فلما كانت الليلة ٥٦٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما حكى حكاية سفرته السادسة، وراح كل واحد إلى حال سبيله، بات السندباد البري في منزله، ثم صلى الصبح وجاء إلى منزل السندباد البحري وأقبل الجماعة، فلما تكاملوا ابتدأ السندباد البحري بالكلام في حكاية السفرة السابعة، وقال: اعلموا يا جماعة أني لما رجعت من السفرة السادسة، وعدت لما كنت عليه في الزمن الأول من البسط والانشراح واللهو والطرب، أقمت على تلك الحالة مدةً من الزمان، وأنا متواصل الهناء والسرور ليلًا ونهارًا، وقد حصل لي مكاسب كثيرة وفوائد عظيمة، فاشتاقَتْ نفسي إلى الفرجة في البلاد، وإلى ركوب البحر وعشرة التجار وسماع الأخبار، فهممتُ في ذلك الأمر، وقد حزمت أحمالًا بحرية من الأمتعة الفاخرة، وحملتها من مدينة بغداد إلى مدينة البصرة، فرأيتُ مركبًا محضرة للسفر وفيها جماعة من التجار العظام، فنزلت معهم واستأنست بهم، وقد سرنا بسلامة وعافية قاصدين السفر، وقد طاب لنا الريح حتى وصلنا إلى مدينةٍ تُسمَّى مدينة الصين، ونحن في غاية الفرح والسرور، نتحدَّث مع بعضنا في أمر السفر والمتجر.
فبينما نحن على هذه الحالة، وإذا بريحٍ عاصف هبَّ من مقدم المركب، ونزل علينا مطر شديد حتى ابتللنا وابتلت حمولنا، فغطَّيْنا الحمول باللباد والخيش؛ خوفًا على البضاعة من التلف بالمطر، وصرنا ندعو الله تعالى ونتضرَّع إليه في كشف ما نزل بنا مما نحن فيه، فعند ذلك قام ريس المركب وشد حزامه، وتشمر وطلع على الصاري، وصار يلتفت يمينًا وشمالًا، وبعد ذلك نظر إلى أهل المركب ولطم على وجهه، ونتف لحيته، فقلنا: يا ريس، ما الخبر؟ فقال لنا: اطلبوا من الله تعالى النجاة مما وقعنا فيه، وابكوا على أنفسكم، وودَّعوا بعضكم، واعلموا أن الريح قد غلب علينا ورمانا في آخِر بحار الدنيا. ثم إن الريس نزل من فوق الصاري وفتح صندوقه، وأخرج منه كيس قطن وفكه، وأخرج منه ترابًا مثل الرماد وبله بالماء، وصبر عليه قليلًا، ثم شمه، ثم إنه أخرج من ذلك الصندوق كتابًا صغيرًا وقرأ فيه، وقال لنا: اعلموا يا ركاب أن في هذا الكتاب أمرًا عجيبًا يدل على أن كلَّ مَن وصل إلى هذه الأرض لم يَنْجُ منها، بل يهلك؛ فإن هذه الأرض تُسمَّى إقليم الملوك، وفيها قبر سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام، وفيه حيات عظام الخلقة، هائلة المنظر، فكل مركب وصل إلى هذا الإقليم يطلع له حوت من البحر فيبتلعها بجميع ما فيها.
فلما سمعنا هذا الكلام من الريس تعجَّبْنا غاية العجب من حكايته، فلم يتم الريس كلامه لنا حتى صارت المركب ترتفع بنا عن الماء ثم تنزل، وسمعنا صرخة عظيمة مثل الرعد القاصف؛ فارتعبنا منها وصرنا كالأموات، وأيقنا بالهلاك في ذلك الوقت، وإذا بحوت قد أقبَلَ على المركب كالجبل العالي، ففزعنا منه، وقد بكينا على أنفسنا بكاءً شديدًا، وتجهَّزْنا للموت، وصرنا ننظر إلى ذلك الحوت ونتعجب من خلقته الهائلة، وإذا بحوتٍ قد أقبَلَ علينا فما رأينا أعظم منه ولا أكبر، فعند ذلك ودَّعنا بعضنا ونحن نبكي على أرواحنا، وإذا بحوتٍ ثالث قد أقبل وهو أكبر من الاثنين اللذين جاءانا قبله، فصرنا لا نعي ولا نعقل، وقد اندهشت عقولنا من شدة الخوف والفزع، ثم إن هذه الحيتان الثلاثة صاروا يدورون حول المركب، وقد أهوى الحوت الثالث ليبتلع المركب بكل ما فيها، وإذا بريحٍ عظيم ثار فقامت المركب ونزلت على شعب عظيم فانكسرت، وتفرَّقَتْ جميع الألواح، وغرقت جميع الحمول والتجار والركاب في البحر، فخلعت أنا جميع ما عليَّ من الثياب، ولم يَبْقَ عليَّ غير ثوب واحد، ثم عمتُ قليلًا فلحقت لوحًا من ألواح المركب وتعلَّقت به، ثم إني طلعت عليه وركبته وقد صارت الأمواج والأرياح تلعب بي على وجه الماء وأنا قابض على ذلك اللوح، والموج يرفعني ويحطني، وأنا في أشد ما يكون من المشقة والخوف والجوع والعطش، وصرت ألوم نفسي على ما فعلتُه، وقد تعبَتْ نفسي بعد الراحة، وقلت لروحي: يا سندباد يا بحري، أنت لم تَتُبْ وكل مرة تقاسي فيها الشدائد والتعب، ولم تتب عن سفر البحر، وإنْ تُبْتَ تكذب في التوبة، فقاسِ كلَّ ما تلقاه؛ فإنك تستحق جميع ما يحصل لك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.