فلما كانت الليلة ٥٦٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما جهَّزَ حموله، ونزلها في المركب من مدينة البصرة وسافَرَ قال: ولم نزل مسافرين من مكان إلى مكان، ومن مدينة إلى مدينة ونحن نبيع ونشتري، ونتفرج على بلاد الناس، وقد طاب لنا السعد والسفر، واغتنمنا المعاش إلى أن كنَّا سائرين يومًا من الأيام، وإذا بريس المركب صرخ وصاح ورمى عمامته، ولطم على وجهه، ونتف لحيته، ووقع في بطن المركب من شدة الغم والقهر، فاجتمع عليه جميع التجار والركاب، وقالوا له: يا ريس، ما الخبر؟ فقال لهم الريس: اعلموا يا جماعة أننا قد تهنا بمركبنا، وخرجنا من البحر الذي كنا فيه، ودخلنا بحرًا لم نعرف طرقه، وإذا لم يقيِّض الله لنا شيئًا يخلِّصنا من هذا البحر، هلكنا بأجمعنا، فادعوا الله تعالى أن ينجينا من هذا الأمر.
ثم إن الريس قام على حيله وصعد على الصاري، وأراد أن يحل القلوع، فقوي الريح على المركب، فردَّها على مؤخرها فانكسرت دفتها قُرْبَ جبلٍ عالٍ، فنزل الريس من الصاري وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا يقدر أحد أن يمنع المقدور، والله إننا قد وقعنا في مهلكة عظيمة، ولم يَبْقَ لنا منها مخلص ولا نجاة. فبكى جميع الركاب على أنفسهم، وودَّعَ بعضهم بعضًا لفراغ أعمارهم، وانقطع رجاؤهم، ومالت المركب على ذلك الجبل فانكسرت، وتفرَّقَتْ ألواحها، فغرق جميع ما كان فيها، ووقع التجار في البحر، فمنهم مَن غرق، ومنهم مَن تمسَّكَ بذلك الجبل وطلع عليه، وكنت أنا من جملة مضن طلع على ذلك الجبل، وإذا فيه جزيرة كبيرة عندها كثير من المراكب المكسرة، وفيها أرزاق كثيرة على شاطئ البحر من الذي يطرحه من المراكب التي كُسِرت وغرق ركَّابها، وفيها شيء كثير يحيِّر العقل والفكر من المتاع والأموال التي يلقيها البحر على جوانبها؛ فعند ذلك طلعتُ على تلك الجزيرة ومشيت فيها، فرأيت في وسطها عينَ ماءٍ عذب جارٍ خارج من تحت أول ذلك الجبل، وداخل في آخِره من الجانب الثاني؛ فعند ذلك طلع الركاب على ذلك الجبل إلى آخِر الجزيرة، وانتشروا فيها، وقد ذهلت عقولهم من ذلك، وصاروا مثل المجانين من كثرة ما رأوا في الجزيرة من الأمتعة والأموال التي على ساحل البحر.
وقد رأيتُ في وسط تلك العين شيئًا كثيرًا من أصناف الجواهر والمعادن، واليواقيت واللآلئ الكبار الملوكية، وهي مثل الحصى في مجاري الماء في تلك الغيطان، وجميع أرض تلك العين تبرق من كثرة ما فيها من المعادن وغيرها. ورأينا شيئًا كثيرًا في تلك الجزيرة من أعلى العود الصيني، والعود القماري، وفي تلك الجزيرة عين نابعة من صنف العنبر الخام، وهو يسيل مثل الشمع على جانب تلك العين من شدة حر الشمس، ويمتد على ساحل البحر، فتطلع الهوايش من البحر تبلعه، وتنزل به في البحر فيحمي في بطونها، فتقذفه من أفواهها في البحر، فيجمد على وجه الماء، فعند ذلك يتغيَّر لونه وأحواله، فتقذفه الأمواج إلى جانب البحر، فيأخذه السياحون والتجار الذين يعرفونه فيبيعونه. وأما العنبر الخام الخالص من البلع، فإنه يسيل على جانب تلك العين، ويتجمد بأرضه، وإذا طلعت عليه الشمس يسيح وتبقى منه رائحة ذلك الوادي كله مثل المسك، وإذا زالت عنه الشمس يجمد. وذلك المكان الذي هو فيه هذا العنبر الخام لا يقدر أحدٌ على دخوله ولا يستطيع سلوكَه، فإن الجبل محيط بتلك الجزيرة، ولا يقدر أحد على صعود ذلك الجبل. ولم نزل دائرين في تلك الجزيرة نتفرج على ما خلق الله تعالى فيها من الأرزاق ونحن متحيِّرون في أمرنا وفيما نراه، وعندنا خوف شديد، وقد جمعنا على جانب الجزيرة شيئًا قليلًا من الزاد، فصرنا نوفره ونأكل منه في كل يوم أو يومين أكلة واحدة، ونحن خائفون أن يفرغ الزاد منَّا فنموت كمدًا من شدة الجوع والخوف، وكل مَن مات منَّا نغسِّله ونكفِّنه في ثياب وقماش من الذي يطرحه البحر على جانب الجزيرة، حتى مات منَّا خلقٌ كثير، ولم يَبْقَ منا إلا جماعة قليلة؛ فضعفنا بوجع البطن من البحر، وأقمنا مدةً قليلة، فمات جميع أصحابي ورفقائي واحدًا بعد واحد، وكلُّ مَن مات منهم ندفنه، وبقيت في تلك الجزيرة وحدي، وبقي معي زاد قليل بعد أن كان كثيرًا، فبكيت على نفسي، وقلت: يا ليتني مت قبل رفقائي، وكانوا غسَّلوني ودفنوني، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.