فلما كانت الليلة ٧٢١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير وابن الملك لما نزلا في الخان وأدخلا بضائعهما في الحواصل وأجلسا هناك غلمانهما، ثم أقاما حتى استراحا، قام الوزير يتحيل في أمر ابن الملك فقال له: قد خطر ببالي شيء وأظن أن فيه الصلاح لك إن شاء الله تعالي. فقال له: أيها الوزير الحسن التدبير، افعل ما خطر ببالك سدَّد الله رأيك. قال له الوزير: أريد أن أستكري لك دكانًا في سوق البزازين وتقعد فيها؛ لأن كل أحد من الخاص والعام يحتاج إلى السوق، وأنا أظن أنك إذا جلست في الدكان ونظر إليك الناس بالعيون، تميل إليك القلوب فتقوى على نيل المطلوب؛ لأن صورتك جميلة وتميل إليك الخواطر وتبتهج بك النواظر. فقال له: افعل ما تختار وتريد. فعند ذلك نهض الوزير من ساعته ولبس أفخر ثيابه، وكذلك ابن الملك، وأخذ في جيبه كيسًا فيه ألف دينار، ثم خرجا يمشيان في المدينة، فنظرت الناس إليهما وبُهِتوا في حُسْن ابن الملك وقالوا: سبحان مَن خلق هذا الشاب من ماء مهين، فتبارك الله أحسن الخالقين. وكثر الكلام فيه وقالوا: ما هذا بشرًا، إن هذا إلا ملك كريم. ومن الناس مَن يقول: هل سها رضوان خازن الجنان عن باب الجنة فخرج منها هذا الغلام؟ وصارت الناس تتبعهما إلى سوق القماش حتى دخلا فيه ووقفا، فتقدَّم إليهما شيخ ذو هيبة ووقار، فسلَّمَ عليهما فردَّا عليه السلام، ثم قال لهما: يا سادتي، هل لكم من حاجة نتشرَّف بقضائها؟ قال له الوزير: ومَن تكون أنت يا شيخ؟ قال: أنا عريف السوق. فقال له الوزير: اعلم يا شيخ أن هذا الشاب ولدي، وأنا أشتهي أن آخذ له دكانًا في هذا السوق، ليجلس فيها ويتعلم البيع والشراء والأخذ والعطاء، ويتخلق بأخلاق التجار. قال العريف: سمعًا وطاعة. ثم إن العريف أحضر لهما مفتاح دكان في الوقت والساعة، وأمر الدلالين أن يكنسوها، فكنسوها ونظفوها وأرسل الوزير أحضر من أجل الدكان مرتبة عالية محشوة بريش النعام وعليها سجادة صغيرة، ودائرها مزركش بالذهب الأحمر، وأحضر أيضًا مخدة وأحضر من المتاع والقماش الذي حضر معه ما يملأ الدكان.
فلما كان في اليوم الثاني، حضر الغلام وفتح الدكان وجلس على تلك المرتبة وأوقف قدامه مملوكين لابسين أحسن الملابس، وأوقف في أسفل الدكان عبدين من أحسن الحبوش، وقد أوصاه الوزير بكتمان سرِّه عن الناس ليجد بذلك الإعانة على قضاء حوائجه، ثم تركه ومضى إلى المخازن، وأوصاه أن يعرفه بجميع ما يتفق له في الدكان يومًا بيوم، فصار الغلام جالسًا في دكانه كأنه البدر في تمامه، وكانت الناس تتسامع به وبحسنه، فيأتون إليه لغير حاجة ويحضرون السوق حتى ينظروا إلى حُسْنه وجماله، وقَدِّه واعتداله، ويسبحون الله تعالى الذي خلقه وسَوَّاه. وصار ذلك السوق لا يقدر أحد أن يشقه من فرط ازدحام الخلق عليه، وصار ابن الملك يتلفت يمينًا وشمالًا وهو متحير في أمره من الناس الذين هم باهتون له، ويترجَّى أن يعمل صحبة من أحد المقربين إلى الدولة؛ لعله أن يجلب إليه ذكر ابنة الملك، فلم يجد إلى ذلك سبيلًا، وضاق صدره لذلك والوزير يمنيه في كل يوم بحصول مراده، ولم يزل على هذا الحال مدة مديدة. فبينما هو جالس في الدكان يومًا من الأيام، وإذا بامرأة عجوز عليها حشمة وهيبة ووقار، وهي لابسة ثياب الصلاح وخلفها جاريتان كأنهما قمران، فوقفت على الدكان وتأملت الغلام ساعة وقالت: سبحان مَن خلق هذه الطلعة وأتقن هذه الصنعة. ثم إنها سلمت عليه فردَّ عليها السلام وأجلسها إلى جانبه، فقالت له: من أي البلاد أنت يا مليح الوجه؟ قال لها: أنا من نواحي الهند يا أمي، وقد جئت إلى هذه المدينة على سبيل الفرجة. فقالت له: كرمتَ مِن قادمٍ. ثم قالت له: أي شيء عندك من البضائع والمتاع والقماش؟ أَرِني شيئًا مليحًا يصلح للملوك. فلما سمع كلامها قال: أتريدين المليح حتى أعرضه عليك؟ فإن عندي كل شيء يصلح لأربابه. قالت له: يا ولدي، أنا أريد شيئًا يكون غالي الثمن مليح الشكل، أغلى شيء يكون عندك. قال لها: لا بد أن تعلميني لمَن تطلبين البضاعة؛ حتى أعرض عليك مقام الطالب. قالت: صدقتَ يا ولدي، أنا اريد شيئًا لسيدتي حياة النفوس بنت الملك عبد القادر صاحب هذه الأرض وملك هذه البلاد.
فلما سمع ابن الملك كلامها، طار عقله فرحًا وخفق قلبه، فمدَّ يده إلى خلفه ولم يأمر مماليكه ولا عبيده، وأخرج صرة فيها مائة دينار ودفعها للعجوز وقال لها: هذه الصرة من أجل غسيل ثيابك. ثم مد يده إلى بقجة وأخرج منها حلة تساوي عشرة آلاف دينارٍ وأكثر، وقال: هذا من جملة ما جئت به إلى أرضكم. فلما نظرت إليها العجوز أعجبتها وقالت: بكم هذه الحلة يا كامل الأوصاف؟ فقال: بغير ثمن. فشكرته وأعادت عليه القول، فقال: والله ما آخذ لها ثمنًا بل هي هبة مني إليكِ إذا لم تقبله الملكة، ويكون ضيافة مني لكِ والحمد لله الذي جمع بيني وبينك، حتى إذا احتجت في بعض الأيام حاجة وجدتك معينة لي على قضائها. فتعجبت العجوز من حسن ذلك الكلام وكثرة كرمه وزيادة أدبه، فقالت له: ما الاسم يا سيدي؟ قال لها: أردشير. قالت: والله هذا اسم عجيب يُسمَّى به أولاد الملوك، وأنت في زيِّ بني التجار؟! قال لها: من محبة والدي إياي سمَّاني بهذا الاسم، وليس الاسم يدل على شيء.
فتعجَّبَتْ منه العجوز وقالت: يا ولدي، خذ ثمن بضاعتك. فحلف أنه لا يأخذ شيئًا، ثم قالت العجوز: يا حبيبي، اعلم أن الصدق أعظم الأشياء، وما هذا الكرم الذي أنت تصنعه معي إلا من أجل أمر، فأَعْلِمني بأمرك وضميرك لعل لك حاجة فأساعدك على قضائها. فعند ذلك حطَّ يده في يدها وعاهَدَها على الكتمان، وحدثها بحديثه كله وأخبرها بمحبته لبنت الملك، وبما هو فيه من أجلها، فهزت العجوز رأسها وقالت: هذا هو الصحيح، ولكن يا ولدي قالت العقلاء في المثل السائر: إذا أردت أن تُطاع، فاسأل عمَّا لا يُستطاع، وأنت يا ولدي اسمك تاجر، ولو كان معك مفاتيح الكنوز لا يقال لك إلا تاجر، وإذا أردتَ أن تُعطَى درجة عالية عن درجتك، فاطلب بنت قاضٍ أو بنت أمير، فلأي شيء يا ولدي ما تطلب إلا بنت ملك العصر والزمان؟ وهي بنتٌ بِكْرٌ عذراء لم تعلم شيئًا من أمور الدنيا، ولا رأت في عمرها غير قَصْرها الذي هي فيه، ومع صغر سنها فإنها عاقلة لبيبة فطنة حاذقة، ذات عقل راجح وفعل صالح ورأي قادح، وإن أباها ما رُزِق إلا هي، وهي عنده أعز من روحه، وفي كل يوم يأتي إليها ويصيح عليها. وكلُّ مَن في قصرها يخاف منها، ولا تظن يا ولدي أن أحدًا يقدر أن يكلِّمها بشيء من هذا الكلام؛ فلا سبيل إلى ذلك. والله يا ولدي إن قلبي وجوارحي تحبك، ومرادي لو كنت مقيمًا عندها، ولكن أنا أعرفك بشيء لعل الله أن يجعل فيه شفاء قلبك، وأخاطر معك بروحي ومالي حتى أقضي لك حاجتك. فقال لها: وما هو يا أمي؟ قالت له: اطلب مني بنت وزير أو بنت أمير، فإن طلبت مني ذلك فأنا أجيبك إلى سؤالك؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يصعد من الأرض إلى السماء بوثبة واحدة. فقال لها الغلام بأدب وعقل: يا أمي، أنت امرأة عاقلة تعرفين مواقع الأمور، هل الإنسان إذا وجعته رأسه يربط يده؟ قالت: لا والله يا ولدي. قال: وهكذا إن قلبي ما يطلب أحدًا سواها، ولم يقتلني غير هواها، والله إني من الهالكين إذا لم أجد لي إرشادَ معينٍ، فبالله عليك يا إمي أن ترحمي غربتي وانسكاب عَبْرتي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.