فلما كانت الليلة ٥٦١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما دفن رفقاءه جميعًا، وصار في الجزيرة وحده قال: ثم إني قمت مدة يسيرة، ثم قمت حفرت لنفسي حفرة عميقة في جانب تلك الجزيرة، وقلت في نفسي: إذا ضعفت وعلمت أن الموت قد أتاني، أرقد في هذا القبر فأموت فيه، ويبقى الريح يسفي الرمل عليَّ فيغطيني، وأصير مدفونًا فيه، وصرت ألوم نفسي على قلة عقلي وخروجي من بلادي ومدينتي، وسفري إلى البلاد بعد الذي قاسيتُه أولًا وثانيًا وثالثًا ورابعًا وخامسًا، ولا سفرة من الأسفار إلا وأقاسي فيها أهوالًا وشدائدَ أشقَّ وأصعبَ من الأهوال التي قبلها، وما أصدق بالنجاة والسلامة، وأتوب عن السفر في البحر، وعن عودي إليه، ولست محتاجًا لمال وعندي شيء كثير، والذي عندي لا أقدر أن أفنيه، ولا أضيع نصفه في باقي عمري، وعندي ما يكفيني وزيادة. ثم إني تفكَّرْتُ في نفسي وقلتُ: والله لا بد أن هذا النهر له أول وآخِر، ولا بد له من مكان يخرج منه إلى العمار، والرأي السديد عندي أن أعمل لي فلكًا صغيرًا على قدر ما أجلس فيه وأنزل وألقيه في هذا النهر، وأسير به، فإنْ وجدتُ خلاصًا أخلص وأنجو بإذن الله تعالى، وإن لم أجد لي مخلصًا أموت داخل هذا النهر أحسن من هذا المكان. وصرت أتحسَّر على نفسي، ثم إني قمت وسعيت فجمعت أخشابًا من تلك الجزيرة من خشب العود الصيني والقماري، وشددتها على جانب البحر بحبال من حبال المراكب التي كُسِرت، وجئت بألواح متساوية من ألواح المراكب، ووضعتها في ذلك الخشب، وجعلت ذلك الفلك على عرض ذلك النهر أو أقل من عرضه، وشددته شدًّا طيبًا مكينًا، وقد أخذت معي من تلك المعادن والجواهر والأموال واللؤلؤ الكبير الذي مثل الحصى، وغير ذلك من الذي في تلك الجزيرة، وشيئًا من العنبر الخام الخالص الطيب، ووضعته في ذلك الفلك، ووضعت فيه جميع ما جمعته من الجزيرة، وأخذت معي جميع ما كان باقيًا من الزاد. ثم إني ألقيت ذلك الفلك في هذا النهر، وجعلت له خشبتين على جنبيه مثل المجاديف، وعملت بقول بعض الشعراء:
وسرت بذلك الفلك في النهر، وأنا متفكر فيما يصير إليه أمري، ولم أزل سائرًا إلى المكان الذي يدخل فيه النهر تحت ذلك الجبل، وأدخلت الفلك في ذلك المكان وقد صرت في ظلمة شديدة تحت الجبل، ولم يزل الفلك داخلًا بي مع الماء إلى ضيق تحت الجبل، وصارت جوانب الفلك تحك في جوانب النهر، ورأسي تحكُّ في سقف النهر، ولم أقدر على أني أعود منه، وقد لُمْتُ نفسي على ما فعلته بروحي وقلت: إنْ ضاق هذا المكان على الفلك قلَّ أن يخرج منه ولا يمكن عوده، فأهلك في هذا المكان كمدًا بلا محالة. وقد انطرحت على وجهي في الفلك من ضيق النهر، ولم أزل سائرًا ولا أعلم ليلًا من نهار بسبب الظلمة التي أنا فيها تحت ذلك الجبل مع الفزع والخوف على نفسي من الهلاك. ولم أزل على هذه الحالة سائرًا في ذلك النهر وهو يتسع تارةً ويضيق أخرى، ولكن شدة الظلمة قد أتعبتني تعبًا شديدًا، فأخذتني سِنَةٌ من النوم من شدة قهري، فنمتُ على وجهي في الفلك، ولم يزل سائرًا بي وأنا نائم لا أدري بكثير ولا قليل. ثم إني استيقظت فوجدت نفسي في النور، ففتحت عيني فرأيت مكانًا واسعًا، وذلك الفلك مربوط على جزيرة، وحولي جماعة من الهنود والحبشة، فلما رأوني قمتُ نهضوا إليَّ وكلَّمُوني بلسانهم، فلم أعرف ما يقولون، وبقيت أظن أنه حلم، وأن هذا في المنام من شدة ما كنت فيه من الضيق والقهر؛ فلما كلَّموني ولم أعرف حديثهم، ولم أرد عليهم جوابًا، تقدَّمَ إليَّ رجل منهم وقال لي بلسان عربي: السلام عليكم يا أخانا، مَن تكون أنت؟ ومن أين جئت؟ وما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ ونحن أصحاب الزرع والغيطان، وجئنا لنسقي غيطاننا وزرعنا فوجدناك نائمًا في الفلك، فأمسكناه وربطناه عندنا حتى تقوم على مهلك، فأَخْبِرْنا ما سبب وصولك إلى هذا المكان؟ فقلت له: بالله عليك يا سيدي ائتني بشيء من الطعام، فإني جائع، وبعد ذلك اسألني عمَّا تريد. فأسرَعَ وأتاني بالطعام، فأكلت حتى شبعت وارتحت وسكن روعي، وازداد شبعي، ورُدَّتْ لي روحي، فحمدت الله تعالى على كل حال، وفرحت بخروجي من ذلك النهر ووصولي إليهم، وأخبرتهم بجميع ما جرى لي من أوله إلى آخِره، وما لقيته في ذلك النهار وضيقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.