فلما كانت الليلة ٥٦٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد الصمد لما قرأ ما ذكرناه، رأى بعده مكتوبًا في اللوح: أما بعد، أيها الواصل إلى هذا المكان اعتبِرْ بما ترى من حوادث الزمان، وطوارق الحدثان، ولا تغترَّ بالدنيا وزينتها، وزورها وبهتانها، وغرورها وزخرفها؛ فإنها ملَّاقة مكَّارة غدَّارة، أمورها مستعارة، تأخذ المعار من المستعير، فهي كأضغاث النائم، وحلم الحالم، كأنها أسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، يزخرفها الشيطان للإنسان إلى الممات، فهذه صفات الدنيا فلا تثق بها، ولا تَمِلْ إليها؛ فإنها تخون مَن استند إليها، وعوَّلَ في أموره عليها، لا تقع في حبالها، ولا تتعلَّق بأذيالها، فإني ملكت أربعة آلاف حصان أحمر في دار، وتزوَّجت ألف بنت من بنات الملوك، نواهد أبكارًا كأنهن الأقمار، ورُزِقت ألف ولد كأنهم الليوث العوابس، وعشت من العمر ألف سنة منعم البال والأسرار، وجمعت من الأموال ما يعجز عنه ملوك الأقطار، وكان ظني أن النعيم يدوم لي بلا زوال، فلم أشعر حتى نزل بنا هازم اللذات، ومفرق الجماعات، وموحش المنازل، ومخرب الدور العامرات، ومفني الكبار والصغار والأطفال والولدان والأمهات، وقد تركنا في هذا القصر مطمئنين حتى نزل بنا حكم رب العالمين، ورب السموات ورب الأرضين، فأخذتنا صيحة الحق المبين، فصار يموت منَّا كلَّ يوم اثنان، حتى فني منَّا جماعة كثيرة، فلما رأيت الفناء قد خل ديارنا وقد حلَّ بنا وفي بحر المنايا أغرقنا، أحضرت كاتبًا وأمرته أن يكتب هذه الأشعار والمواعظ والاعتبارات، وقد جعلتها بالبيكار مسطَّرة على هذه الأبواب والألواح والقبور.
وقد كان لي جيش ألف ألف عنان أهل جلاد برماح وأزراد وسيوف حداد، وسواعد شداد، فأمرتهم أن يلبسوا الدروع السابغات، ويتقلدوا السيوف الباترات، ويعتقلوا الرماح الهائلات، ويركبوا الخيول الصافنات، فلما نزل بنا حكم رب العالمين، رب الأرض والسموات، قلت: يا معاشر الجنود والعساكر، هل تقدرون أن تمنعوا ما نزل بي من المَلِك القاهر؟ فعجزَتِ العساكر والجنود عن ذلك وقالوا: كيف نحارب مَن لم يحجب عنه حاجب، صاحب الباب الذي ليس له بوَّاب؟ فقلت لهم: أحضروا لي الأموال وهي ألف جب، في كل جب ألف قنطار من الذهب الأحمر، وفيها أصناف الدر والجواهر، ومثلها من الفضة البيضاء والذخائر التي يعجز عنها ملوك الأرض. ففعلوا ذلك، فلما أحضروا المال بين يدي قلت لهم: هل تقدرون أن تنقذوني بهذه الأموال كلها وتشتروا لي بها يومًا واحدًا أعيشه؟ فلم يقدروا على ذلك، وصاروا مسلمين للقضاء والقدر، وصبرت لله على القضاء والبلاء حتى أخذ روحي وأسكنني ضريحي. وإنْ سألتَ عن اسمي، فإني كوش بن شداد بن عاد الأكبر، وفي ذلك اللوح مكتوب أيضًا هذه الأبيات:
فبكى الأمير موسى حتى غُشِي عليه لما رأى من مصارع القوم. قال: فبينما هم يطوفون بنواحي القصر، ويتأملون في مجالسه ومنتزهاته، وإذا بمائدة على أربع قوائم من المرمر مكتوب عليها: قد أكل على هذه المائدة ألف مَلِك أعور، وألف مَلِك سليم العينين، كلهم فارَقُوا الدنيا، وسكنوا الأرماس والقبور. فكتب الأمير موسى ذلك كله، ثم خرج ولم يأخذ معه من القصر غير المائدة، وسار العسكر والشيخ عبد الصمد أمامهم يدلهم على الطريق، حتى مضى ذلك اليوم كله وثانيه وثالثه، وإذا هم برابية عالية، فنظروا إليها فإذا عليها فارس من نحاس، وفي رأس رمحه سنان عريض برَّاق يكاد أن يخطف البصر، مكتوب عليه: أيها الواصل إليَّ، إنْ كنتَ لا تعرف الطريقَ الموصلة إلى مدينة النحاس، فافرك كفَّ الفارس فإنه يدور، ثم يقف، فأي جهة وقف إليها فاسلكها، ولا خوفَ عليك ولا حرج؛ فإنها توصلك إلى مدينة النحاس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.