فلما كانت الليلة ٥٥٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري صار ينقل من تلك المغارة ما يلقاه فيها من المصاغ وغيره، ويجلس على جانب البحر مدةً من الزمان، قال: فبينما أنا جالس يومًا من الأيام على جانب البحر وأنا متفكرٌ في أمري، وإذا بمركب جائز في وسط البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، فأخذت في يدي ثوبًا أبيض من ثياب الموتى، وربطته في عكاز، وجريت به على شاطئ البحر، وصرت أشير إليهم بذلك الثوب حتى لاحت منهم التفاتة، فرأوني وأنا في رأس الجبل، فجاءوا إليَّ وسمعوا صوتي، وأرسلوا إليَّ زورقًا من عندهم وفيه جماعة من المركب، فلما قربوا مني قالوا: مَن أنت؟ وما سبب جلوسك في هذا المكان؟ وكيف وصلت إلى هذا الجبل؟ وما في عمرنا رأينا أحدًا جاء إليه. فقلت لهم: إني رجل تاجر، غرقت المركب التي كنت فيها، فطلعت على لوح ومعي حوائجي، وقد سهَّلَ الله عليَّ بالطلوع إلى هذا المكان وحوائجي معي باجتهادي وشطارتي بعد تعب شديد. فأخذوني معهم في الزورق وحملوا جميع ما كنتُ أخذته من المغارة مربوطًا في الثياب والأكفان، وساروا بي إلى أن طلعوني المركب عند الريس ومعي حوائجي؛ فقال لي الريس: يا رجل، كيف وصولك إلى هذا المكان وهو جبل عظيم ووراءه مدينة عظيمة، وأنا عمري أسافر في هذا البحر وأجوز على هذا الجبل، فلم أرَ أحدًا فيه غير الوحوش والطيور؟ فقلت له: إني رجل تاجر، كنت في مركب كبيرة وقد انكسرت وغرق جميع أسبابي من هذا القماش والثياب كما تراها، فوضعتها على لوح كبير من ألواح المركب، فساعدتني القدرة والنصيب حتى طلعت على الجبل، وقد صرت أنتظر أحدًا يجوز فيأخذني معه. ولم أخبرهم بما جرى لي في المدينة ولا في المغارة؛ خوفًا أن يكون معهم أحد في المركب من تلك المدينة.
ثم إني طلعت لصاحب المركب شيئًا كثيرًا من مالي وقلت له: يا سيدي، أنت سبب نجاتي من هذا الجبل، فخذ هذا مني نظير جميلك الذي فعلته معي. فلم يقبله مني وقال لي: نحن لا نأخذ من أحد شيئًا، وإذا رأينا غريقًا على جانب البحر أو في الجزيرة نحمله معنا ونُطعِمه ونسقيه، وإنْ كان عريانًا نكسوه، ولما نصل إلى بندر السلامة نعطيه شيئًا من عندنا هديةً، ونعمل معه المعروف والجميل لوجه الله تعالى. فعند ذلك دعوت له بطول العمر. ولم نزل مسافرين من جزيرة إلى جزيرة، ومن بحر إلى بحر، وأنا أرجو النجاة، وصرت فرحانًا بسلامتي، وكلما أتفكر قعودي في المغارة مع زوجتي يغيب عقلي، وقد وصلنا بقدرة الله مع السلامة إلى مدينة البصرة، فطلعت إليها وأقمت فيها أيامًا قلائل، وبعدها جئتُ إلى مدينة بغداد، فجئت إلى حارتي ودخلت داري، وقابلت أهلي وأصحابي، وسألت عنهم؛ ففرحوا بسلامتي وهنوني، وقد خزنت جميع ما كان معي من الأمتعة في حواصلي، وتصدَّقْتُ ووهبتُ وكسوتُ الأيتام والأرامل، وصرت في غاية البسط والسرور، وقد عدت لما كنت عليه من المعاشرة والمرافقة، ومصاحبة الإخوان، واللهو والطرب، وهذا أعجب ما صار لي في السفرة الرابعة، ولكن يا أخي تعشى عندي، وخذ عادتك، وفي غدٍ تجيء عندي فأخبرك بما كان لي وما جرى لي في السفرة الخامسة؛ فإنها أعجب وأغرب مما سبق.
ثم أمر له بمائة مثقالٍ ذهبًا، ومدَّ السماط، وتعشى الجماعة، وانصرفوا إلى حال سبيلهم، وهم متعجبون غاية العجب، وكل حكاية أعظم من التي قبلها، وقد راح السندباد الحمال إلى منزله، وبات في غاية البسط والانشراح وهو متعجب، ولما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، قام السندباد البري وصلى الصبح، وتمشَّى إلى أن دخل دار السندباد البحري وصبَّح عليه، فرحَّب به وأمره بالجلوس عنده حتى جاء بقية أصحابه، فأكلوا وشربوا، وتلذذوا وطربوا، ودارت بينهم المحادثة، فابتدأ السندباد البحري بالكلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.