فلما كانت الليلة ٧٢٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أردشير ابن الملك قال للعجوز: بالله عليك يا أمي أن ترحمي غربتي وانسكاب عَبْرتي. قالت له: والله يا ولدي إن قلبي يتقطع من أجل كلامك هذا، وليس في يدي حيلة أفعلها. قال: أريد من إحسانك أن تحملي مني هذه الورقة وتوصليها إليها وتقبِّلي لي يدَيْها؟ فحنت عليه وقالت له: اكتب فيها ما تريد وأنا أوصلها إليها. فلما سمع ذلك كاد أن يطير من الفرح، ودعا بدواة وقرطاس وكتب إليها هذه الأبيات:
فلما فرغ من رقم الكتاب، طواه وقبَّله وأعطى العجوز إياه، ثم مدَّ يده إلى الصندوق وأخرج لها صرة أخرى فيها مائة دينار، وأعطاها إياها وقال لها: فرِّقي هذه على الجواري. فامتنعت وقالت: والله يا ولدي ما أنا معك بسبب شيء من ذلك. فشكرها وقال: لا بد من ذلك. فأخذتها منه وقبَّلت يدَيْه وانصرفت. فدخلتْ عليها وقالت: يا سيدتي، جئتك بشيء ما هو عند أهل مدينتنا، وهو من عند شاب مليح ما على وجه الأرض أحسن منه. قالت: يا دايتي، ومن أين الشاب؟ قالت: هو من نواحي الهند، أعطاني هذه الحلة المنسوجة بالذهب مرصَّعة بالدر والجوهر تساوي ملك كسرى وقيصر. فلما فتحَتْها أضاء القصر من نور تلك الحلة بسبب حُسْن صنعتها وكثرة الفصوص والجواهر التي فيها، فتعجَّب منها كلُّ مَن في القصر، وتأملتها بنت الملك فلم تجد لها قيمة ولا ثمنًا إلا خراج مُلْك أبيها عامًا كاملًا، فقالت للعجوز: يا دايتي، هل هذه الحلة من عنده أم من عند غيره؟ قالت: هي من عنده. قالت: يا دايتي، هل هذا التاجر من مدينتنا أم غريب؟ قالت: هو غريب يا سيدتي، وما نزل مدينتنا إلا عن قريب، وهو والله صاحب حشم وخدم، مليح الوجه، معتدل القَدِّ، كريم الأخلاق، واسع الصدر، ما رأيت أحسن منه إلا أنتِ. قالت بنت الملك: إن هذا الشيء عجيب، كيف تكون هذه الحلة التي لا يفي بثمنها مالٌ مع تاجر من التجار؟ وما قدر ثمنها الذي أخبرك به يا دايتي؟ فقالت العجوز: والله يا سيدتي ما أخبرني بمقدار ثمنها، وإنما قال: لا آخذ لها ثمنًا، وإنما هي هدية مني لابنة الملك، فإنها لا تصلح لأحد غيرها. وردَّ الذهب الذي أرسلتِه معي وحلف أنه لا يأخذه وقال: هو لك إن لم تقبله الملكة. قالت بنت الملك: والله ما هذا إلا سماح عظيم وكرم جزيل، وأخشى من عاقبة أمره، ربما يؤدي إلى ضرر، فلأي شيء لم تسأليه يا دايتي إنْ كان له حاجة تقضيها له؟ فقالت: يا سيدتي، سألته وقلت له: هل لك حاجة؟ فقال لي حاجة، ولم يُطْلِعني عليها، إلا أنه قد أعطاني هذه الورقة وقال لي: قدِّميها للملكة. فأخذتها منها وفتحتها وقرأتها إلى آخرها، فتغيَّرَ حالها، وغاب صوابها، واصفرَّ لونها، وقالت للعجوز: ويلك يا دايتي، ما يقال لهذا الكلب الذي يقول هذا الكلام لبنت الملك؟ وما المناسبة بيني وبين هذا الكلب حتى يكاتبني؟ والله العظيم رب زمزم والحطيم، لولا أني أخاف الله تعالى لأبعثن إلى هذا الكلب بتكتيف يديه، وشرم مناخيره، وقطع أنفه وأذنه، وأمثِّل به، وبعد هذا أصلبه على باب السوق الذي فيه دكانه. فلما سمعت العجوز الكلام، اصفرَّ لونها، وارتعدت فرائصها، وانعقد لسانها، ثم قوَّت قلبها وقالت: خيرًا يا سيدتي، وما في الورقة حتى أزعجك؟ هل هو غير قصة رفعها إليك تتضمَّن شكاية حاله من فقر أو ظلم يرجو بها إحسانك إليه أو كشف ظلامته؟ قالت: لا والله يا دايتي، بل هو شِعْر وكلام مستهجن، ولكن يا دايتي هذا الكلب ما يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون مجنونًا ليس عنده عقل، وإما أن يكون قاصدًا قتل نفسه أو مستعينًا على مراده مني بذي قوة شديدة وسلطان عظيم، وإما أن يكون سمع بأني من بغايا هذه المدينة التي تبيت عند مَن يطلبها ليلةً أو ليلتين، حتى يراسلني بالأشعار المستهجنة ليفسد عقلي بذلك الأمر. قالت لها العجوز: والله يا سيدتي، لقد صدقت، ولكن لا تعتني بهذا الكلب الجاهل، فأنتِ قاعدة في قصرك العالي المشيد المنيع الذي لا تعلوه الطيور ولا يمر عليه الهواء وهو حائر، ولكن اكتبي له كتابًا ووبِّخيه فيه ولا تتركي له شيئًا من أنواع التوبيخ، وهدِّديه غاية التهديد، واعرضي عليه الموت وقولي له: من أين تعرفني حتى تكاتبني يا كلب التجار؟ يا مَن هو طول دهره مشتَّت في البراري والقفار على درهم يكتسبه أو دينار، والله إن لم تنتبه من رقدتك وتصحُ من سكرتك، لَأصلبنك على باب السوق الذي فيه دكانك. قالت بنت الملك: إني أخاف إن كاتبته أن يطمع. قالت العجوز: وما مقداره؟ وما درجته حتى يطمع فينا؟ وإنما نكتب له لأجل أن ينقطع طمعه ويكثر خوفه. ولم تزل تتحيَّل على بنت الملك حتى أحضرت دواة وقرطاسًا وكتبت إليه هذه الأبيات:
ثم طوت الكتاب وأعطت العجوز إياه، فأخذته وسارت إلى أن وصلت إلى دكان الغلام فأعطته إياه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.