فلما كانت الليلة ٥٦٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة عبد الملك بن مروان لما تحدَّثَ مع أعوانه وأكابر دولته، وتذكروا سيدنا سليمان وما أعطاه الله من الملك، قال: إنه وصل إلى شيء لم يصل إليه أحد، حتى إنه كان يسجن المَرَدة والشياطين في قماقم من النحاس، ويسبك عليهم الرصاص، ويختم عليهم بخاتمه، وأخبر طالب أن رجلًا نزل في مركب مع جماعة، وانحدروا إلى بلاد الهند، ولم يزالوا سائرين حتى طلع عليهم ريح، فوجَّههم ذلك الريح إلى أرض من أراضي الله تعالى، وكان ذلك في سواد الليل، فلما أشرق النهار خرج إليهم من مغارات تلك الأرض أقوام سود الألوان، عراة الأجساد، كأنهم وحوش لا يفقهون خطابًا، لهم ملك من جنسهم، وليس منهم أحد يعرف العربية غير ملكهم، فلما رأوا المركب ومَن فيها، خرج إليهم في جماعة من أصحابه فسلَّمَ عليهم، ورحَّب بهم، وسألهم عن دينهم، فأخبروه بحالهم، فقال لهم: لا بأس عليكم. وحين سألهم عن دينهم كان كلٌّ منهم على دين من الأديان، قبل ظهور الإسلام، وقبل بعث محمد ﷺ، فقال أهل المركب: نحن لا نعرف ما تقول، ولا نعرف شيئًا من هذا الدين. فقال لهم الملك: إنه لم يصل إلينا أحد من بني آدم قبلكم. ثم إنه ضيفهم بلحم الطيور والوحوش والسمك؛ لأنه ليس لهم طعام غير ذلك، ثم إن أهل المركب نزلوا يتفرجون في تلك المدينة، فوجدوا بعض الصيادين أرخى شبكةً في البحر ليصطاد سمكًا، ثم رفعها فإذا فيها قمقم من نحاس مرصص مختوم عليه بخاتم سليمان بن داود عليهما السلام، فخرج به الصياد وكسره، فخرج منه دخان أزرق التحق بعنان السماء، فسمعنا صوتًا منكرًا يقول: التوبة التوبة يا نبي الله. ثم صار من ذلك الدخان شخص هائل المنظر مهول الخلقة، يلحق رأسه الجبل، ثم غاب عن أعينهم. فأما أهل المركب فكادت تنخلع قلوبهم، وأما السودان فلم يفكروا في ذلك، فرجع رجل إلى الملك وسأله عن ذلك، فقال له: اعلم أن هذا من الجن الذين كان سليمان بن داود إذا غضب عليهم سجنهم في هذه القماقم، ورصَّص عليهم ورماهم في البحر، فإذا رمى الصياد الشبكة تطلع بهذه القماقم في غالب الأوقات، فإذا كُسِرت يخرج منها جني ويخطر بباله أن سليمان حي فيتوب، ويقول: التوبة يا نبي الله. فتعجَّبَ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان من هذا الكلام، وقال: سبحان الله، لقد أوتي سليمان ملكًا عظيمًا. وكان ممَّنْ حضر في ذلك المجلس النابغة الذبياني فقال: صدق طالب فيما أخبر به، والدليل على صدقه قول الحكيم الأول:
وكان يجعلهم في قماقم من النحاس، ويرميهم في البحر، فاستحسن أمير المؤمنين هذا الكلام وقال: والله إني لأشتهي أن أرى شيئًا من هذه القماقم. فقال له طالب بن سهل: يا أمير المؤمنين، إنك قادر على ذلك وأنت مقيم في بلادك، فأرسِلْ إلى أخيك عبد العزيز بن مروان أن يأتيك بها من بلاد الغرب، بأن يكتب إلى موسى أن يركب من بلاد الغرب إلى هذا الجبل الذي ذكرناه، ويأتيك من هذه القماقم بما تطلب، فإن البر متصل من آخِر ولايته بهذا الجبل. فاستصوب أمير المؤمنين رأيه، وقال: يا طالب، صدقتَ فيما قلته، وأريد أن تكون أنت رسولي إلى موسى بن نصر في هذا الأمر، ولك الراية البيضاء وكل ما تريده من مال أو جاه أو غير ذلك، وأنا خليفتك في أهلك. قال: حبًّا وكرامة يا أمير المؤمنين. فقال له: سِرْ على بركة الله تعالى وعونه. ثم أمر أن يكتبوا له كتابًا لأخيه عبد العزيز نائبه في مصر، وكتابًا آخَر إلى موسى نائبه في بلاد الغرب يأمره بالسير في طلب القماقم السليمانية بنفسه، ويستخلف ولده على البلاد، ويأخذ معه الأدلة، وينفق المال وَلْيستكثر من الرجال، ولا يلحقه في ذلك فترة، ولا يحتج بحجة، ثم ختم الكتابين وسلَّمهما إلى طالب بن سهل، وأمره بالسرعة، ونصب الرايات على رأسه. ثم إن الخليفة أعطاه الأموال والركاب والرجال ليكونوا أعوانًا له في طريقه، وأمر بإجراء النفقة على بيته من كل ما يحتاج إليه، وتوجه طالب يطلب مصر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.