فلما كانت الليلة ٥٦٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما غرق في البحر ركب لوحًا من الخشب، وقال في نفسه: أستحق جميع ما يجري لي، وكل هذا مقدورٌ عليَّ من الله تعالى حتى أرجع عمَّا أنا فيه من الطمع، وهذا الذي أقاسيه من طمعي؛ فإن عندي مالًا كثيرًا. ثم إنه قال: وقد رجعت لعقلي وقلت: إني في هذه السفرة قد تبتُ إلى الله تعالى توبةً نصوحًا عن السفر، وما بقيت عمري أذكره على لساني، ولا على بالي. ولم أزل أتضرع إلى الله تعالى وأبكي، ثم إني تذكرت في نفسي ما كنت فيه من الراحة والسرور واللهو والطرب والانشراح، ولم أزل على هذه الحال أول يوم وثاني يوم إلى أن طلعت على جزيرة عظيمة، وفيها شيء كثير من الأشجار والأنهار، فصرتُ آكل من ثمر تلك الأشجار، وأشرب من ماء تلك الأنهار حتى انتعشتُ، ورُدَّتْ لي روحي، وقويت همتي، وانشرح صدري، ثم مشيت في الجزيرة فرأيت في جانبها الثاني نهرًا عظيمًا من الماء العذب، ولكن ذلك النهر يجري جريًا قويًّا، فتذكرتُ أمر الفلك الذي كنت فيه سابقًا، وقلت في نفسي: لا بد أني أعمل لي فلكًا مثله؛ فلعلي أنجو من هذا الأمر، فإنْ نجوتُ به حصل المراد، وتبتُ إلى الله تعالى من السفر، وإن هلكتُ ارتاح قلبي من التعب والمشقة.
ثم إني قمت فجمعت أخشابًا من تلك الأشجار من خشب الصندل العال الذي لا يوجد مثله، وأنا لا أدري أي شيء هو، ولما جمعتُ تلك الأخشاب تحيَّلْتُ بأغصانٍ ونباتٍ من هذه الجزيرة، وفتلتها مثل الحبال، وشددت بها الفلك، وقلت: إنْ سلمتُ فمن الله. ثم إني نزلت في ذلك الفلك، وسرت به في ذلك النهر حتى خرجت من آخر الجزيرة، ثم بعدت عنها، ولم أزل سائرًا أول يوم وثاني يوم وثالث يوم بعد مفارقة الجزيرة وأنا نائم، ولم آكل في هذه المدة شيئًا، ولكن إذا عطشتُ شربتُ من ذلك النهر، وصرت مثل الفرخ الدايخ من شدة التعب والجوع والخوف، حتى انتهى بي الفلك إلى جبلٍ عال، والنهر داخل من تحته، فلما رأيت ذلك خفت على نفسي من الضيق الذي كنتُ فيه أول مرة في النهر السابق، وأردتُ أني أوقف الفلك وأطلع منه إلى جانب الجبل، فغلبني الماء فجذب الفلك وأنا فيه، ونزل به تحت الجبل، فلما رأيت ذلك أيقنت بالهلاك، وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولم يزل الفلك سائرًا مسافة يسيرة، ثم طلع إلى مكان واسع، وإذا هو وادٍ كبير، والماء يهدر فيه، وله دوي مثل دوي الرعد، وجريان مثل جريان الريح، فصرت قابضًا على ذلك الفلك بيدي وأنا خائف أن أقع من فوقه، والأمواج تلعب بي يمينًا وشمالًا في وسط ذلك المكان، ولم يزل الفلك منحدرًا مع الماء الجاري في ذلك الوادي وأنا لا أقدر على منعه، ولا أستطيع الدخول به في جهة البر، إلى أن رسا بي على جانب مدينة عظيمة المنظر، مليحة البناء، فيها خلق كثير، فلما رأوني وأنا في ذلك الفلك منحدرًا في وسط النهر مع التيار، رموا عليَّ الشبكة والحبال في ذلك الفلك، ثم طلعوا الفلك من ذلك النهر إلى البر وقد سقطت بينهم وأنا مثل الميت من شدة الجوع والسهر والخوف، فتلقَّاني من بين هؤلاء الجماعة رجل كبير السن وهو شيخ عظيم، ورحَّبَ بي ورمى عليَّ ثيابًا كثيرة جميلة، فسترت بها عورتي، ثم إنه أخذني وسار بي وأدخلني الحمام، وجاء لي بالأشربة المنعشة والروائح الزكية، ثم بعد خروجنا من الحمام أخذني إلى بيته وأدخلني فيه؛ ففرح بي أهل بيته، ثم أجلسني في مكان ظريف، وهيَّأ لي شيئًا من الطعام الفاخر، فأكلت حتى شبعت، وحمدت الله تعالى على نجاتي، وبعد ذلك قدَّمَ لي غلمانُه ماءً ساخنًا، فغسلت يدي، وجاءتني جواريه بمناشف من الحرير، فنشفت يدي ومسحت فمي، ثم إن الشيخ قام من وقته وأخلى لي مكانًا منفردًا وحده في جانب داره، وألزم غلمانه وجواريه بخدمتي وقضاء حاجتي وجميع مصالحي، فصاروا يتعهَّدونني، ولم أزل على هذه الحالة عنده في دار الضيافة ثلاثة أيام وأنا على أكل طيب، وشرب طيب، ورائحة طيبة، حتى رُدَّتْ لي روحي، وسكن روعي، وهدأ قلبي، وارتاحت نفسي.
فلما كان اليوم الرابع تقدَّمَ إليَّ الشيخ وقال لي: آنستنا يا ولدي، والحمد لله على سلامتك، فهل لك أن تقوم معي إلى ساحل البحر وتنزل السوق، فتبيع البضاعة وتقبض ثمنها؟ لعلك تشتري بها شيئًا تتَّجِر فيه. فسكتُّ قليلًا، وقلت في نفسي: من أين معي بضاعة، وما سبب هذا الكلام؟ ثم قال الشيخ: يا ولدي، لا تهتم ولا تتفكر، فقم بنا إلى السوق، فإن رأينا مَن يعطيك في بضاعتك ثمنًا يرضيك أقبضه لك، وإن لم يجئ فيها شيء يرضيك أحطها لك عندي في حواصلي حتى تجيء أيام البيع والشراء. فتفكَّرْتُ في أمري، وقلت لعقلي: طاوعه حتى تنظر أيَّ شيء تكون هذه البضاعة. ثم إني قلت له: سمعًا وطاعة يا عم الشيخ، والذي تفعله فيه البركة، ولا يمكن مخالفتك في شيء. ثم إني جئت معه إلى السوق، فوجدته قد فكَّ الفلك الذي جئتُ فيه وهو من خشب الصندل، وأطلق المنادي عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.