدي، فرحت بفرحك. ثم قال: غنِّ لي يا إسحاق. فأخذت العود على سبيل المجون وقلت: السمع والطاعة. فلما أن غنَّيْتُ وانقضى الصوت قال: يا إسحاق، قاربتَ أن تكون مغنِّيًا. فصغرت إلى نفسي وألقيت العود من يدي، فقال: أَمَا عندك مَن يُحسِن الغناء؟ قلت: عندي جارية. قال: مُرْها أن تغني. فقلت: هل تغني وأنت واثق بغنائها؟ قال: نعم. فغنَّتْ. قال: لا ما صنعتْ شيئًا. فرمت العود من يدها مغضبة وقالت: الذي عندنا جُدْنا به، فإن كان عندك شيء فتصدَّق به علينا. فقال: عليَّ بعود لم تمسه يد. فأمرت الخادم فجاء بعود جديد، فجس العود وضرب في طريق لا أعرفها، واندفع يغني وينشد هذين البيتين:
قال: فنظرتْ إليَّ الجارية شزرًا وقالت: سِرٌّ بيني وبينك ما يسعه صدرك ساعةً وأودعته لهذا الرجل! فحلفتُ لها واعتذرت إليها، ثم أخذت أقبِّل يديها وأزغزغ ثدييها وأعض خديها حتى ضحكت. ثم التفت إلى الأعمى وقلت له: غنِّ يا سيدي. فأخذ العود وغنَّى بهذين البيتين:
فقلت لها: يا سيدتي، مَن أعلمه بما نحن فيه؟ قالت: صدقتَ. ثم تجنَّبْناه، فقال: إني حاقن. فقلت: يا غلام، خذ الشمعة وامضِ بين يديه. فخرج وأبطأ، فخرجنا في طلبه فلم نجده، فإذا الأبواب مغلقة والمفاتيح في الخزانة، فلا ندري أفي السماء صعد أم في الأرض هبط؟ فعلمتُ أنه إبليس وأنه قاد لي. ثم انصرفتُ فتذكرتُ قول أبي نواس حيث قال هذين البيتين:
حكاية عاشقين من أهل المدينة
وحُكِي أيضًا أن إبراهيم بن إسحاق قال: كنتُ منقطعًا إلى البرامكة، فبينما أنا يومًا في منزلي وإذا ببابي يدق، فخرج غلامي وعاد وقال لي: على الباب فتًى جميلٌ يستأذن. فأذنتُ له، فدخل شاب عليه أثر السقم، فقال: إن لي مدة أحاول لقاءك ولي إليك حاجة. فقلت: ما هي؟ فأخرَجَ ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدي وقال: أسألك أن تقبلها مني وتصنع لي لحنًا في بيتين قلتهما. فقلت له: أنشدنيهما. فأنشد وجعل يقول … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.