فلما كانت الليلة ٥٥٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري ابتدأ بالكلام فيما جرى له وما وقع له في الحكاية الخامسة، فقال: اعلموا يا إخواني أني لما رجعت من السفرة الرابعة، وقد غرقت في اللهو والطرب والانشراح، وقد نسيت جميع ما كنت لقيته، وما جرى لي وما قاسيته، من شدة فرحي بالمكسب والربح والفوائد، فحدَّثَتْني نفسي بالسفر، والتفرُّج في بلاد الناس وفي الجزائر، فقمت وهممت في ذلك الوقت، واشتريت بضاعةً نفيسة تناسب البحر، وحزمت الحمول، وسرت من مدينة بغداد، وتوجَّهْتُ إلى مدينة البصرة، ومشيت على جانب الساحل، فرأيت مركبًا كبيرة عالية مليحة، فأعجبتني فاشتريتها، وكانت عدتها جديدة، واكتريت لها ريسًا وبحرية، ونظرت عليها عبيدي وغلماني، وأنزلت فيها حمولي، وجاءني جماعة من التجار فنزلوا حمولهم فيها، ودفعوا إليَّ الأجرة، وسرنا ونحن في غاية الفرح والسرور، وقد استبشرنا بالسلامة والكسب، ولم نزل مسافرين من جزيرة إلى جزيرة، ومن بحر إلى بحر، ونحن نتفرج في الجزائر والبلدان، ونطلع إليها نبيع فيها ونشتري.
ولم نزل على هذه الحالة إلى أن وصلنا يومًا من الأيام إلى جزيرة خالية من السكان، وليس فيها أحد، وهي خراب قفرًا، وفيها قبة عظيمة بيضاء كبيرة الحجم، فطلعنا نتفرج عليها، وإذا هي بيضة رخ كبيرة، فلما طلع التجار إليها وتفرجوا عليها، ولم يعلموا أنها بيضة رخ، ضربوها بالحجارة فكُسِرت، ونزل منها ماء كثير، وقد بان منها فرخ الرخ، فسحبوه منها وطلعوه من تلك البيضة وذبحوه، وأخذوا منه لحمًا كثيرًا، وأنا في المركب ولم أعلم، ولم يُطلِعوني على ما فعلوه، فعند ذلك قال لي واحد من الركاب: يا سيدي، قم تفرَّج على هذه البيضة التي نحسبها قبة. فقمت لأتفرج عليها، فوجدت التجار يضربون البيضة، فصحت عليهم: لا تفعلوا هذا الفعل، فيطلع طير الرخ ويكسر مركبنا ويُهلِكنا. فلم يسمعوا كلامي، فبينما هم على هذه الحالة، وإذا بالشمس قد غابت عنا، والنهار أظلم، وصار فوقنا غمامة أظلم الجو منها، فرفعنا رءوسنا لننظر ما الذي حال بيننا وبين الشمس؟ فرأينا أجنحة الرخ هي التي حجبَتْ عنَّا ضوء الشمس حتى أظلم الجو؛ وذلك لما جاء الرخ ورأى بيضته انكسرت، صاح علينا، فجاءت رفيقته وصارا حائمين على المركب يصرخان علينا بصوتٍ أشد من الرعد، فصحت أنا على الريس والبحرية، وقلت لهم: ادفعوا المركب، واطلبوا السلامة قبل ما نهلك. فأسرع الريس، وطلع التجار، وحلَّ المركب، وسرنا في تلك الجزيرة.
فلما رآنا الرخ سرنا في البحر، غاب عنا ساعةً من الزمان، وقد سرنا وأسرعنا في السير بالمركب نريد الخلاص منهما، والخروج من أرضهما، وإذا بهما قد تبعانا، وأقبلَا علينا، وفي رجلَيْ كلِّ واحد منهما صخرةٌ عظيمة من الجبل، فألقى الصخرة التي كانت معه علينا، فجذب الريس المركب، وقد أخطأها نزول الصخرة بشيء قليل، فنزلت في البحر تحت المركب، فقامت بنا المركب وقعدت من عِظَم وقوعها في البحر، وقد رأينا قرار البحر من شدة عزمها. ثم إن رفيقة الرخ ألقَتْ علينا الصخرة التي معها وهي أصغر من الأولى، فنزلت بالأمر المقدر على مؤخر المركب فكسرته، وطيرت الدفة عشرين قطعة، وقد غرق جميع ما كان في المركب في البحر، فصرت أحاول النجاة لحلاوة الروح، فقدر الله تعالى لي لوحًا من ألواح المركب، فشبطت فيه وركبته، وصرت أقدف عليه برجلي، والريح والموج يساعداني على السير، وكانت المركب غرقت بالقرب من جزيرة في وسط البحر، فرمتني المقادير بإذن الله تعالى إلى تلك الجزيرة، فطلعت عليها وأنا على آخر نفس، وفي حالة الموتى من شدة ما قاسيتُه من التعب والمشقة، والجوع والعطش، ثم إني انطرحت على شاطئ البحر ساعة من الزمان حتى ارتاحت نفسي، واطمأن قلبي، ثم مشيت في تلك الجزيرة فرأيتها كأنها روضة من رياض الجنة، أشجارها يانعة، وأنهارها دافقة، وطيورها مغردة، تسبح مَن له العزة والبقاء، وفي تلك الجزيرة شيء كثير من الأشجار والفواكه وأنواع الأزهار، فعند ذلك أكلتُ من الفواكه حتى شبعت، وشربت من تلك الأنهار حتى رويت، وحمدت الله تعالى على ذلك، وأثنيت عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.