فلما كانت الليلة ٥٦٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن طالب بن سهل سار هو وأصحابه يقطعون البلاد من الشام إلى أن دخلوا مصر، فتلقَّاه أمير مصر وأنزله عنده وأكرمه غاية الإكرام في مدة إقامته عنده، ثم بعث معه دليلًا إلى الصعيد الأعلى حتى وصلوا إلى الأمير موسى بن نصير، فلما علم به خرج إليه وتلقَّاه وفرح به، فناوَلَه الكتاب فأخذه وقرأه وفهم معناه، ووضعه على رأسه، وقال: سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين. ثم إنه اتفق رأيه على أن يحضر أرباب دولته فحضروا، فسألهم عمَّا بدا له في الكتاب، فقالوا: أيها الأمير، إنْ أردتَ مَن يدلك على طريق ذلك المكان، فعليك بالشيخ عبد الصمد بن عبد القدوس الصمودي؛ فإنه رجل عارف، وقد سافر كثيرًا، وهو خبير بالبراري والقفار والبحار وسكانها وعجائبها، والأرضين وأقطارها، فعليك به فإنه يرشدك إلى ما تريده. فأمر بإحضاره فحضر بين يديه، وإذا هو شيخ كبير قد أهرمه تداولُ السنين والأعوام، فسلَّمَ عليه الأمير موسى وقال له: يا شيخ عبد الصمد، إن مولانا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أمرنا بكذا وكذا، وأنا قليل المعرفة بتلك الأرض، وقد قيل لي إنك عارف بتلك البلاد والطرقات، فهل لك رغبة في قضاء حاجة أمير المؤمنين؟ فقال الشيخ: اعلم أيها الملك أن هذه الطريق وعرة، بعيدة الغيبة، قليلة المسالك. فقال له الأمير: كَمْ مسير مسافتها؟ فقال: مسير سنتين وأشهرٍ ذهابًا، ومثلها مجيئًا، وفيها شدائد وأهوال وغرائب وعجائب، وأنت رجل مجاهد، وبلادنا بالقرب من العدو، فربما تخرج النصارى في غيبتك، والواجب أن تستخلف في مملكتك مَن يدبرها. قال: نعم. فاستخلف ولده هارون عوضًا عنه في مملكته، وأخذ عليه عهدًا، وأمر الجنود ألَّا يخالفوه بل يطاوعوه في جميع ما يأمرهم به، فسمعوا كلامه وأطاعوه.
وكان ولده هارون عظيم البأس همامًا جليلًا، وبطلًا كميًّا، وأظهر له الشيخ عبد الصمد أن الموضع الذي فيه حاجة أمير المؤمنين مسير أربعة أشهر، وهو على ساحل البحر، وكله منازل تتصل ببعضها، وفيها عشب وعيون، وقال: قد يهون الله علينا ذلك ببركتك يا نائب أمير المؤمنين. فقال الأمير موسى: هل تعلم أن أحدًا من الملوك وَطِئ هذه الأرض قبلنا؟ قال له: نعم يا أمير المؤمنين، هذه الأرض لملك الإسكندرية داران الرومي. ثم ساروا، ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى القصر، فقال: تقدَّمْ بنا إلى هذا القصر الذي هو عبرة لمَن اعتبر. فتقدَّمَ الأمير موسى إلى القصر ومعه الشيخ عبد الصمد وخواص أصحابه حتى وصلوا إلى بابه فوجدوه مفتوحًا، وله أركان طويلة ودرجات، وفي تلك الدرجات درجتان ممتدتان، وهما من الرخام الملون الذي لم يُرَ مثله، والسقوف والحيطان منقوشة بالذهب والفضة والمعدن، وعلى الباب لوح مكتوب فيه باليوناني، فقال الشيخ عبد الصمد: هل أقرأه يا أمير؟ فقال له: تقدَّمْ واقرأ بارَكَ الله فيك، فما حصل لنا في هذا السفر إلا بركتك. فقرأه، فإذا فيه شعر وهو:
قال: فبكى الأمير موسى حتى غُشِي عليه، وقال: لا إله إلا الله الحي الباقي بلا زوال. ثم إنه دخل القصر فتحيَّر من حُسْنه وبنائه، ونظر إلى ما فيه من الصور والتماثيل، وإذا على الباب الثاني أبيات مكتوبة، فقال الأمير موسى: تقدَّمْ أيها الشيخ واقرأ. فتقدَّمَ وقرأ فإذا هي:
فبكى الأمير موسى بكاءً شديدًا، واصفرت الدنيا في وجهه، ثم قال: لقد خُلِقنا لأمر عظيم. ثم تأمَّلوا القصر فإذا هو قد خلا من السكان، وعدم الأهل والقطان، دوره موحشات، وجهاته مقفرات، وفي وسطه قبة عالية شاهقة في الهواء، وحواليها أربعمائة قبر. قال: فدَنَا الأمير موسى إلى تلك القبور، وإذا بقبر بينهم مبني بالرخام، منقوش عليه هذه الأبيات:
فبكى الأمير موسى ومَن معه، ثم دَنَا من القبة فإذا لها ثمانية أبواب من خشب الصندل، بمسامير من الذهب مكوكبة بكواكب الفضة، مرصَّعة بالمعادن من أنواع الجواهر، مكتوب على الباب الأول هذه الأبيات:
فلما سمع الأمير موسى هذه الأبيات بكى بكاءً شديدًا حتى غُشِي عليه، فلما أفاق دخل القبة فرأى فيها قبرًا طويلًا هائل المنظر، وعليه لوح من الحديد الصيني، فدَنَا منه الشيخ عبد الصمد وقرأه، فإذا فيه مكتوب: باسم الله الدائم الأبدي الأبد، باسم الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، باسم الله ذي العزة والجبروت، باسم الحي الذي لا يموت … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.