فلما كانت الليلة ٥٣٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ريس المركب لما صاح على الركاب وقال لهم: اطلبوا النجاة لأنفسكم قبل الهلاك، واتركوا الأسباب. وسمع الركَّاب كلامَ ذلك الريس، فأسرعوا وبادروا بالطلوع إلى المركب، وتركوا الأسباب، وحوائجهم، ودسوتهم، وكوانينهم، فمنهم مَن لحق المركب، ومنهم مَن لم يلحقها، وقد تحرَّكَتْ تلك الجزيرة، ونزلت إلى قرار البحر بجميع ما كان عليها، وانطبق عليها البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، وكنت أنا من جملة مَن تخلَّفَ في الجزيرة، فغرقت في البحر مع جملة مَن غرق، ولكن الله تعالى أنقذني ونجَّاني من الغرق، ورزقني بقصعة خشب كبيرة من التي كانوا يغسلون فيها، فمسكتها بيدي، وركبتها من حلاوة الروح، ورفصت في الماء برجليَّ مثل المجاديف، والأمواج تلعب بي يمينًا وشمالًا، وقد نشر الريس قلاعَ المركب، وسافَرَ بالذين طلع بهم في المركب، ولم يلتفت لمَن غرق منهم. وما زلت أنظر إلى ذلك المركب حتى خفي عن عيني، وأيقنت بالهلاك، ودخل عليَّ الليل وأنا على هذه الحالة، فمكثت على ما أنا فيه يومًا وليلة، وقد ساعدني الريح والأمواج إلى أن رست بي تحت جزيرة عالية، وفيها أشجار مطلة على البحر، فمسكت فرعًا من شجرة عالية، وتعلَّقْتُ به بعدما أشرفت على الهلاك، وتمسَّكْتُ به إلى أن طلعت إلى الجزيرة، فوجدتُ في رجليَّ خدلًا، وأثر أكل السمك في بطونهما، ولم أدرِ بذلك من شدة ما كنتُ فيه من الكرب والتعب، وقد ارتميت في الجزيرة وأنا مثل الميت، وغبت عن وجودي، وغرقت في دهشتي، ولم أزل على هذه الحالة إلى ثاني يوم، وقد طلعت الشمس عليَّ، وانتبهتُ في الجزيرة، فوجدتُ رجليَّ قد ورمتا، فصرتُ حزينًا على ما أنا فيه؛ فتارة أزحف، وتارة أحبو على ركبتيَّ. وكان في الجزيرة فواكه كثيرة، وعيون من الماء العذب، فصرت آكل من تلك الفواكه، ولم أزل على هذه الحالة مدة أيام وليالٍ، ولقد انتعشت نفسي، ورُدَّتْ لي روحي، وقويت حركتي، وصرت أتفكَّر وأمشي في جانب الجزيرة، وأتفرَّج بين الأشجار على ما خلق الله تعالى، وقد عملتُ لي عكازًا من تلك الأشجار أتوكَّأُ عليه.
ولم أزل على هذه الحالة إلى أن تمشيت يومًا من الأيام في جانب الجزيرة، فلاح لي شبح من بعيد، فظننتُ أنه وحش، أو أنه دابة من دواب البحر، فتمشيتُ إلى نحوه، ولم أَزَلْ أتفرج عليه، وإذا هو فرس عظيم المنظر، مربوط في جانب الجزيرة على شاطئ البحر، فدنوتُ منه فصرخ عليَّ صرخة عظيمة، فارتعبتُ منه، وأردتُ أن أرجع، وإذ برجل خرج من تحت الأرض، وصاح عليَّ وتبعني، وقال لي: مَن أنت؟ ومن أين جئتَ؟ وما سبب وصولك إلى هذا المكان؟ فقلت له: يا سيدي، اعلم أني رجل غريب، وكنت في مركب فغرقتُ أنا وبعض مَن كان فيها، فرزقني الله بقصعة خشب، فركبتها وعامت بي إلى أن رمتني الأمواج في هذه الجزيرة. فلما سمع كلامي أمسكني من يدي، وقال لي: امشِ معي. فسرتُ معه فنزل بي في سرداب تحت الأرض، ودخل بي إلى قاعة كبيرة تحت الأرض، وأجلسني في صدر تلك القاعة، وجاء لي بشيء من الطعام، وأنا كنتُ جائعًا، فأكلتُ حتى شبعت واكتفيت، وارتاحت نفسي، ثم إنه سألني عن حالي، وما جرى لي، فأخبرته بجميع ما كان من أمري من المبتدأ إلى المنتهى، فتعجَّبَ من قصتي، فلما فرغت من حكايتي قلت: بالله عليك يا سيدي لا تؤاخذني، فأنا قد أخبرتك بحقيقة حالي، وما جرى لي، وأنا أشتهي منك أن تخبرني مَن أنت؟ وما سبب جلوسك في هذه القاعة التي تحت الأرض؟ وما سبب ربط هذه الفرس على جانب البحر؟ فقال لي: اعلم أننا جماعة متفرِّقون في هذه الجزيرة على جوانبها، ونحن سياس الملك المهرجان، وتحت أيدينا جميع خيوله، وفي كل شهر عند القمر نأتي بالخيل الجياد، ونربطها في هذه الجزيرة من كل بكر، ونختفي في هذه القاعة تحت الأرض حتى لا يرانا أحد، فيجيء حصان من خيول البحر على رائحة تلك الخيل، ويطلع على البر، فيلتفت فلا يرى أحدًا، فيثب عليها ويقضي منها حاجته وينزل عنها، ويريد أخذها معه فلا تقدر أن تسير معه من الرباط، فيصيح عليها، ويضربها برأسه ورجليه ويصيح، فنسمع صوته، فنعلم أنه نزل عنها، فنطلع صارخين عليه، فيخاف منَّا وينزل البحر والفرس تحمل منه وتلد مهرًا أو مهرة تساوي خزنة مال، ولا يوجد لها نظير على وجه الأرض، وهذا وقت طلوع الحصان، وإن شاء الله تعالى آخذك معي إلى الملك المهرجان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.