فلما كانت الليلة ٧١٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السقَّاء لما قال: إن أحمد الدنف أعطاني بغلة ومائة دينار، وقال: غرضنا أن نُرسِل معك أمانة، فهل أنت تعرف أهل مصر؟ قال السقَّاء: فقلت له نعم. فقال خذ هذا الكتاب وأوصله إلى علي الزيبق المصري، وقل له: كبيرك يسلِّم عليك، وهو الآن عند الخليفة. فأخذت منه الكتاب وسافرت حتى دخلت مصر، فرآني أرباب الديون، فأعطيتهم الذي عليَّ، ثم عملت سقَّاء ولم أوصل الكتاب؛ لأني لم أعرف قاعة علي الزيبق المصري. فقال له: يا شيخ، طبْ نفسًا وقرَّ عينًا، فأنا علي الزيبق المصري، أول صبيان المقدم أحمد الدنف، فهات الكتاب. فأعطاه إياه، فلما فتحه وقرأه رأى فيه هذين البيتين:
وبعدُ، فالسلام من المقدم أحمد الدنف إلى أكبر أولاده علي الزيبق المصري، والذي نعلمك به أني تقصدت صلاح الدين المصري، ولعبت معه مناصف حتى دفنتُه بالحياة، وأطاعتني صبيانه ومن جملتهم علي كتف الجمل، وتولَّيْتُ مقدم مدينة بغداد في ديوان الخليفة، ومكتوب على درك البر؛ فإن كنتَ ترعى العهد الذي بيني وبينك فَأْتِ عندي لعلك تلعب منصفًا في بغداد يقرِّبك من خدمة الخليفة، فيكتب لك جامكية وجراية ويعمر لك قاعة، هذا هو المرام والسلام. فلما قرأ الكتاب قبَّله وحطَّه على رأسه، وأعطى السقَّاء عشرة دنانير بشارة، ثم توجه إلى القاعة ودخل على صبيانه، وأعلمهم بالخبر، وقال لهم: أوصيكم ببعضكم. ثم قلع ما كان عليه ولبس مشلحًا وطربوشًا، وأخذ علبة فيها مزراق من عود القنا طوله أربعة وعشرون ذراعًا، وهو معشق في بعضه، فقال له النقيب: أتسافر والمخزن قد فرغ؟ فقال له: إذا وصلت إلى الشام أرسل إليكم ما يكفيكم. وسار إلى حال سبيله، فلحق ركبًا مسافرًا، فرأى فيه شاه بندر التجار ومعه أربعون تاجرًا قد حملوا حمولهم وحمول شاه بندر التجار على الأرض، ورأى مقدمه رجلًا شاميًّا، وهو يقول للبغالين: واحد منكم يساعدني. فسبوه وشتموه، فقال علي في نفسه: لا يحسن سفري إلا مع هذا المقدم. وكان علي أمردًا مليحًا، فتقدَّم إليه وسلَّم عليه، فرحَّب به وقال له: أي شيء تطلب؟ فقال له: يا عمي، رأيتك وحيدًا وحمولتك أربعون بغلًا، ولأي شيء ما جئت لك بناس يساعدونك؟ فقال: يا ولدي، قد اكتريت ولدين وكسيتهما، ووضعت لكل واحد في جيبه مائتَيْ دينار، فساعداني إلى الخانكة وهربا. فقال له: وإلى أين تذهبون؟ قال: إلى حلب. فقال له: أنا أساعدك. فحملوا الحمول وساروا، وركب شاه بندر التجار بغلته وسار، ففرح المقدم الشامي بعليٍّ وعشقه إلى أن أقبل الليل، فنزلوا وأكلوا وشربوا، فجاء وقت النوم، فحطَّ علي جنبه على الأرض، وجعل نفسه نائمًا، فنام المقدم قريبًا منه، فقام علي من مكانه وقعد على باب صيوان التاجر، فانقلب المقدم وأراد أن يأخذ عليًّا في حضنه فلم يجده، فقال في نفسه: لعله واعَدَ واحدًا فأخذه، ولكن أنا أولى، وفي غير هذه الليلة أحجزه.
وأما علي فإنه لم يزل على باب صيوان التاجر إلى أن قرب الفجر، فجاء ورقد عند المقدم، فلما استيقظ المقدم وجده فقال في نفسه: إن قلت له أين كنتَ يتركني ويروح، ولم يزل يخادعه إلى أن أقبلوا على مغارة فيها غابة، وفي تلك الغابة سَبْعٌ كاسِر، وكلما تمر قافلة يعملون القرعة بينهم، فكلُّ مَن خرجت عليه القرعة يرمونه إلى السبع، فعملوا القرعة فلم تخرج إلا على شاه بندر التجار، وإذا بالسبع قطع عليهم الطريق ينتظر الذي يأخذه من القافلة، فصار شاه بندر التجار في كرب شديد، وقال للمقدم: الله يخيب كعبك وسفرتك، ولكن وصيتك بعد موتي أن تعطي أولادي حمولي. فقال الشاطر علي: ما سبب هذه الحكاية؟ فأخبروه بالقصة. فقال: ولأي شيء تهربون من قطِّ البر؟ فأنا ألتزم لكم بقتله. فراح المقدم إلى التاجر وأخبره فقال: إن قتله أعطيته ألف دينار. وقال بقية التجار: ونحن كذلك نعطيه. فقام علي وخلع المشلح، فبان عليه عدة من بولاد، فأخذ شريط بولاد وفرك لولبه، وانفرد قدام السبع وصرخ عليه، فهجم عليه السبع فضربه علي المصري بالسيف بين عينيه فقسمه نصفين، والمقدم والتاجر ينظرونه، وقال للمقدم: لا تَخَفْ يا عمي. فقال له: يا ولدي، أنا بقيت صبيك. فقام التاجر واحتضنه وقبَّله بين عينيه وأعطاه الألف دينار، وكل تاجر أعطاه عشرين دينارًا، فحطَّ جميع المال عند التاجر، وباتوا وأصبحوا عامدين إلى بغداد، فوصلوا إلى غابة الآساد ووادي الكلاب، وإذا فيه رجل بدوي عاصٍ قاطعٌ للطريق ومعه قبيلة، فطلع عليهم فولَّتِ الناس من بين أيديهم. فقال التاجر: ضاع مالي. وإذا بعلي أقبل عليهم وهو لابس جلدًا ملآن جلاجل، وأطلع المزراق وركب عُقَله في بعضها، واختلس حصانًا من خيل البدوي وركبه، وقال للبدوي: بارِزْني بالرمح! وهزَّ الجلاجل، فجفلت فرس البدوي من الجلاجل، وضرب مزراق البدوي فكسره، وضربه على رقبته فرمى دماغه. فنظره قومه فانطبقوا على علي، فقال: الله أكبر. ومال عليهم فهزمهم وولَّوْا هاربين، ثم رفع دماغ البدوي على رمح، وأنعم عليه التجار وسافروا حتى وصلوا إلى بغداد، فطلب الشاطر علي المال من التاجر فأعطاه إياه، فسلَّمَه إلى المقدم وقال له: لما تروح مصر اسأل عن قاعتي، وأعطِ المال لنقيب القاعة.
ثم بات علي وأصبح دخل المدينة، وشقَّ فيها وسأل عن قاعة أحمد الدنف، فلم يدله أحد عليها، ثم تمشَّى حتى وصل إلى ساحة النفض، فرأى أولادًا يلعبون وفيهم ولدٌ يُسمَّى أحمد اللقيط. فقال علي: لا تُأخَذ أخبارهم إلا من صغارهم. فالتفت علي فرأى حلوانيًّا، فاشترى منه حلاوة وصاح على الأولاد، وإذا بأحمد اللقيط طرد الأولاد عنه، ثم تقدَّمَ هو وقال لعلي: أي شيء تطلب؟ قال له: أنا كان معي ولد ومات، فرأيته في المنام يطلب حلاوة فاشتريتها، فأريد أن أعطي لكل ولد قطعة، وأعطى أحمد اللقيط قطعة، فنظرها فرأى فيها دينارًا لاصقًا بها، فقال له: رح أنا ما عندي فاحشة واسأل عني. فقال له: يا ولدي، ما يأخذ الكرى إلا شاطر، ولا يحط الكرى إلا شاطر، أنا درتُ في البلد أفتش على قاعة أحمد الدنف فلم يدلني عليها أحد، وهذا الدينار كراك وتدلني على قاعة أحمد الدنف. فقال له: أنا أروح أجري قدامك، وأنت تجري ورائي إلى أن أقبل على القاعة، فآخذ في رجلي حصوة، فأرميها على الباب فتعرفها. فجرى الولد وجرى علي وراءه، إلى أن أخذ الحصوة برجله ورماها على باب القاعة فعرفها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.