فلما كانت الليلة ٥٧٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما فرك كفَّ الفارس، دار كأنه البرق الخاطف، وتوجَّهَ إلى غير الجهة التي كانوا فيها، فتوجَّهَ القوم فيها وساروا، فإذا هي طريق حقيقة فسلكوها، ولم يزالوا سائرين يومهم وليلتهم حتى قطعوا بلادًا بعيدة. فبينما هم سائرون يومًا من الأيام، وإذا هم بعمود من الحجر الأسود وفيه شخص غائص في الأرض إلى إبطه، وله جناحان عظيمان، وأربع أيادٍ؛ يدان منها كأيدي الآدميين، ويدان كأيدي السباع فيها مخالب، وله شعر في رأسه كأنه أذناب الخيل، وله عينان كأنهما جمرتان، وله عين ثالثة في جبهته كعين الفهد يلوح منها شرر النار، وهو أسود طويل، وينادي: سبحان ربي حكم عليَّ بهذا البلاء العظيم والعذاب الأليم إلى يوم القيامة. فلما عايَنَه القوم طارت عقولهم، واندهشوا لما رأوا من صفته، وولوا هاربين، فقال الأمير موسى للشيخ عبد الصمد: ما هذا؟ قال: لا أدري ما هو. فقال: ادنُ منه وابحث عن أمره؛ فلعله يكشف عن أمره، ولعلك تطلع على خبره. فقال الشيخ عبد الصمد: أصلَحَ الله الأمير، إنَّا نخاف منه. قال: لا تخافوا، فإنه مكفوف عنكم وعن غيركم بما هو فيه. فدنا منه الشيخ عبد الصمد وقال له: أيها الشخص، ما اسمك؟ وما شأنك؟ وما الذي جعلك في هذا المكان على هذه الصورة؟ فقال له: أما أنا فإني عفريت من الجن، واسمي داهش بن الأعمش، وأنا مكفوف ها هنا، بالعظمة محبوس، بالقدرة معذَّب إلى ما شاء الله عزَّ وجل. قال الأمير موسى: يا شيخ عبد الصمد، اسأله ما سبب سجنه في هذا العمود؟ فسأله عن ذلك فقال له العفريت: إن حديثي عجيب؛ وذلك أنه كان لبعض أولاد إبليس صنم من العقيق الأحمر، وكنت موكلًا به، وكان يعبده ملك من ملوك البحر جليل القدر عظيم الخطر، يقود من عساكر الجان ألفَ ألفٍ، يضربون بين يديه بالسيوف، ويجيبون دعوته في الشدائد، وكان الجان الذين يطيعونه تحت أمري وطاعتي، يتبعون قولي إذا أمرتهم، وكانوا كلهم عصاة عن سليمان بن داود عليهما السلام، وكنت أدخل في جوف الصنم فآمرهم وأنهاهم، وكانت ابنة ذلك الملك تحت ذلك الصنم كثيرة السجود له منهمكة على عبادته، وكانت أحسن أهل زمانها؛ ذات حُسْن وجمال وبهاء وكمال، فوصفتها لسليمان عليه السلام، فأرسل إلى أبيها يقول له: زوِّجني بنتك، واكسر صنمك العقيق، واشهد أن لا إله إلا الله وأن سليمان نبي الله، فإن أنت فعلتَ ذلك كان لك ما لنا، وعليك ما علينا، وإن أنت أبيتَ أتيتك بجنودٍ لا طاقةَ لك بها، فاستعِدَّ للسؤال جوابًا، والبس للموت جلبابًا، فسوف أسير لك بجنود تملأ الفضاء، وتذرك كالأمس الذي مضى. فلما جاءه رسول سليمان عليه السلام، طغى وتجبَّرَ وتعاظم في نفسه وتكبَّر، ثم قال لوزرائه: ماذا تقولون في أمر سليمان بن داود؟ فإنه أرسل يطلب ابنتي، وأن أكسر صنمي العقيق، وأن أدخل في دينه. فقالوا: أيها الملك العظيم، هل يقدر سليمان أن يفعل بك ذلك وأنت في وسط هذا البحر العظيم؟ فإن هو سار إليك لا يقدر عليك؛ فإن مَرَدة الجن يقاتلون معك، وتستعين عليه بصنمك الذي تعبده، فإنه يُعِينك عليه وينصرك، والصواب أن تشاور ربك في ذلك — ويعنون به الصنم العقيق الأحمر — وتسمع ما يكون جوابه، فإن أشار عليك أن تقاتله فقاتله وإلا فلا. فعند ذلك سار الملك من وقته وساعته، ودخل على صنمه بعد أن قرَّب القربان، وذبح الذبائح، وخرَّ له ساجدًا، وجعل يبكي ويقول شعرًا:
ثم قال ذلك العفريت الذي نصفه في العمود للشيخ عبد الصمد ومَن حوله يسمع: فدخلت أنا في جوف الصنم من جهلي، وقلة عقلي، وعدم اهتمامي بأمر سليمان، وجعلت أقول شعرًا:
فلما سمع الملك جوابي له قوي قلبه، وعزم على حرب سليمان نبي الله عليه السلام، وعلى مقاتلته، فلما حضر رسول سليمان ضربه ضربًا وجيعًا، وردَّ عليه ردًّا شنيعًا، وأرسل يهدِّده ويقول له مع الرسول: لقد حدَّثَتْك نفسك بالأماني، أتوعدني بزور الأقوال! فإما أن تسير إليَّ وإما أن أسير إليك. ثم رجع الرسول إلى سليمان وأعلمه بجميع ما كان من أمره، وما حصل له، فلما سمع نبي الله سليمان ذلك قامت قيامته، وثارت عزيمته، وجهَّزَ عساكره من الجن والإنس والوحوش والطير والهوام، وأمر وزيره الدمرياط ملك الجن أن يجمع مَرَدة الجن من كل مكان، فجمع له من الشياطين ستمائة ألفَ ألفٍ، وأمر آصف بن برخياء أن يجمع عساكره من الإنس، فكانت عدتهم ألفَ ألفٍ أو يزيدون، وأعَدُّوا العدةَ والسلاح، وركب هو وجنوده من الجن والإنس على البساط، والطير فوق رأسه طائر، والوحوش من تحت البساط سائرة، حتى نزل بساحته وأحاط بجزيرته، وقد ملأ الأرض بالجنود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.