فلما كانت الليلة ٧١٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن النقيب لما فتح القاعة لدليلة دخلت، فقال لها شومان: ما جاء بك هنا يا عجوز النحس، وقد تحزَّبْتِ أنتِ وأخوكِ زريق السماك؟ فقالت: يا مقدم، إن الحق عليَّ، وهذه رقبتي بين يديك، ولكن الفتى الذي عمل معي هذا المنصف مَن هو منكم؟ فقال أحمد الدنف: هو أول صبياني. فقالت له: أنت سياق الله عليه أنه يجيء لي بحمام الرسائل وغيره، وتجعل ذلك إنعامًا عليَّ. فقال حسن شومان: الله يقابلك بالجزاء يا علي، لأي شيء طبختَ ذلك الحمام؟ فقال علي: ليس عندي خبر أنه حمام الرسائل. ثم قال أحمد: يا نقيب هات نائبها. فأعطاها فأخذت قطعة من حمامة ومضغتها، فقالت: هذا ما هو لحم طير الرسائل، فإني أعلفه حب المسك، ويبقى لحمه كالمسك. فقال لها شومان: إن كان مرادك أن تأخذي حمام الرسائل، فاقضي حاجة علي المصري. فقالت: أي شيء حاجته؟ فقال لها: أن تزوِّجيه بنتك زينب. فقالت: أنا ما أحكم عليها إلا بالمعروف. فقال حسن لعلي المصري: أَعْطِها الحمام. فأعطاه إياه، فأخذته وفرحت به، فقال شومان: لا بد أن تروي علينا جوابًا كافيًا. فقالت: إن كان مراده أن يتزوَّج بها، فهذا المنصف الذي عمله هو شطارة، وما الشطارة إلا أن يخطبها من خالها المقدم زريق، فإنه وكيلها الذي ينادي: يا رطل سمك بجديدين. وقد علق في دكانه كيسًا حطَّ فيه من الذهب ألفَيْن. فعندما سمعوها تقول ذلك قاموا وقالوا: ما هذا الكلام يا عاهرة، إنما أردتِ أن تعدمينا أخانا عليًّا المصري. ثم إنها راحت من عندهم إلى الخان، فقالت لبنتها: قد خطبك مني علي المصري. ففرحت لأنها أحَبَّتْه لعفته عنها، وسألتها عمَّا جرى، فحكت لها ما وقع وقالت: شرطتُ عليه أن يخطبك من خالك وأوقعته في الهلاك.
وأما علي المصري فإنه التفت إليهم، وقال: ما شأن زريق؟ وأي شيء يكون هو؟ فقالوا: هو رئيس فتيان أرض العراق، يكاد أن ينقب الجبل ويتناول النجم، ويأخذ الكحل من العين، وهو في هذا الأمر ليس له نظير، ولكنه تاب عن ذلك، وفتح دكان سماك، فجمع من السمك ألفَيْ دينار ووضعها في كيس وربط في الكيس قيطانًا من حرير، ووضع في القيطان جلاجل وأجراسًا من نحاس، وربطه في وتد من داخل باب الدكان متصلًا بالكيس، وكلما يفتح الدكان يعلق الكيس وينادي: أين أنتم يا شطار مصر ويا فتيان العراق ويا مَهَرة بلاد العجم؟ زريق السماك علَّقَ كيسًا على وجه الدكان، كلُّ مَن يدَّعِي الشطارة ويأخذه بحيلة، فإنه يكون له. فتأتي الفتيان أهل الطمع، ويريدون أنهم يأخذونه فلم يقدروا؛ لأنه واضع تحت رجليه أرغفة من رصاص وهو يقلي ويوقد النار، فإذا جاء الطماع ليساهيه ويأخذه يضربه برغيف من رصاص فيتلفه أو يقتله، فيا علي، إذا تعرَّضْتَ له تكون كمَن يلطم في الجنازة، ولا يعرف مَن مات، فما لك قدرة على مقارعته، فإنه يُخشَى عليك منه، ولا حاجةَ لك بزواجك زينب، ومَن ترك شيئًا عاش بلاه. فقال: هذا عيب يا رجال؛ فلا بد لي من أخذ الكيس، ولكن هاتوا لي لبس صبية. فأحضروا له لبس صبية، فلبسه وتحنَّى وأرخى لثامًا، وذبح خروفًا وأخذ دمه، وطلع المصران ونظفه وعقده من تحتٍ وملأه بالدم، وربطه على فخذه ولبس عليه اللباس والخف، وعمل له نهدين من حواصل الطير وملأهما باللبن، وربط على بطنه بعض قماش، ووضع بينه وبين بطنه قطنًا، وتحزَّم عليه بفوطة كلها نشاء، فصار كل مَن ينظره يقول: ما أحسن هذا الكفل! وإذا بحمَّار مُقبِل فأعطاه دينارًا، وأركبه وسار به إلى جهة دكان زريق السماك، فرأى الكيس معلَّقًا، ورأى الذهب ظاهرًا منه، وكان زريق يقلي السمك، فقال: يا حمَّار، ما هذه الرائحة؟ فقال له: رائحة سمك زريق. فقال له: أنا امرأة حامل والرائحة تضرني، هات لي منه قطعة سمك. فقال الحمَّار لزريق: هل أصبحت تفوح الرائحة على النساء الحوامل؟ أنا معي زوجة الأمير حسن شر الطريق قد شمت الرائحة وهي حامل، فهات لها قطعة سمك؛ لأن الجنين تحرَّكَ في بطنها، فقال زريق: يا ستِّير، اللهم اكفنا شر هذا النهار. فأخذ قطعة سمك وأراد أن يقليها، فانطفأت النار، فدخل ليوقد النار، وكان علي المصري قاعدًا، فاتكأ على المصران فقطعه؛ فساح الدم من بين رجلَيْه، فقال: آه يا جنبي يا ظهري. فالتفت الحمَّار فرأى الدم سائحًا، فقال لها: ما لك يا سيدتي؟ فقال له وهو في صورة المرآة: قد أسقطتُ الجنين. فطلَّ زريق فرأى الدم، فهرب في الدكان وهو خائف، فقال له الحمَّار: الله ينكد عليك يا زريق، إن الصبية قد أسقطتِ الجنين، وإنك ما تقدر على زوجها، فلأي شيء أصبحت تفوح الرائحة؟ وأنا أقول لك: هات لها قطعة سمك ما ترضى. ثم أخذ الحمَّار حماره وتوجَّه إلى حال سبيله. وحين هرب زريق داخل الدكان مدَّ علي المصري يده إلى الكيس، فلما حصَّله خشخش الذهب الذي فيه وصلصلت الجلاجل والأجراس والحلق، فقال زريق: ظهر خداعك يا علق، أتعمل عليَّ منصفًا وأنت في صورة صبية؟ ولكن خذ ما جاءك. وضربه برغيفٍ من رصاص فراح خائبًا وحطَّ في غيره. فقام عليه الناس وقالوا: هل أنت سوقي وإلا مضارب؟ فإن كنت سوقيًّا فنزِّل الكيس واكف الناس شرك. فقال لهم: باسم الله على الرأس.
وأما علي فإنه راح إلى القاعة فقال له شومان: ما فعلت؟ فحكى له جميع ما وقع له، ثم قلع لبس النساء وقال: يا شومان، أحضر لي ثياب سائس. فأحضرها له فأخذها ولبسها، ثم أخذ صحنًا وخمسة دراهم، وراح لزريق السماك، فقال له: أي شيء تطلب يا أسطى؟ فأراه الدراهم في يده، فأراد زريق أن يعطي له من السمك الذي على الطبلية، فقال له: أنا ما آخذ إلا سمكًا سخنًا. فحطَّ السمك في الطاجن وأراد أن يقليه؛ فانطفأت النار، فدخل ليوقدها فمدَّ علي المصري يده ليأخذ الكيس، فحصل طرفه فخشخشت الأجراس والحلق والجلاجل، فقال له زريق: ما دخل عليَّ منصفك ولو جئتني في صورة سائس، وأنا عرفتك من قبض يدك على الفلوس والصحن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.