فلما كانت الليلة ٥٥٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما ألقى الشيطان عن أكتافه على الأرض قال: فما صدَّقْتُ أني خلصت نفسي ونجوت من ذلك الأمر الذي كنت فيه، ثم إني خفت منه أن يقوم من سكره ويؤذيني، وأخذت صخرة عظيمة من بين الأشجار وجئت إليه، فضربته على رأسه وهو نائم، فاختلط لحمه بدمه، وقد قُتِل، فلا رحمةَ الله عليه. وبعد ذلك مشيت في الجزيرة وقد ارتاح خاطري، وجئت إلى المكان الذي كنت فيه على ساحل البحر، ولم أزل في تلك الجزيرة آكل من أثمارها، وأشرب من أنهارها مدةً من الزمان، وأنا أترقَّب مركبًا تمر عليَّ، إلى أن كنت جالسًا يومًا من الأيام متفكِّرًا فيما جرى لي، وما كان من أمري، وأقول في نفسي: يا ترى، هل يبقيني الله سالمًا، ثم أعود إلى بلادي، وأجتمع بأهلي وأصحابي؟ وإذا بمركب قد أقبلت من وسط البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، ولم تزل سائرة حتى رست على تلك الجزيرة، وطلع منها الركاب إلى الجزيرة، فمشيت إليهم، فلما نظروني أقبلوا عليَّ كلهم مُسرِعين، واجتمعوا حولي وقد سألوني عن حالي، وما سبب وصولي إلى تلك الجزيرة، فأخبرتهم بأمري، وما جرى لي، فتعجبوا من ذلك غاية العجب، وقالوا لي: إن هذا الرجل الذي ركب على أكتافك يُسمَّى شيخ البحر، وما أحد دخل تحت أعضائه وخلص منه إلا أنت، والحمد لله على سلامتك.
ثم إنهم جاءوا إليَّ بشيء من الطعام، فأكلت حتى اكتفيت، وأعطوني شيئًا من الملبوس لبسته، وسترت به عورتي، ثم أخذوني معهم في المركب وقد سرنا أيامًا وليالي، فرمتنا المقادير على مدينة عالية البناء، جميع بيوتها مطلة على البحر، وتلك المدينة يُقال لها مدينة القرود، ولما يدخل الليل يأتي الناس الذين هم ساكنون في تلك المدينة، ويخرجون من هذه الأبواب التي على البحر، ثم ينزلون في زوارق ومراكب، ويبيتون في البحر خوفًا من القرود أن تنزل عليهم في الليل من الجبال. فطلعت أتفرج في تلك المدينة، فسافرت المركب ولم أعلم، فندمتُ على طلوعي إلى تلك المدينة، وتذكَّرْتُ رفقتي وما جرى لي مع القرود أولًا وثانيًا، فقعدت أبكي وأنا حزين، فتقدَّمَ إليَّ رجل من أصحاب هذه البلد وقال لي: يا سيدي، كأنك غريب في هذه الديار؟ فقلت له: نعم، أنا غريب ومسكين، وكنت في مركب قد رست على تلك المدينة، فطلعت منه لأتفرج في المدينة، وعدت إليها فلم أرها. فقال: قُمْ وسِرْ معنا وانزل الزورق، فإنك إنْ قعدت في المدينة ليلًا أهلكَتْكَ القرود. فقلت له: سمعًا وطاعة. وقمت من وقتي وساعتي ونزلت معهم في الزورق، ودفعوه من البر حتى أبعدوه عن ساحل البحر مقدار ميل، وباتوا تلك الليلة وأنا معهم.
فلما أصبح الصباح رجعوا بالزورق إلى المدينة، وطلعوا وراح كل واحد منهم إلى شغله، ولم تزل هذه عادتهم في كل ليلة، وكل مَن تخلف منهم في المدينة بالليل، جاء إليه القرود وأهلكوه، وفي النهار تطلع القرود إلى خارج المدينة فيأكلون من أثمار البساتين، ويرقدون في الجبال إلى وقت المساء، ثم يعودون إلى المدينة. وهذه المدينة في أقصى بلاد السودان، ومن أعجب ما وقع لي من أهل هذه المدينة، أن شخصًا من الجماعة التي بتُّ معهم في الزورق قال لي: يا سيدي، أنت غريب في هذه الديار، فهل لك صنعة تشتغل فيها؟ فقلت: لا والله يا أخي، ليس لي صنعة، ولست أعرف عمل شيء، وإنما أنا رجل تاجر صاحب مال ونوال، وكان لي مركب ملكي مشحونة بأموال كثيرة وبضائع فكُسِرت في البحر، وغرق جميع ما كان فيها، وما نجوت من الغرق إلا بإذن الله، فرزقني الله بقطعة لوح ركبتها فكانت السبب في نجاتي من الغرق. فعند ذلك قام الرجل وأحضر لي مخلاة من قطن وقال لي: خذ هذه المخلاة واملأها حجارة زلط من هذه المدينة، واخرج مع جماعةٍ من أهل المدينة وأنا أرفقك بهم وأوصيهم عليك، وافعل كما يفعلون؛ فلعلك أن تعمل بشيء تستعين به على سفرك وعودك على بلادك. ثم إن ذلك الرجل أخذني وأخرجني إلى خارج المدينة، فنقيت حجارة صغارًا من الزلط، وملأت تلك المخلاة، وإذا بجماعة خارجين من المدينة فأرفقني بهم وأوصاهم عليَّ، وقال لهم: هذا رجل غريب، فخذوه معكم وعلِّموه اللقط؛ فلعله يعمل بشيء يتقوت به، ويبقى لكم الأجر والثواب. فقالوا: سمعًا وطاعة. ورحَّبوا بي وأخذوني معهم وساروا، وكل واحد منهم معه مخلاة مثل المخلاة التي معي مملوءة زلطًا.
ولم نزل سائرين إلى أن وصلنا إلى وادٍ واسع فيه أشجار كثيرة عالية لا يقدر أحد أن يطلع عليها، وفي ذلك الوادي قرود كثيرة، فلما رأتنا هذه القرود نفرت منا وطلعت تلك الأشجار، فصاروا يرجمون القرود بالحجارة التي معهم في المخالي، والقرود تقطع من ثمار تلك الأشجار، وترمي بها هؤلاء الرجال، فنظرت تلك الثمار التي ترميها القرود، وإذا هي جوز هندي، فلما رأيت ذلك العمل من القوم اخترتُ شجرةً عظيمة عليها قرود كثيرة، وجئت إليها، وصرت أرجم هذه القرود، فتقطع من ذلك الجوز وترميني به، فأجمعه كما يفعل القوم، فما فرغت الحجارة من مخلاتي حتى جمعت شيئًا كثيرًا. فلما فرغ القوم من هذا العمل لمُّوا جميع ما كان معهم، وحمل كل واحد منهم ما أطاقه، ثم عدنا إلى المدينة في باقي يومنا، فجئتُ إلى الرجل صاحبي الذي أرفقني بالجماعة وأعطيته جميع ما جمعت، وشكرت فضله، فقال لي: خذ هذا بِعْه وانتفع بثمنه. ثم أعطاني مفتاحَ مكانٍ في داره، وقال لي: ضَعْ في هذا المكان هذا الذي بقي معك من الجوز، واطلع في كل يوم مع الجماعة مثل ما طلعت هذا اليوم، والذي تجيء به ميِّزْ منه الرديء وبِعْه، وانتفِعْ بثمنه، واحفظه عندك في هذا المكان؛ فلعلك تجمع منه شيئًا يُعِينك على سفرك. فقلت له: أجرك على الله تعالى. وفعلت مثل ما قال لي، ولَمْ أزل في كل يوم أملأ المخلاة من الحجارة، وأطلع مع القوم، وأعمل مثل ما يعملون، وقد صاروا يتواصون بي، ويدلونني على الشجرة التي فيها الثمر الكثير.
ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان، وقد اجتمع عندي شيء كثير من الجوز الهندي الطيب، وبعت شيئًا كثيرًا، وكثر عندي ثمنه، وصرت أشتري كلَّ شيء رأيته ولاق بخاطري، وقد صفا وقتي، وزاد في كل المدينة حظي، ولم أزل على هذه الحالة مدة؛ فبينما أنا واقف على جانب البحر، وإذا بمركب قد وردت إلى تلك المدينة، ورست على الساحل وفيها تجار معهم بضائع، فصاروا يبيعون ويشترون، ويقايضون على شيء من الجوز الهندي وغيره، فجئتُ عند صاحبي وأعلمته بالمركب التي جاءت، وأخبرته بأني أريد السفر إلى بلادي، فقال: الرأي لك. فودَّعْتُه وشكرته على إحسانه إليَّ، ثم إني جئت عند المركب وقابلت الريس، واكتريت معه، ونزلت ما كان معي من الجوز وغيره في تلك المركب، وقد ساروا بالمركب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.