فلما كانت الليلة ٥٣٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد الحمَّال لما قبَّل الأرض بين أيديهم، وقف وهو منكس الرأس متخشِّع، فأَذِن له صاحب المكان بالجلوس، فجلس وقد قرَّبَه إليه، وصار يُؤانِسه بالكلام، ويرحِّب به، ثم إنه قدَّمَ له شيئًا من أنواع الطعام المفتخر الطيب النفيس، فتقدَّمَ السندباد الحمال، وسمَّى وأكَلَ حتى اكتفى وشبع، وقال: الحمد لله على كل حال. ثم إنه غسل يدَيْه، وشكرهم على ذلك، فقال صاحب المكان: مرحبًا بك، ونهارك مبارك، فما يكون اسمك؟ وما تعاني من الصنائع؟ فقال له: يا سيدي، اسمي السندباد الحمَّال، وأنا أحمل على رأسي أسباب الناس بالأجرة. فتبسَّمَ صاحبُ المكان، وقال له: اعلم يا حمَّال أن اسمك مثل اسمي، فأنا السندباد البحري، ولكن يا حمَّال قصدي أن تُسمِعني الأبيات التي كنتَ تُنْشِدها وأنت على الباب. فاستحى الحمَّال، وقال له: بالله عليك لا تؤاخذني، فإن التعب والمشقة، وقلَّة ما في اليد تُعلِّم الإنسان قلةَ الأدب والسفه. فقال له: لا تستحِ؛ فأنت صرتَ أخي، فأَنْشِدِ الأبيات، فإنها أعجبَتْني لما سمعتها منك، وأنت تنشدها على الباب. فعند ذلك أنشده الحمَّال تلك الأبيات فأعجبَتْه، وطرب لسماعها، وقال له: يا حمَّال، اعلم أنَّ لي قصة عجيبة، وسوف أخبرك بجميع ما صار لي، وما جرى لي من قبل أن أصير في هذه السعادة، وأجلس في هذا المكان الذي تراني فيه، فإني ما وصلتُ إلى هذه السعادة وهذا المكان إلا بعد تعب شديد، ومشقة عظيمة، وأهوال كثيرة، وكم قاسيتُ في الزمن الأول من التعب والنصب! وقد سافرت سبع سفرات، وكل سفرة لها حكاية عجيبة تُحيِّر الفكر، وكل ذلك بالقضاء والقدر، وليس من المكتوب مفر ولا مهرب.
الحكاية الأولى وهي أول السفرات؛ اعلموا يا سادة يا كرام أنه كان لي أب تاجر، وكان من أكابر الناس والتجار، وكان عنده مال كثير، ونوال جزيل، وقد مات وأنا ولد صغير، وخلف لي مالًا وعقارًا وضياعًا، فلما كبرت وضعت يدي على الجميع، وقد أكلت أكلًا مليحًا، وشربت شربًا مليحًا، وعاشرت الشباب، وتجملت بلبس الثياب، ومشيت مع الخلان والأصحاب، واعتقدت أن ذلك يدوم لي وينفعني، ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان، ثم إني رجعت إلى عقلي، وأفقت من غفلتي، فوجدت مالي قد مال، وحالي قد حال، وقد ذهب جميع ما كان معي، ولم أستفق لنفسي إلا وأنا مرعوب مدهوش، وقد تفكَّرْتُ حكايةً كنتُ أسمعها سابقًا؛ وهي حكاية سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام في قوله: «ثلاثة خير من ثلاثة: يوم الممات خير من يوم الولادة، وكلب حي خير من سبع ميت، والقبر خير من القصر.» ثم إني قمت وجمعت ما كان عندي من آثار وملبوس وبعته، ثم بعت عقاري وجميع ما تملك يدي، فجمعت ثلاثة آلاف درهم، وقد خطر ببالي السفر إلى بلاد الناس، وتذكَّرْتُ كلامَ بعضِ الشعراء حيث قال:
فعند ذلك هممت فقمت واشتريت لي بضاعة ومتاعًا وأسبابًا وشيئًا من أغراض السفر، وقد سمحت لي نفسي بالسفر في البحر، فنزلت المركب، وانحدرت إلى مدينة البصرة مع جماعة من التجار، وسرنا في البحر مدة أيام وليالٍ، وقد مررنا بجزيرة بعد جزيرة، ومن بحر إلى بحر، ومن بر إلى بر، وفي كل مكان مررنا به نبيع ونشتري ونقايض بالبضائع فيه، وقد انطلقنا في سير البحر إلى أن وصلنا إلى جزيرةٍ كأنها روضة من رياض الجنة، فأرسى بنا صاحبُ المركب على تلك الجزيرة، ورمى مراسيها، ومدَّ السقالة، فنزل جميع مَن كان في المركب في تلك الجزيرة، وقد عملوا لهم كوانين، وأوقدوا فيها النار، واختلفت أشغالهم، فمنهم مَن صار يطبخ، ومنهم مَن صار يغسل، ومنهم مَن صار يتفرج، وكنت أنا من جملة المتفرجين في جوانب الجزيرة، وقد اجتمعت الركاب على أكل وشرب، ولهو ولعب؛ فبينما نحن على تلك الحالة، وإذا بصاحب المركب واقف على جانبها، وصاح بأعلى صوته: يا ركَّاب السلامة، أَسْرِعوا واطلعوا إلى المركب، وبادروا إلى الطلوع، واتركوا أسبابكم، واهربوا بأرواحكم، وفوزوا بسلامة أنفسكم من الهلاك، فإن هذه الجزيرة التي أنتم عليها ما هي جزيرة، وإنما هي سمكة كبيرة رست في وسط البحر، فبنى عليها الرمل فصارت مثل الجزيرة، وقد نبتت عليها الأشجار من قديم الزمان، فلما أوقدتم عليها النار أحَسَّتْ بالسخونة فتحرَّكَتْ، وفي هذا الوقت تنزل بكم في البحر فتغرقون جميعًا، فاطلبوا النجاةَ لأنفسكم قبل الهلاك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.